132 – ما لا يسع المسلم جهله في العقيدة
132 – ما لا يسع المسلم جهله في العقيدة pdf
ما لا يسع المسلم جهله
في العقيدة
تأليف
أ.د/ عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
عضو الإفتاء بالقصيم
والأستاذ بكلية التربية بالزلفي جامعة المجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ([1]).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءلون بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}([2]).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}([3])، وبعد:
فقد شرع الله عبادته وجعلها الغاية من خلق الخلق قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وكان نداء كل نبي لقومه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
ومع هذه الأوامر الإلهية كم هم الذين يقصرون في فهم الإسلام ويأخذون به مبتوراً ولذا نرى كثرة الأخطاء والانحراف في باب العقائد وأمهات العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج.
والأمة مطالبة بالرجوع إلى النبع الصافي والاطلاع على سيرة سلف الأمة لتتحقق القدوة الصادقة للمجتمع ولا نجاة ولا عز ولا فلاح إلا بالعبادة الحقة لله وفق ما شرعه سبحانه وكل عبادة تحيد عن المنهج الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي باطلة مردودة كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)([4]).
إن تصحيح هذا المفهوم الخاطئ وبيان حقيقة ما لا يصح المسلم جهله وخطورة ما وقع فيه البعض من الانحراف العقدي واجب شرعي على كل طالب علم قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، ولذا جاءت فكرة هذا الكتاب لتعالج مثل هذه القضايا بشيء من التيسير والتوضيح مبنية على الدليل الشرعي من الكتاب والسنة.
وكانت فكرة هذا الكتاب بطلب من رئيس اللجنة الثقافية لجمعية الآل والأصحاب في مملكة البحرين فضيلة الشيخ/ صلاح حيدر الكاظمي – حفظه الله – فقد رغب مشكوراً أن أضع كتاباً يعالج مثل هذه القضايا بأسلوب سهل واضح ليكون معيناً للمحتاجين ممن يجهلون بعض الأحكام مما يتعلق بأمور العقيدة.
ومع ذلك فإني أؤمل أن ينتفع منه الكثيرون، والله أسأل أن يعلمني ما جهلت، وأن يكتب الأجر والثواب لمن أشار وأعان وشجع، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وكتبه
أ.د/ عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
عضو الإفتاء بالقصيم
والأستاذ بكلية التربية بالزلفي جامعة المجمعة
في يوم السبت الموافق: 1/ 1/ 1436هـ
المبحث الأول: توحيد الربوبية.
أولاً: تعريفه:
أ- لغة: الربوبية مصدر من الفعل ربب، ومنه الربُّ، فالربوبية صفة الله، وهي مأخوذة من اسم الرب، والرب في كلام العرب يطلق على معان: منها المالك، والسيد المطاع، والمُصْلِح.
ب- أما في الاصطلاح: فإن توحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله.
ومنها الخلق والرزق والسيادة والإنعام والملك والتصوير، والعطاء والمنع، والنفع والضر، والإحياء والإماتة، والتدبير المحكم، والقضاء والقدر، وغير ذلك من أفعاله التي لا شريك له فيها ، ولهذا فإن الواجب على العبد أن يؤمن بذلك كله .
ثانياً: أدلته:
وتوحيد الربوبية هو إفراد الله سبحانه بالملك والخلق والتدبير، فيؤمن العبد بأنه سبحانه الخالق الرازق، المحيي، المميت، النافع، الضار، المالك، المدبر، له الخلق والأمر كله، كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42]، لا شريك له في ذلك سبحانه ولا نظير.
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزُّخرُف:87]، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس:31].
فقد بين الله تعالى ما عليه مشركي قريش من إثباتهم الربوبية لله ولكنهم مع ذلك أشركوا مع الله غيره في عبادته، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، قال عكرمة: “من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماوات؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: من خلقهم؟ قالوا: الله. وهم يشركون به بعد”.
عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك.
