120 – دور القرآن في حماية الناشئة
120 – دور القرآن في حماية الناشئة pdf
رسالة في
دور القرآن الكريم
في حماية الناشئة
تأليف
أ.د / عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على الهادي البشير؛ الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فكان خلقه القرآن حيث شهد له ربه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]، فصلى الله عليه وعلى آله وعلى جميع أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلقد أنزل القرآن على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون للناس حجة ومنهجاً وليكون لهم سبيلاً للنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.
إن من أكبر النعم علينا أن شرفنا الله بهذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما تمسكت به أمة إلا أفلحت في الدنيا والآخرة، والذي أنقد الله به البشرية من جميع الشرور والفتن، وخاصة في هذا الزمان الذي انتشرت فيه الفتن في كل مكان؛ من فتن الشبهات والشهوات، وفتن الأفكار المنحرفة والتوجهات الضالة التي تفسد وتهدد الأولاد والشباب.
فما على الآباء وأولياء أمور الناشئة إلا أن تبحث عن الطريق الأمثل الذي ينجي الأبناء ـ بعون الله ـ مما وقع فيه العالم من ظلمات الفتن.
وإننا على يقيم أن خير ما يحقق ذلك هو الرجوع إلى كتاب الله وإجلاله وجعله محل الصدارة في التربية والتعليم وربط الناشئة به ربطاً وثيقاً تلاوة وتدارساً وتعليماً.
ولنتذكر كل منا أن العناية بكتاب الله وحفظه وتعليمه وتعلمه من أفضل القربات إلى الله تعالى وأن أجره دائم لا ينقطع.
نسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يسلكنا في زمرة عباده الصالحين، وأن يهيأ لنا أسباب خدمة كتابه المبين ويهدي ناشئة هذه الأمة إلى صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحث على تعلم القرآن
وحفظه وتدبره والعمل به
القرآن الكريم كتاب الله يهدي للتي هي أقوم وغلى صراط مستقيم؛ قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}[الإسراء: 9].
والقرآن العظيم كما أنه كتاب هداية وإصلاح هو كذلك كتاب تربية وتهذيب، يتضمن منهاج الحياة السوية، بل لا منهج تربوياً كاملاً في مضامينه شاملاً في مقاصده كالمنهج القرآني الجليل. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منذ فجر الإسلام يربي أصحابه على القرآن العظيم؛ تلاوة وحفظاً وتدبراً وعملاً وتطبيقاً، يقول الله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة: 2].
1ـ الحث على تعلم القرآن وحفظه:
وردت الأحاديث النبوية وأقوال السلف التي تحث على تعلم القرآن وحفظه وتدبره والعمل به، منها:
روى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)([1]).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا يا رسول الله نحب ذلك. قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) ([2]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) ([3]).
وعن هارون بن عنترة عن أبيه قال: “سألت ابن عباس أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله وما جلس قوم في بيت يتعاطون فيه كتاب الله ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره” ([4]).
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر) ([5]).
2ـ واجب المسلم نحو القرآن هو تدبره والعمل بما فيه:
وتعددت الآيات القرآنية التي تدعو لتلاوة القرآن وتدبره والعمل به؛
1ـ قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 23].
وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 57].
وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
فالاستفادة من قراءة القرآن مرتبطة بتدبره، يقول أحد السلف: ” ألا ترون ـ رحمكم الله ـ إلى مولاكم الكريم كيف يحث خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبر كلامه عرف الرب عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته فألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذره مولاه الكريم ورغب فيما رغبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره كان القرآن له شفاء..” ([6]).
وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يبين لنا كيف تكون قراءة القرآن حيث يقول: ” لا تنثروه نثر الدقل([7]) ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه، حركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة “([8]).
فيه النهي عن الهذّ ([9])، وقد حثَّ الله عز وجل على القرآن وتدبره حيث يقول:{وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل: 4]، وقال في موضع آخر {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ..}[النساء: 82]”.
