105 – من أحكام صلاة المرأة في الحرمين
105 – من أحكام صلاة المرأة في الحرمين pdf
من أحكام
صلاة المرأة في الحرمين
إعداد
أ.د عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
عضو الإفتاء بالقصيم
والأستاذ بكلية التربية بالزلفي جامعة المجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن أعظم ما يُنْعِم الله به على عبده المسلم أن يوفقه لاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولزومها وعدم مخالفتها، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك» ([1]).
ومما ينبغي للمسلم العاقل أن يعلمه ويكون على بينة منه أن الأعمال الصالحة تتفاوت في أجرها وثوابها، ولا سبيل لمعرفة الحسن والأحسن منها والفاضل والمفضول من الأعمال الصالحة إلا بالوقوف على ما جاء في الكتاب وصحيح السنة، مسترشدين في هذا بأقوال العلماء العاملين من سلف هذه الأمة ومن تبعهم بإحسان، فإن العمل وإن كان حسنًا يثاب فاعله، قد يكون تركه لما هو أولى وأحسن منه أعظم ثوابًا عند الله تعالى.
والمسلم الذي يبتغي بعمله الأجر والثواب من الله تعالى ينبغي أن يكون هذا الأمر منه على بال، وأن يحاول ما استطاع جاهدًا أن يعلم أحسن العملين فيعمله وإن كان خلاف ما تهوى نفسه.
والمرأة كالرجل فيما ذكرناه فلقد عنيت الشريعة بتكريمها أشد العناية، فأحست المرأة بالحياة، حيث أعطاها الإسلام عزًّا وكرامة لم تكن لها من قبل، فغدت تتمتع بحياتها وحقوقها في ظل عدل الإسلام.
ومن أهم الأمور التي عنيت بها الشريعة تجاه المرأة المسلمة أن جعلت لها أحكامًا تخصُّها في بعض جوانب العبادات ومن ذلك الصلاة.
فمع أنها كالرجل في جميع هيئات الصلاة على القول الصحيح، إذ ليس هناك دليل يخصها عن الرجل في ذلك، إلا أن هناك بعض الأحكام التي انفردت بها عن الرجل إذا زاحمته في المسجد.
ولما كان الحَرَمان الشريفان أكثر المساجد التي تهوى القلوب الصلاة فيهما كانت الحاجة ماسَّة لبيان بعض الأحكام المتعلقة بالمرأة في جانب الصلاة عند خروجها إلى الحرمين.
فمن هذه الأحكام:
أولًا: بعض ما جاء في بيان جواز حضور النساء الجماعة:
لقد جاءت النصوص الشرعية بأنه متى طلبت المرأة من زوجها أو وليها حضور الصلاة في المساجد فلا يمنعها، ومن هذه النصوص، ما رواه ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ)([2]).
وعنه – أيضًا- قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟ قَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ)([3]).
وعن عائشة رضي الله عنها: قالت: «كُنَّ نساء المؤمنات يَشْهدْنَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الفجر مُتَلفِّعات بمرُوطِهِنَّ ثم يَنْقَلِبْنَ إلى بيوتِهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس»([4]).
وفي رواية لمسلم: «ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ تَغْلِيسِ رَسُولِ اللهِ ق بِالصَّلاَةِ»([5]).
وفي رواية أخرى للبخاري: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغَلَس، فينصرِفنَ نساء المؤمنين لا يُعرَفنَ من الغلس، ولا يَعرِفَ بعضُهُنَّ بعضًا»([6]).
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)([7]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واستُدل بهذا الحديث على جواز إدخال الصبيان المساجد، وفيه نظر لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفًا في بيت يقرب من المسجد بحيث يسمع بكاؤه، وعلى جواز صلاة النساء في الجماعة مع الرجال» ([8]).
وقال النووي رحمه الله: تعليقًا على حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ)، قال: «هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد، لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهو أن لا تكون متطيبةً، ولا متزينةً، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها، وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها»([9]).
ومن خلال هذه النصوص وغيرها نقول: بأنه يجوز للمرأة المسلمة أن تصلي في المساجد عمومًا، وليس لزوجها إذا استأذنته أن يمنعها من ذلك ما دامت مستترة ولا يبدو من بدنها شيء مما يحرم نظر الأجانب إليه، فإن كانت متكشفةً قد بدا من بدنها ما يحرم على الأجانب النظر إليه، أو كانت متطيبة؛ فلا يجوز لها الخروج على هذه الحالة من بيتها، فضلًا عن خروجها إلى المساجد وصلاتها فيها، لما في ذلك من الفتنة.