ثالثاً : حقيقة توحيد الربوبية:
ا – إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد, ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً استقلالاً, ولا موتاً, ولا حياة, ولا نشوراً، ولا تسمع, ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق, والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله, ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر:3]، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام، بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون، وتوعدهم بالنار والخلود فيها, واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
ب – أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه يعني (توحيد الألوهية) لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة؛ فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال.
ج – أن هذا التوحيد – أي توحيد الربوبية – لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده كما سبق.
رابعاً: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية:
إذا أقر العبد لله تعالى بالربوبية، فإن إقراره هذا يقتضي أموراً لابد منها، فإن لم يلتزم هذه المقتضيات ما نفعه إقراره بالربوبية لله، فهذه المقتضيات هي:
الأول: ألا يعتقد العبد نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً ولا إعطاء ولا منعاً ولا إحياءً ولا إماتةً ولا تدبيراً ولا تصريفاً إلا والله سبحانه وتعالى هو فاعله وخالقه لا يشركه في ذلك ولا يملك واحد منه شيئاً.
الثاني: أن يتوصل العبد بالإقرار بالربوبية إلى الإقرار بالألوهية فيجردها لله تعالى فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادات لغير الله تبارك وتعالى.
المبحث الثاني: توحيد الألوهية:
أولاً: تعريف توحيد الألوهية:
معنى توحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة هذا باعتبار إضافته إلى الله تعالى. ويسمى باعتبار إضافته إلى الخلق بـ”توحيد العبادة”، أو “توحيد الله بأفعال العباد”، أو “توحيد القصد”، أو “توحيد الإرادة والطلب”، لأنه مبني على إخلاص القصد في جميع العبادات، بإرادة وجه الله تعالى([5]).
ثانياً: علاقة هذا النوع بالشهادتين:
فهذه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله) تشتمل على ركنين أساسين:
الأول: “النفي”، وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، ويدل عليه كلمة: “لا إله” فهي تنفي أن يكون غير الله تعالى مستحقاً للعبادة.
الثاني: “الإثبات”، وهو إثبات الإلهية لله تعالى، ويدل عليه كلمة “إلا الله” فهي تثبت أن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
فهذا التوحيد – توحيد الألوهية – تشتمله وتدل عليه كلمة التوحيد: “لا إله إلا الله”.
ومعنى شهادة “لا إله إلا الله” لا معبود بحق إلا الله تعالى.
أي أنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يدعى إلا الله تعالى، ولا يجوز أن يصلى أو ينذر أو يذبح إلا لله تعالى، وهكذا بقية أنواع العبادة، لا يستحق أحدٌ أن تصرف له سوى الله تعالى وهذا هو عين توحيد الألوهية، فالله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده، لأنه الخالق، الرازق، المالك، المدبر لجميع الأمور، فيجب على
جميع العباد أن يفردوه بالعبادة شكراً له على نعمه العظيمة عليهم.
ثالثاً: أهمية توحيد الألوهية:
توحيد الألوهية هو الذي من أجله خلق الله الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ومن أجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36].
ومن أجله قامت الخصومة بين الأنبياء وأممهم، وبين أتباع الأنبياء من أهل التوحيد وبين أهل الشرك وأهل البدع والخرافات، ومن أجله جردت سيوف الجهاد في سبيل الله، وهو أول الدين وآخره، بل هو حقيقة دين الإسلام، وهو يتضمن أنواع التوحيد.
فتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات، فإن من عبد الله تعالى وحده، وآمن بأنه المستحق وحده للعبادة، دل ذلك على أنه مؤمن بربوبيته وبأسمائه وصفاته، لأنه لم يفعل ذلك إلا لأنه يعتقد بأن الله تعالى وحده هو المتفضل عليه وعلى جميع عباده بالخلق والرزق والتدبير وغير ذلك من خصائص الربوبية، وأنه تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العُلا، التي تدل على أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
رابعاً: فضائل توحيد الألوهية:
توحيد الله وإفراده بالعبادة أجَلُّ النِّعم وأفضلها على الإطلاق، وفضائله وثمراته لا تعد ولا تحد، ففضائل التوحيد، كثيرة تنتظم خيري الدنيا والآخرة، ومن تلك الفضائل ما يلي:
1- أنه أعظم نعمة أنعمها الله على عباده، حيث هداهم إليه، كما جـاء في سورة النحل حيث قدم الله عز وجل نعمة التوحيد على كل نعمة، فقال سبحانه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2].