إن الله تعالى أمر بتدبر القرآن لمن أراد أن يقرأه، إذ التدبر اتباع لما جاء من توجيه للسلوك واتباع للفضائل، وبعد عن الرذائل.
أما قراءة القرآن بدون تدبر فهذا لا يكون فيه تأثير على صاحبه، وقد بين أحد السلف – رضوان الله عليه – حال مثل هؤلاء بقوله: “إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفاً، وقد والله أسقطه في نفس واحد، والله ما هؤلاء بالقرّاء ولا الحكماء ولا الورعة”([10]).
لكي يرتبط المسلم بكتاب الله ربه دائماً ويتمثله في حياته، يلزمه أُناء قراءته الوعي لما يقرأ، وتدبره على أن توجيهات حية تنزل عليه في تلك اللحظة لتعالج المسائل التي تواجهه، ولتنير له الطريق إلى المستقبل، لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل ولا على أنه سجل لحقائق مضت ولن تعود.
فلابد لكل فرد مسلم أن يأتي إلى القرآن بقلب مخلص يخشى ويحذر أن يكون على ضلالة، عندئذ يفتتح القرآن عن أسراره وأنواره التي تشده في كل لحظة إلى الارتباط به والاطلاع عليه([11]).
إن المسلم الحقيقي هو الذي يعتصم بالقرآن علماً وحالاً وتلاوة وسمعاً باطناً وظاهراً كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما قال: “فالمعتصمون بع علماً وحالاً وتلاوة وسمعاً باطناً وظاهراً هم المسلمون حقاً”([12]).
وأمراض القلب تجمعها أمراض الشبهات والشهوات، والأفكار المنحرفة والتوجهات الضالة، والقرآن شفاء وحماية لها، ففيه بينات وبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، وبين الطريق السوي من الطريق المعوج، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، فمن درس القرآن وخالط قلبه وعمل به أبصر الحق والباطل، وميز بينهما كما ميز بين الليل والنهار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (…إن هذا القرآن حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوّم…) ([13]).
مسؤولية الأبوين تجاه أبنائهم وبناتهم
وذلك بحثهم على تعلم القرآن وتطبيقه
إن على الوالدين مسؤولية كبيرة تجاه أبنائهم وبناتهم وهي مسؤولية تعليمهم القرآن أو بحثهم على تعلم القرآن وتطبيقه في الحياة اليومية.
لقد كان دأب الصحابة رضوان الله عليهم يحثون أبنائهم على تعلم القرآن وتطبيقه في أنفسهم وفي أولادهم، وهم أكرم الأجيال وأفضلها، يحفظون القرآن ويحفظونه أولادهم تلقياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلواتهم وغيرها حتى كان حفظ القرآن وتلاوته وتلقيه جزءًا من حياتهم اليومية.
أخرج الطبراني وابن النجار عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل البيت، وتلاوة القرآن) ([14]).
وروى الحاكم بسند ضعيف عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ختم سورة البقرة بآيتين، وأعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبنائكم فإنها صلاة وقرآن ودعاء)([15]).
وكان من حرص الصحابة رضوان الله عليهم في توجيه أبنائهم دقة الملاحظة في مراقبة أفعال أبنائهم مع القرآن، وحكاية ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم للتعرف على ما ينفع أبنائهم: أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً جاء بابن له فقال: يا رسول الله ! إن ابني يقرأ المصحف بالنهار ويبيت الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تنقم إن ابنك يظل ذاكراً ويبيت سالماً) ([16]).
ونرى نصح الصحابة للناس بهذا القرآن وتنشئة أبنائهم على حبه وتلاوته، فقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره؛ أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى، قال: اقرأ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك، وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن ينجيه من عذاب النار، وينجو بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي) ([17]).