وقد ثبت أن زينب الثقفية كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ؛ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ)([10]).
وفي رواية: (إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيبًا)([11]).
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن نساء الصحابة كنَّ يحضرن صلاة الفجر جماعة متلفعات بمروطهن -أي ساترات وجوههن- ما يعرفهن أحدٌ من الناس.
وثبت أن عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالت: سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: «لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فقيل لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ([12]).
فهذه النصوص تدل دلالة واضحة على أن المرأة المسلمة إذا التزمت آداب الإسلام في ملابسها، وتجنبت ما يثير الفتنة ويستميل نفوس ضعفاء الإيمان من أنواع الزينة المغرية، فلا تمنع من الصلاة في المساجد، وأنها إذا كانت على حالة تغري بها أهل الشرِّ، وتفتن مَن في قلبه ريب؛ منعت من دخول المساجد، بل تمنع من الخروج من بيتها ومن حضور المجامع العامة.
وهذه جملة من الشروط التي ينبغي على المرأة أن تراعيها عند خروجها إلى المسجد:
1- أن تؤمن الفتنة بها وعليها.
2- ألا يترتب على حضورها محذور شرعي.
3- أن تستأذن زوجها، أو ولي أمرها؛ إذنًا خاصًّا أو عامًّا.
4- ألا تزاحم الرجال في الطريق ولا في الجامع.
5- أن تخرج تَفِلَة. أي: غير متطيبة.
6- أن تخرج متحجبة غير متبرجة بزينة.
7- أن تدخل من الأبواب المخصصة للنساء عند دخول الحرمين، فيكون دخولها وخروجها منه، كما ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود وغيره.
8- أن تصلي في الأماكن التي خصصتها إدارة الجهة المشرفة على شؤون الحرمين.
9- أن تحرص على أن تكون في آخر الصفوف، فخير صفوف النساء آخرها، بخلاف الرجال، كما ورد ذلك عن رسول الله ق([13]).
ثانيًا: هل صلاة المرأة في بيتها أفضل أم في المسجد الحرام؟
كثيرًا ما يرد هذا السؤال، ولا شك أن هذا يدل على حرص السائل رجلًا أو امرأة على تحصيل الخير.
فنقول: قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36،37].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: في تفسيره لهذه الآية: «وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن، لما رواه أبو داود([14]) عن عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (صَلاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصَلاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا فِي بَيْتِهَا) ([15]).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: في تفسيره لهذه الآية أيضًا: «لما قال تعالى: (رجال)، وخصهم بالذكر دلَّ على أن النساء لا حظَّ لهنَّ في المساجد، إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتِهن أفضل.
روى أبو داود عن عَبْدِ اللهِ ابن مسعود رضي الله عنه: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (صَلاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا فِي بَيْتِهَا)([16]).
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «اعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من الصلاة في المساجد، ولو كان المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه تعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ؛ إِلَّا المسْجِدَ الْحَرامَ)، خاصٌّ بالرجال، أما النساء فصلاتهنَّ في بيوتهنَّ خير لهنَّ من الصلاة في الجماعة في المسجد»([17]).
ومن أدلة السُّنَّة الدَّالة على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ سُوَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه عَنْ عَمَّتِهِ أُمِّ حُمَيْدٍ ل امْرَأَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلاةَ مَعَكَ. قَالَ: (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلاةَ مَعِي، وَصَلاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاتِكِ فِي مَسْجِدِي). قَالَ: فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ بَيْتِهَا وَأَظْلَمِهِ فَكَانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتَّى لَقِيَتْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ([18]).
وقال الشوكاني رحمه الله: تعليقًا على حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «قال: (لا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ). أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن ذلك، لكنهن لم يعلمن، فيسألن الخروج إلى الجماعة؛ يعتقدن أن أجرهن في المساجد أكثر»([19]).
وقال سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله: في برنامج نور على الدرب: «صلاة المرأة في بيتها خيرٌ لها من صلاتها في المسجد، وإن كان يجوز لها الصلاة في المسجد، حتى ولو كان هذا المسجدُ هو المسجد الحرام، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأما قيام رمضان فإن من أهل العلم من يقول: إن الأفضل للنساء حضور القيام في المساجد؛ مستدلين لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهلَه، وصلى بهم في قيام رمضان، وبأنه روي عن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أنهما كانا يأمران رجلًا يؤُمُّ النِّساء في المسجد.