2- أنه الغاية من خلق الجن والإنس، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
3- أنه الغاية من إنزال الكتب ومنها القرآن، قال تعالى فيه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود:1، 2].
4- أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، ودفع عقوبتهما.
5- أنه يمنع من الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل.
6- أنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية كما في حديث عتبان قال صلى الله عليه وسلم (فإن الله حَرَّم على النَّار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وَجْهَ الله)([6]).
7- حصول الاهتداء الكامل، والأمن التام لأهله في الدنيا والآخرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
8- أنه السبب الأعظم لنيل رضا الله وثوابه.
9- أن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه([7]).
10- أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالهـا وفي
ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
11- أنه يسهل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات؛ فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات؛ لما يرجوه من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لما يخشى من سخطه وأليم عقابه.
12- أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
13- أنه يخفف على العبد المكاره، ويهون عليه الآلام؛ فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح، ونفس مطمئنة، وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
14- أنه يحرر العبد من رق المخلوقين، ومن التعلق بهم، وخوفهم، ورجائهم، والعمل لأجلهم. وهذا هو العز الحقيقي، والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً متعبداً لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
15- ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام فإنه يُصَيِّر القليل من العمل كثيراً، وتضاعف أجور صاحبه بغير حصر ولا حساب.
16- أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
17- أن الله يدافع عن الموحدين شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه وبذكره. وشواهد ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، فمن حقـق التوحيد حصلت له هذه الفضائل كلها وأكثر منها، والعكس بالعكس([8]).
خامساً: العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
تبرز العلاقة بين توحيد المعرفة والإثبات وتوحيد القصد والطلب في النقاط التالية:
1- توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الألوهية؛ فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره، وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له؛ فإذا كان هو الخالق الرازق النافع الضار وحده لزم إفراده بالعبادة.
2- توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمناً في توحيد الألوهية، فمن عَبَدَ الله وحده لا شريك له فلابد أن يكون معتقداً أنه ربه وخالقه ورازقه؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر.
3- توحيد الربوبية عمل قلبي لا يتعدى القلب، ولذا سمي توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي. أما الألوهية فهو عمل قلبي وبدني، فلا يكفي فيه عمل القلب، بل يتعداه إلى السلوك والعمل قصداً لله وحده لا شريك له.
4- أن توحيد الربوبية لا يكفي وحده في دخول الإسلام؛ وذلك لأنه مركوز في الفطر، فلو كان كافياً لما احتاج الناس إلى بعثة الرسل، وإنزال الكتب، فلا يكفي أن يقر الإنسان بما يستحق الرب تعالى من الصفات، وأنه الرب الخالق وحده. ولا يكون موحداً إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله هو المألوه المعبود وحده، ويعبده بمقتضى هذه المعرفة.
5- توحيد الألوهيـة هو الذي جاءت به الرسل، وهو الذي حصل به النـزاع بين الرسل عليهم السلام وبين أممهم، كما قال قوم هود لنبيهم هود عليه السلام عندما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70].
وكما قال كفار قريش لما أُمِروا بإفراد الله بالعبادة {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. أما توحيد الربوبية فإنهم لم ينكروه، بل إن إبليس لم ينكره {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحِجر:39].
6- أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا فترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنهما إذا ذكرا جميعاً فلكل لفظ ما يراد به، كما في قوله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:1-3].
فيكون معنى الرب هو المالك المتصرف، وهذا توحيد الربوبية، ويكون معنى الإله المعبود بحق المستحق للعبادة دون سواه وهذا توحيد الألوهية.