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: “عليكم بالقرآن فتعلموه وعلموه أبنائكم فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظاً لمن عقل”([18]).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم ولا ينأى عنه كبيركم، فإن الشيطان يفر من البيت يسمع فيه سورة البقرة”([19]).
ومما يجب أن يهتم به الوالدان هو ترسيخ معاني القرآن في الأبناء، وربطهم بالقرآن تبني في أنفسهم العقيدة الإسلامية، وتعليم الأبناء التحاكم إلى القرآن يبني فيهم العقلية الإسلامية التي تساعدهم على معرفة الحق من الباطل والكفر والإيمان، وتحميهم من الأفكار المنحرفة والتوجهات الضالة.
على سبيل المثال: نظرية فرويد أن أصل الإنسان قرد تعاكس ما جاء في القرآن أن الله تعالى خلق آدم في الجنة، ثم أهبطه إلى الأرض، فالإيمان بما أخبر القرآن يمثل عقيدة، ومحاكمة نظرية فرويد وفق القرآن يمثل بناء العقلية الإسلامية في الأبناء.
“وينبغي لولي الصغير والصغيرة أن يبدأ بتعليمهما القرآن منذ الصغر وذلك ليتوجها إلى اعتقاد أن الله تعالى هو ربهم، وأن هذا كلامه تعالى، وتسري روح القرآن في قلوبهم، ونوره في أفكارهم ومداركهم وحواسهم، وليتلقيا عقائد القرآن منذ الصغر، وأن ينشئا ويشبَّا على محبة القرآن والتعلق به، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والتخلق بأخلاقه، والسير على منهجه.
قال الحافظ السيوطي رحمه الله: “تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول شعائر الإسلام؛ فينشؤون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها؛ وسوادها بأكدار المعصية والضلال”([20]).
وأكد ابن خلدون رحمه الله هذا المفهوم بقوله: “تعليم الوالدين للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من المهلكات”([21]).
ونورد هنا أقوال السلف الصالح التي تحث على تعليم الأبناء القرآن الكريم ليقتدي بها الآباء والأمهات.
1ـ أقوال السلف الصالح بتعليم الأولاد القرآن الكريم([22]):
عن عبد الله بن عيسى رحمه الله قال: “لا تزال هذه الأمة بخير ما تعلم ولدانها القرآن”.
وعن ثابت بن العجلان رحمه الله قال: “إن الله عز وجل ليريد أهل الأرض العذاب فإذا سمع صوت الصبيان يتعلمون الحكمة صرفه عنهم، قال مروان: الحكمة القرآن”.
عن الضحاك بن قيس رحمه الله قال: أيها الناس! علموا أهاليكم القرآن فإنه من كتب الله عز وجل من مسلم أن يدخل الجنة من ذكر أو أنثى أتاه ملكان فاكتنفاه فقالا له: اقرأ وارتق في درج الجنة حتى ينزلاه حيث بلغ علمه من القرآن.
وقال سعد بن العاص رضي الله عنه: “كان عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين”: إذا علَّمت ولدك القرآن وحججته وزوّجته، فقد قضيت حقه، وبقي حقي عليه”.
2ـ أجر الوالدين في تعليم الأولاد القرآن الكريم:
إن الله تعالى وعد للوالدين يوم القيامة أجراً نتيجة تعلم أبنائهم القرآن الكريم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به أُلبس والده يوم القيامة تاجاً من نور، ضوئه مثل الشمس، ويكسى والده حلتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسبنا هذا؟
فيقال: بأخذ ولدكما القرآن)([23]).
وروى الدارمي في سننه – بسند حسن – عن وهب الذماري رحمه الله قال: “فإذا كان يوم القيامة قيل: أين الذي كانوا يتلون كتابي، لم يلههم اتباع الأنعام، فيعطى الخلد والنعيم، فإذا كان أبواه ماتا على الطاعة جعل على رؤوسهما تاج الملك فيقولان: ما بلغت هذا أعمالنا؟ فيقول: بلى! إن ابنكما كان يتلو كتابي”([24]).