والصواب عندي والله أعلم: أن الأفضل في حق النساء أن صلاتها في بيتها أفضل مطلقًا، أي سواء كانت فريضةً أو نافلةً، إلا إذا ورد نصٌّ واضحٌ على أن صلاتها في المسجد الحرام أفضل، ولكن لو جاءت وحضرت فيرجى لها أن تنال الأجر الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ؛ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ)([20]).
أما إذا كان يترتب على حضورها فتنة؛ فلا ريب أن بقاءها في بيتها أوجب.
وما استدل به بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهله وصلى بهم في قيام رمضان، وبأنه روي عن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
فنقول كون النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أهله ليس بصريح أنه يجمعهم في المسجد الحرام أو في بيتها؟
أما ما ورد عن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم فهو ضعيفٌ، لا تقوم به الحجة.
ثالثًا: إذا صلت المرأة في أحد الحرمين فهل تقطع صلاة من مرت أمامه؟
نقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّى فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ). قُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَا بَالُ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الأَصْفَرِ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: (الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ)([21]).
فإذا مرت المرأة بين المصلي وسترتِه إن كان له سترة، أو بينَه وبين موضع سجودِه إن لم يكن له سترة، فهل تقطع الصلاة؟
نقول: هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والجمهور على عدم القطع، وإنما تنقص الأجر وهذا هو الظاهر.
وهل هذا خاص في المسجد الحرام أم هو عام في كل مكان؟
قلت: الذي يظهر أنه عام، لكن الأولى بكل حال ألَّا تمرَّ المرأة بين يدي المصلي وسترته، أما مرورها بين المأمومين فلا إشكال فيه.
رابعًا: صلاة النساء أمام الرجال في الحرمين:
صلاة الرجال خلف صفوف النساء صحيحة في قول الجمهور مع الكراهة، لكن هذا خلاف السُّنَّة، والسُّنَّة أن يتقدم الرجال وتكون صفوف النساء متأخرة، ولكن لا تبطل صلاة الرجال إذا صفوا خلف النساء؛ لأنه لا دليل على بطلان الصلاة في هذه الحال، والأصل صحتها لا سيما في أوقات الزحام والشدة.
والمسجد الحرام في هذا كغيره لعموم الأدلة، فإنها لم تفرق بينه وبين غيره، ولكن لكثرة الزحام في المسجد الحرام تأتي النساء وتصف، ويأتي رجال بعدهن فيصفون وراءهن، وهذا يصعب الاحتراز منه، وخاصة عند ازدحام الناس في الطواف.
والمطلوبُ من كل مسلم أن يتقي الله ما استطاع فيحرص على أن لا يصف خلف النساء، وتحرص النساء على أن لا تكون صفوفهن أمام الرجال، فإذا لم يكن بد من هذا فلا حرج والصلاة صحيحةٌ -إن شاء الله تعالى-، فإن المشقة تجلب التيسير كما هو مقرر عند أهل العلم.
خامسًا: حكم صلاة المرأة بمحاذاة الرجل:
هذا يقع كثيرًا في الحرمين، وقد اختلف الفقهاء في صحة الصلاة في هذه الحالة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقوف المرأة خلف صف الرجال سنة مأمور بها، ولو وقفت في صف الرجال لكان ذلك مكروهًا، وهل تبطل صلاة من يحاذيها؟
فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: تبطل، كقول أبي حنيفة، وهو اختيار أبي بكر وأبي حفص من أصحاب أحمد.
والثاني: لا تبطل، كقول مالك والشافعي، وهو قول ابن حامد والقاضي وغيرهما، مع تنازعهم في الرجل الواقف معها: هل يكون فذًّا أم لا؟ والمنصوص عن أحمد بطلان صلاة من يليها في الموقف»([22]).
والصحيح صحة الصلاة؛ لعدم وجود دليل يدل على بطلان الصلاة.
قال سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله: «الصلاة صحيحة والحمد لله، وهذا يقع كثيرًا في المسجد الحرام، والمسجد النبوي عند زحمة الناس وقت الحج، يختلط الرجال بالنساء، فالصلاة صحيحة، ولكن يجب على النساء أن يتأخرن عن الرجال، وليس لهن أن يتقدمن بين الرجال أو أمام الرجال، لكن إذا وقع ذلك بسبب الزحام، فالصلاة صحيحة، ولا يضر ذلك، والحمد لله، أما في حالة الاختيار فإنها تؤخر، يقال لها تأخري خلف الرجال»([23]).
سادسًا: حكم اقتداء المرأة وهي في شقتها بإمام أحد الحرمين:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «الصواب جواز ذلك إذا أمكنها المتابعة, بأن سمعت تكبير الإمام أو من وراءه أو شاهدتهم، وبعض الأصحاب يشترط الرؤية ولو في بعض الصلاة، ويشترط أن لا يكون بينهما طريقٌ، وهو قول ضعيف لا دليل عليه»([24]).
وسئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: عن هذه المسألة فأجاب بقوله: «إذا كانت لا ترى الإمام ولا المأمومين فالأحوط لها أن تصلي وحدها ولا تتابع الإمام»([25]).
والذي أراه في هذه المسألة أن صلاة المرأة في بيتها مقتدية بصلاة إمام أحد الحرمين صحيحة إذا لم يكن الفاصل كبيرًا، كأن تكون الشقة التي تسكن بها قريبةً من أحد الحرمين، أمَّا إن كانت تسكن في شقة بعيدة وتسمع تكبيرات الإمام وقراءته؛ فالذي أراه عدم صحة الصلاة؛ لأن الاتصال المكاني بين الإمام والمأموم شرط عند جماهير العلماء؛ ولأن الاقتداء يقتضي التبعية في الصلاة، والمكان من لوازم الصلاة، فيقتضي التبعية في المكان ضرورة، وعند اختلاف المكان تنعدم التبعية في المكان، فتنعدم التبعية في الصلاة لانعدام لازمها.
سابعًا: أفضل صفوف النساء آخرها:
إذا كان الرجال مع النساء في مكان واحد فإن آخر صفوف النساء أفضل من أولها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرَّهَا أَوَّلُها). وإنما كان كذلك لأن آخرها أبعد عن الرجال، وأولها أقرب إلى الرجال.
والمرأة كلما كانت أبعدَ عن الرجال كان ذلك أصين لها، وأحفظ لعرضها، وأبعد لها عن الميل إلى الفاحشة.
وأما إذا كان لهن مكان خاص كما يوجد الآن في الحرم فإن خيرَ صفوف النساء أولها كالرجال لزوال المحذور، ولأجل مصلحة القرب من الإمام والقبلة.
ثامنًا: تسوية صفوف النساء في الحرمين:
ما جاء في تسوية الصفوف والتحذير من الاختلاف فيها عام يدخل فيه الرجال والنساء، وظاهر النصوص الواردة في ذلك يفيد الوجوب؛ لأن فيه تهديدًا لمن يتهاون بمساواة الصف وإقامته.
ومن هذه النصوص:
ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ). ثَلاَثًا (وَاللهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ). قَالَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ»([26]).
وفي رواية: (عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ)([27]).
ويشرع في صفوف النساء ما يشرع في صفوف الرجال، من حيث تسويتها، وانتظامها، وإكمال الصف الأول فالأول منها، وسد الفرج فيها، فهن شقائق الرجال، ويؤمرن بتسوية صفوفهن كما يؤمر الرجال بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ)([28]).
فهرس الموضوعات
المقدمة
بعض ما جاء في بيان جواز حضور النساء الجماعة:
هل صلاة المرأة في بيتها أفضل أم في المسجد الحرام؟
إذا صلت المرأة في أحد الحرمين فهل تقطع صلاة من مرت أمامه؟
صلاة النساء أمام الرجال في الحرمين:
حكم صلاة المرأة بمحاذاة الرجل:
حكم اقتداء المرأة وهي في شقتها بإمام أحد الحرمين:
أفضل صفوف النساء آخرها:
تسوية صفوف النساء في الحرمين:
المحتويات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه ابن بطه في الإبانة الكبرى (97).
([2]) رواه البخاري، برقم (865).
([3]) رواه البخاري، برقم (900)، ومسلم، برقم (442).
([4]) رواه البخاري، برقم (867).
([6]) رواه البخاري، برقم (872).
([7]) رواه البخاري، برقم (707).
([10]) رواه مسلم، برقم (1024).
([11]) رواه مسلم، برقم (1025).
([12]) رواه البخاري، برقم (869)، ومسلم، برقم (445).
([14]) رواه أبو داود، برقم (570).
([15]) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (3/358).
([16]) تفسير القرطبي (12/279).
([18]) رواه أحمد، برقم (27090)، وابن خزيمة، برقم (1986)، وابن حبان، برقم (2217)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (340).
([19]) نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار (3/160).
([20]) رواه ابن ماجة، برقم (1406)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، برقم (1163).
([21]) رواه مسلم، برقم (1165).
([22]) الفتاوى الكبرى (2/325).
([23]) فتاوى نور على الدرب (12/271).
([24]) الفتاوى السعدية، ص (174).
([25]) مجلة البحوث الإسلامية (30/110).
([26]) رواه أبو داود، برقم (662)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (668).