وتارة يذكر أحدهما مفرداً عن الآخر فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر “من ربك؟ ومعناه من إلهك؟”، وكما في قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، وقوله سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام:164]، وقوله سبحانه عن الخليل عليه السلام: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258]. وكما في قوله تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] ([9]).
سادساً: ما يضاد توحيد الألوهية:
ما يضاد توحيد الألوهية قسمان:
الأول: ما يضاد أصله.
الثاني: ما يقدح في توحيد الألوهية.
القسم الأول: ما يضاد أصله، وهو الشرك الأكبر الذي إذا أتى به المكلف فإنه ينقض توحيده، ويكون مشركا شركا أكبر مخرجا من الملة، فمثل هذا يقال فيه: إنه قد أتى بما ينافي التوحيد، أو ينافي أصل التوحيد.
ومن أمثلة ما يضاد أصل توحيد الألوهية ما يأتي:
1 – دعاء غير الله.
الدعاء عبودية عظيمة، وهو من أعظم الأسباب وأقواها لجلب النفع ودفع الضر، وهو علامة على افتقار العبد لربه واحتياجه له؛ وإذا كان الدعاء عبادة من أجل العبادات وأعظمها فصرفه لغير الله شرك.
ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه – عز وجل – العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله – عز وجل – وإضافة الجود والكرم إليه”([10]).
وبالرغم من عِظم مكانة الدعاء بـين سائر العبادات؛ إلا أنه من أكثر العبادات التي شرّك الناس فيها بين الله وبين خلقه، فإنك تجد – مع الأسف الشديد – كثيراً ممن ينتسب إلى الإسلام قد وقعوا في دعاء غير الله والاستغاثة بهم ، سواءً كانوا من الأنبياء أو الصالحين، كمن يقول يا نبي الله، أو يا علي، أو يا حسين، أو يا عبد القادر الجيلاني، أو يا بدوي، أشكو إليك ذنوبي، أو نقص رزقي، أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني، أو يقول أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به، أو ارزقني الولد، أو قول القائل إذا عثر: يا جاه محمد، يا ست نفيسة، أو يا سيدي الشيخ فلان، ونحو ذلك من الأقوال الشركية التي فيها دعاء وتعلق بغير الله، فهذا شرك أكبر; لأنه دعا غير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ)([11]).
ومن أمثلة الشرك في الدعاء ما يلي:
ا – أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق:
سواء أكان هذا المخلوق حياً أم ميتاً، نبياً أم ولياً أم ملكاً أم جنياً أم غيرهم، كأن يطلب منه شفاء مريضه أو نصره على الأعداء، أو كشف كربة، أو أن يغيثه، أو أن يعيذه، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا كله شرك أكبر، مخرج من الملة بإجماع المسلمين؛ لأنه دعا غير الله، واستغاث به، واستعاذ به، وهذا كله عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله بإجماع المسلمين، وصرفها لغيره شرك، ولأنه اعتقد في هذا المخلوق مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
ب- دعاء الميت والغائب:
فمن دعا غائباً وهو بعيد أو دعا ميتاً عند قبره، وهو يعتقد أن هذا المدعو يسمع كلامه أو يعلم بحاله فقد وقع في الشرك الأكبر، سواء أكان هذا المدعو نبياً أم ولياً، أم عبداً صالحاً أم غيرهم، وسواء طلب من هذا المدعو ما لا يقدر عليه إلا الله أم طلب منه أن يدعو الله تعالى له، ويشفع له عنده، فهذا كله شرك بالله تعالى مخرج من الملة؛ لما فيه من دعاء غير الله، ولما فيه من اعتقاد أن المخلوق يعلم الغيب، ولما فيه من اعتقاد إحاطة سمعه بالأصوات، وهذا كله من صفات الله تعالى التي اختص بها، فاعتقاد وجودها في غيره شرك مخرج من الملة.