3ـ نماذج من حفظة القرآن من الأطفال:
هذه نماذج نضعها بيدي الوالدين لتكون وسيلة في استنهاض الهمم، وشحن النفوس، نحو الاهتمام بحفظ كتاب الله، ولتكون أداة فعالة في تنشيط العقول وتحريكها للتغذي بها المنهل العذب:
* يقول الشافعي رحمه الله: “حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر”([25]).
* ويقول سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: ” فمضيت إلى الكتَّاب فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست أو سبع سنين”([26]).
* وأما الإمام النووي رحمه الله فيقول الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي عنه: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل في البيع والشراء عن القرآن، فأتيت معلمه فوصيت به، وقلت له: إنه يرجى أن يكون أعلم زمانه وأزهدهم وينتفع به الناس، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا ، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالديه فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم([27]).
* والآن مع ابن سبعة عشرة عاماً حفظ القراءات السبع: ذكر الدكتور عبد الحي الفرماوي في مقدمة تحقيقه لكتاب منجد المقرئين ومرشد الطالبين، تأليف محمد بن الجزري، عن حياة المؤلف:
“يحدثنا التاريخ أن أباه كان تاجراً، وقد حرص بعد أن استجاب الله لدعائه على تربية ابنه تربية دينية، وعلى تنشئته نشأة صالحة، ولذا نشأ ابن الجزري في بيت يقدر العلم وأهله مما ساعده على أن يتم حفظ القرآن، وله من العمر ثلاثة عشر عاماً، وأن يسمع الحديث، ويفرد القراءات على أعلام بلاد الشام بالقراءات، وهو الشيخ ابن اللبان كان ذلك وهو لم يزل في عامه السابع عشر([28]).
* وفي عصرنا الحاضر يحدثنا العلامة محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله ابن محمد يحيى الكنادهلوي الذي ذكر عن والده فيقول: “كان رحمه الله تعالى حفظ ربع الجزء الثلاثين من القرآن عند فطامه، وحفظ سائر القرآن إذ كان عمره سبع سنين، وكان والده قدس سره قد أمر بعد فراغه من حفظ القرآن قبل شروعه في الكتب العربية أن يقرأ كل يوم القرآن المجيد مرة واحدة، فكان يبتدئ من بعد الفجر ويختم قبل الظهر، وتسلسل عمله ذاك إلى ستة أشهر([29]).
هذا ولئن كانت الناشئة عماد الأمة وأمل المستقبل فحري أن تنشأ على كلام الله جل ذكره الهاجس الأكبر للولد يقرؤه ويردده غدواً وعشياً في الخلوة والجلوة، يتلوه تدبراً وتفكراً قراءة وعملاً، حتى إذا شب عن الطوق شب وقد امتلأ صدره بنور القرآن وشغف قلبه بحبه، فكان تقياً نقياً عالماً عاملاً، وأي سعادة يحصلها الإنسان بعد هذا؟.
الخاتمة
في ختام هذا البحث المتواضع أود أن ألخص ما توصلت إليه وهو كالآتي:
أولاً: أن تعلم القرآن وحفظه وتدبره والعمل به واجب من واجبات المسلم الحقيقي إذا أراد الخير في الدنيا والآخرة.
ثانياً: أن القرآن منهج التربية الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربى عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
ثالثاً: أن الله أمرنا بأن نقرأ القرآن مع التدبر لأن في التدبر تأثيراً على القلوب ويربطنا به في حياتنا ليعالج المسائل التي تواجهنا، وينير لنا الطريق إلى المستقبل.
رابعاً: أن المسلم الحقيقي هو الذي يعتصم بالقرآن علماً وحالاً وتلاوة وسمعاً باطناً وظاهراً كما قال شيخ الإسلام.
خامساً: أن الصحابة والسلف الصالح هم خير قدوة في تعلمهم القرآن وتدبرهم له وعملهم به.