ج – أن يجعل بينه وبين الله تعالى واسطة في الدعاء:
ويعتقد أن الله تعالى لا يجيب دعاء من دعاه مباشرة، بل لا بد من واسطة بين الخلق وبين الله في الدعاء، فهذه شفاعة شركية مخرجة من الملة. وهذا هو أصل شرك العرب، فهم كانوا يزعمون أن الأصنام تماثيل لقوم صالحين، فيتقربون إليهم طالبين منهم الشفاعة، كما قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر:3] ([12]).
2 – الذبح لغير الله:
من صور الشرك الأكبر الذبح لغير الله: والذبح والنحر من أعظم العبادات والقربات، فوجب أن لا تُصرف إلا لله خالصة له من غير شركٍ، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال جل شأنه: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
فمن ذبح لغير الله تعالى كمن ذبح للصنم أو للجن أو للقبر أو للكعبة أو لشجرٍ أو حجرٍ أو مكانٍ، أو ذبح عند قدوم السلطان إلى بلد. وكان ذبحه تقرباً وتعظيماً له، فهذا شرك وكفر بالله العظيم، وذبيحته حرام لا تحل سواء كان الذابح مسلماً أو يهودياًً أو نصرانياً، وإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً عن الإسلام، لأنه صرف عبادةً من أعظم العبادات لغير الله كمن سجد لغير الله.
والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون الذبح لغير الله فرحاً أو إكراماً للضيف كمن يذبح لقدوم سلطان أو أمير إكراماً وضيافة لهما، فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك، فهذا لا حرج فيه بل هو من الأمور المعتادة التي قد تكون مطلوبة تارة وغير مطلوبة تارة أخرى، فالأصل أنها مباحة.
القسم الثاني: أن يكون الذبح تعظيماً وتقرباً لغير الله، وإن ذُكر اسم الله ابتداء قبل الذبح، كمن يذبح للأنبياء والرسل والأولياء، وكمن يذبح للجن أو للقبر أو للكعبة أو لشجرٍ أو حجرٍ أو مكانٍ مثل ما يُذبح عند نزول البيوت خوفاً من الجن أن تصيبه، كل هذا يدخل في الذبح لغير الله، وهو من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، وذبيحته محرمة لا يجوز أكلها.
3 – النذر لغير الله:
النذر عبادة من العبادات، لا يجوز أن يصرف لغير الله تعالى، قال الله تعالى في وصفه لعباده الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]. وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة:270]. فدل على أن النذر عبادة؛ لأن الله يحب الوفاء به ويجازي بالنذر، وصرفه لغير الله شرك أكبر.
فمن نذر لمخلوق كأن يقول: لفلان عليَّ نذر أن أصوم يوماً، أو لقبر فلان علي أن أتصدق بكذا، أو إن شفي مريضي أو جاء غائبي للشيخ فلان علي أن أتصدق بكذا، أو لقبره علي أن أتصدق بكذا، فقد أجمع أهل العلم على أن نذره محرم وباطل، وعلى أن من فعل ذلك قد أشرك بالله تعالى الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأنه صرف عبادة النذر لغير الله، ولأنه يعتقد أن الميت ينفع ويضر من دون الله، وهذا كله شرك.
ومن القضايا المعاصرة في النذر لغير الله ما يُسمى بصندوق النذور الموجود عند القبور المعظمة، فإذا نذر نذرًا لصاحب القبر جعله في ذلك الصندوق وهذا من الشرك الأكبر.
القسم الثاني: ما يقدح في توحيد الألوهية وهي الأمور التي تنافي كمال التوحيد ولا تنقضه بالكلية، فإذا وجدت عند المسلم قدحت في توحيده ونقص إيمانه، ولم يخرج من دين الإسلام، وهي المعاصي التي لا تصل إلى درجة الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر، وعلى رأسها: وسائل الشرك الأكبر، والشرك الأصغر، والكفر الأصغر، والنفاق الأصغر، والبدعة.
ا – ذكر بعض الأمثلة على القسم الأول:
ما يقدح في توحيد الألوهية:
ذكرنا فيما سبق أن هناك ما يقدح في توحيد الألوهية وهي الأمور التي تنافي كمال التوحيد ولا تنقضه بالكلية، فإذا وجدت عند المسلم قدحت في توحيده ونقص إيمانه، ولم يخرج من دين الإسلام، وهي المعاصي التي لا تصل إلى درجة الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر، وعلى رأسها: وسائل الشرك الأكبر، والشرك الأصغر، والكفر الأصغر، والنفاق الأصغر، والبدعة، والرياء وغير ذلك.
أولاً: الشرك الصغر:
ا – تعريف الشرك الأصغر: هو كل ما كان فيه نوع شرك لكنه لم يصل إلى درجة الشرك الأكبر، أو هو كل قول أو عمل بالقلب أو الجوارح جعل العبد فيه نوع شرك لله تعالى ولم يصل إلى إخراج صاحبه من الملة. أو هو جميع الأقوال والأفعال التي توصل إلى الشرك الأكبر.
ب – حكمه:
الشرك الأصغر كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو أكبر الذنوب بعد الشرك الأكبر، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد رجل حلقة من صفر قال: (وَيْحَكَ مَا هَذِهِ؟) قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ؟ قَالَ: (أَمَا إِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا انْبِذْهَـا عَنْكَ؛ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)([13]).
ويؤيده قول ابن مسعود رضي الله عنه: “لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأنَا صَادِقٌ”([14]).
فجعل الحلف بالله كاذبًا الذي هو من كبائر الذنوب أخف من الحلف بغيره صادقًا؛ لأنه من الشرك الأصغر.
ج – صور من الشرك الأصغر:
1 – الحلف بغير الله: الحلف عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله، فيحرم الحلف بغيره تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (أَلا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ – أَوْ لِيَصْمُتْ -) ([15]).
فمن حلف بغير الله سواء أكان نبيًّا أم وليًّا أم الكعبة، أم الملائكة، أم الأمانة، أم روح فلان، أم تربة فلان، أم حياة فلان أو غير ذلك؛ فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ووقع في الشرك؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم – ” مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ”([16]).
ولأن الحلف فيه تعظيم للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائنًا من كان؛ فقد جعله شريكًا لله عز وجل في هذا التعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأصغر إن كان الحالف إنما أشرك في لفظ القسم لا غيرُ، أما إنا كان الحالف قد قصد بحلفه تعظيم المخلوق الذي حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثيرٌ من المتصوفة الذين يحلفون بالأولياء والمشايخ أحياءً وأمواتًا، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم أنهم لا يحلفون بهم كاذبين مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن المحلوف به عندهم أجلّ وأعظم وأخوف من الله تعالى.
2 – الاستسقاء بالأنواء.
الاستسقاء بالأنواء هو أن يُطلب من النجم أن يُنزل الغيث، ويدخل فيه أن يُنسب الغيث إلى النجم، كما كان أهل الجاهلية يزعمون، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم، فيقولون هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، ويزعمون أن النجم هو الذي أنزل هذا الغيث.
الاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن ينسب المطر إلى النجم معتقدًا أنه هو المنزل للغيث بدون مشيئة الله وفعله جلَّ وعلا، فهذا شرك أكبر بالإجماع.
القسم الثاني: أن ينسب المطر إلى النوء معتقدًا أن الله جعل هذا النجم سببًا في نزول هذا الغيث، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سببًا، فالله تعالى لم يجعل شيئًا من النجوم سببًا في نزول الأمطار، ولا صلة للنجوم بنزولها بأيّ وجه، وإنما أجرى الله العادة بنزول بعض الأمطار في وقت بعض النجوم.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الاستسقاء بالأنواء، ومنها:
1 – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مُطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ)، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75]، حَتَّى بَلَغَ:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}[الواقعة:82] ([17]).
ومعنى الآية الأخيرة أنكم تجعلون شكر ما أنعم الله به عليكم من الغيث أنكم تكذبون بذلك، وذلك بنسبة إنزال الغيث إلى غير الله تعالى.