سادساً: أن العمل بالقرآن في الحياة الواقعية يحمي صاحبه من الشبهات والشهوات، ويبعدهم عن الأفكار المنحرفة والتوجهات والتيارات الضالة.
سابعاً: أن على الآباء وأولياء الأمور مسؤولية كبيرة تجاه أبنائهم وبناتهم وذلك بحثهم على تعلم القرآن وتطبيقه في الحياة.
ثامناً: ينبغي للآباء وأولياء الأمور أن يقتدوا بالصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح في حثّ أبنائهم على تعلم القرآن وتطبيقه في أنفسهم وفي أولادهم حتى يكون جزءًا من حياتهم اليومية.
تاسعاً: أن تعليم الأبناء القرآن الكريم منذ الصغر يحميهم من الانحرافات العقدية والسلوكية والتوجهات الضالة، لما في القرآن من توجيهات ربانية تنورهم في أفكارهم ومداركهم وحواسهم.
عاشراً: لابد للوالدين أن يهيئا الجو القرآني للناشئة لينشأ على الفطرة ويشب على محبة القرآن والتعلق به، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال.
الحادي عشر: أن جمعية القرآن الكريم في هذه المحافظة وغيرها في مناطق المملكة العربية السعودية لها دور كبير في العناية بكتاب الله جل وعلا والاهتمام به، حيث أن هذه الجمعية قد أسهمت إسهاماً كبيراً في تخريج الحافظ وحملة القرآن ليحي بهم روح الإيمان في قلوب المسلمين، ويحميهم من كل شر.
وأخيراً:
أسأل الله أن ينفع بهذا البحث المتواضع، وأن يجعله خالصاً لوجهه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن (4739).
([2]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين قصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (803).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (803).
([4]) أخرجه ابن أبي شيبة (30308).
([5]) متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام (5111)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن (797).
([6]) أخلاق حملة القرآن للآجري، ص 111.
([7]) أردأ التمر : معجم مقاييس اللغة، باب الدال والقاف (2/289).
([8]) أخلاق حملة القرآن للآجري، ص112.
([9]) الهذّ: بتشديد الذال، هو شدة الإسراع والإفراط في العجلة. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (6/105).
([10]) أخلاق حملة القرآن للآجري، ص 169 .
([11]) في ظلال القرآن لسيد قطب (1/38، 261).
([12]) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/376).
([13]) أخرجه الدارمي في كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن (2/429)، وأحمد في مسنده (1/91)، والترمذي في أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن عن علي رضي الله عنه (4/345).
([14]) ورمز السيوطي لضعفه في الجامع الصغير، انظر: فيض القدير للمناوي (1/225).
([16]) أخرجه أحمد في مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (6614).
([17]) سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم (1140).
([18]) رواه أبو عبيد بن عبد السلام في كتابه (فضائل القرآن) تحقيق: مروان العطية ورفيقه، طبع دار ابن كثير، ص 53.
([20]) نقلاً عن “منهج التربية الإسلامية للطفل” لمحمد نور عبد الحفيظ سويد (2/182).
([22]) نورد هنا من كتاب (العيال) لابن أبي الدنيا (1/478)، باب تعليم الأصاغر القرآن، تحقيق د.نجم خلف.
([23]) رواه أبو عبيد بن سلام في فضائل القرآن، ص 85. وقال محققو الكتاب: رواه أحمد (5/348)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/159) رجال الصحيح.
([24]) رواه أحمد (3/440)، من طريق حسن، ورواه أبو يعلى (3/65) بسند ضعيف.
([25]) طبقات الحفاظ للسيوطي، ص 154 .
([26]) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي (3/72).
([27]) الطبقات الكبرى للسبكي (8/396).
([29]) انظر: كتاب (لامع الدراري على جميع البخاري) في نهاية المقدمة (1/152)، الطبعة الهندية الحجرية.