2 – عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: “صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ)([18]).
3 – عن أبي مالك الأشعري مرفوعًا: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِـي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ)، وَقَالَ: (النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)([19]).
وإذا قال المسلم (مُطرنا بنوء كذا وكذا) ومقصده أن الله أنزل المطر في وقت هذا النجم، على أن الباء تأتي للظرفية على معنى (في)، معتقدًا أنه ليس للنجم أدنى تأثير لا استقلالاً ولا تسببًا، فقد اختلف أهل العلم في حكم هذا اللفظ، فقيل هو محرم، وقيل مكروه، ولا شك أن هذا اللفظ ينبغي تركه، واستبداله بالألفاظ الأخرى التي لا إيهام فيها، فإما أن يقول (مطرنا بفضل الله ورحمته)، فهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في الحديث القدسي، فهو أولى من غيره، وإما أن يقول (هذا مطر أنزله الله في وقت نجم كذا)، أو يقول (مطرنا في نوء كذا)، ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا لبس ولا إشكال فيها، فقول “مطرنا بنوء كذا” أقل أحواله الكراهة الشديدة، والقول بالتحريم قول قوي، لما يلي أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقًا بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفرًا بالله تعالى، وإيمانًا بالكوكب أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في عصر قد يؤدي بجهلهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد أن فيه استبدالاً للفظ المندوب إليه شرعًا في هذه الحال، وهو قول (مطرنا بفضل الله ورحمته) بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك السنة وتشبه بالمشركين، وقد نهينا عن التشبه بهم
3 – التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله تعالى: كالتسمي بملك الملوك، وقاضي القضاة ونحوها، فعن أبي هريرة مرفوعًا (أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ، رَجُلٍ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا اللهُ)([20]).
4 – التسمي بأسماء فيها تعبيد لغير الله تعالى: كعبد الرسول وعبد النبي وعبد الحسين، ولهذا غيّر النبيصلى الله عليه وسلم أسماء من أسلم من الصحابة وكان اسمه معبدًا لغير الله تعالى.
5 – سب الدهر: فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) ([21]).
فالله هو الفاعل حقيقة، فمن سب الدهر فقد سب الله، وسب الدهر يكون من الشرك الأصغر في حق من سب الدهر وهو يعتقد عدم تأثيره، فالشرك من أجل اللفظ الذي فيه نوع تشريك بين الله وبين الدهر في الفعل والتأثير، أما إن كان الساب للدهر يعتقد ما يعتقده أهل الجاهلية من تأثير الدهر وفعله من دون الله، كما قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].
6 – الرياء: فالرياء من أفراد الشرك الأصغر أعني: يسير الرياء، وهو ينافي كمال التوحيد.
والرياء هو أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يَظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم.
فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه، منها حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه مرفوعاً:(إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ)، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً)([22]).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)([23]).
سابعاً: الوسائل الموصلة للشرك الأكبر:
لما كان الشرك الأكبر أعظم ذنب عُصي اللهُ به؛ حرَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كل قول أو فعل يؤدي إليه، أو يكون سبباً في وقوع المسلم فيه.
وأهم الوسائل الموصلة للشرك الأكبر أربعة هي:
1 – الغلو في الصالحين: لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو على وجه العموم، فقال صلى الله عليه وسلم : (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)([24]).
وثبت أن الغلو في الصالحين كان هو أول وأعظم سبب أوقع بني آدم في الشرك الأكبر، فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه أخبر عن أصنام قوم نوح أنها صارت في العرب، ثم قال: “أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونُسخ العلم، عُبدت”([25]).
ومن صور الغلو المحرم في حق الصالحين والذي يوصل إلى الشرك:
المبالغة في مدحهم، وذلك باعتقاد أن بعض الأولياء يتصرفون في الكون، وأنهم يسمعون كلام من دعاهم ولو من بعد، وأنهم يجيبون دعاءه، وأنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب.
وقد أدى هذا الغلو إلى الشرك في الألوهية، كما في دعاء الأموات من دون الله، والاستغاثة بهم، وهذا من أعظم الشرك.
2 – تصوير الأولياء والصالحين: التصوير معناه: نقل شكل وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت، وإثبات هذا الشكل على لوحة أو ورقة أو تمثال.
وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك. وأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير، حينما أقدم قوم نوح على تصوير الصالحين ونصب صورهم على المجالس. لأجل تذكر أحوالهم، والاقتداء بهم في العبادة، حتى آل الأمر إلى عبادة تلك الصور، واعتقاد أنها تنفع وتضر من دون الله.
ولذلك وردت نصوص شرعية فيها تغليظ على المصورين، ومن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ أشدَّ الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)([26]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم)([27]).
فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له، وتعلق به في الغالب، خصوصاً إذا كان المصوّر له شأن من سلطة أو علم أو صلاح، وخصوصاً إذا عُظمت الصورة بنصبها على حائط.
3 – التبرك بالصالحين: ومما هو وسيلة لحصول الشرك الأكبر التبرك بالأولياء والصالحين كالتبرك بذواتهم، أو بعرقهم، أو بسؤرهم أو بلعابهم الذي اختلط بالنوى مثلا، أو بما فضل من طعامهم، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز لأنه وسيلة لحصول الشرك الأكبر من دعاء غير الله والاستغاثة بهم والطواف على قبورهم وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر.
4 – اتخاذ القبور مساجد: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند موته: (لعنة الله على اليهـود والنصـارى اتخذوا قبـور أنبيـائهم مساجد)، يحذر ما صنعوا”([28]).
وعن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)([29])، واتخاذ المكان مسجداً هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها، كما تبنى المساجد لذلك، فحرمه صلى الله عليه وسلم وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده، لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، فقد يفضي إلى دعاء صاحب القبر وعبادته.
ثامناً: الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر:
1- الشرك الأكبر يخرج صاحبه من الإسلام بخلاف الشرك الأصغر.
2- الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال أما الشرك الأصغر فهو يحبط العمل الذي خالطه فقط.
3- الشرك الأكبر يبيح الدم والمال بخلاف الشرك الأصغر.
4- الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار أما الشرك الأصغر فقد يدخل صاحبه في النار ولا يخلد فيها.
5- الشرك الأكبر يوجب المعاداة وقطع الموالاة فلا تجوز موالاة المشرك مهما كانت قرابته، أما الشرك الأصغر فلا يقطع الموالاة لكن يوالى بقدر ما عنده من التوحيد ويعادى بحسب ما فيه من الشرك الأصغر.
المبحث الثالث: الأسماء والصفات:
أولاً: مفهوم توحيد الأسماء والصفات:
هو إفراد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في القرآن والسنة، والإيمان بمعانيها وأحكامها، وأن الله تعالى متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص، متفرد بذلك عن جميع الكائنات.
هذا هو مفهوم توحيد الأسماء والصفات بخلاف ما عليه أهل البدع والأهواء.
فنحن نؤمن بصفاته سبحانه الواردة في القرآن والسنة، ونصفه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسمائه وآياته، بل نثبت لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، والقاعدة في كل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى :11]، وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].
ثانياً: الأدلة على توحيد الأسماء والصفات:
الأدلة على توحيد الأسماء والصفات في الكتاب والسنة كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].
وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8].
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22- 24].
ومن دلالة السنة على توحيد الأسماء والصفات.
حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ)([30]) .
وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أسألُكَ بِكُلِّ اسمٍ هُوَ لَكَ، سمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنَّزَلتَهُ في كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرتَ بِهِ في عِلْمِ الْغَيْبِ عِنّدَكَ، أَنَّ تَجَعَلَ القُرّآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبي..”([31]) الحديث.
والنصوص في تقرير هذا الباب كثيرة تجل عن الحصر.
أما عن دلالة الصفات: فكل اسم من أسماء الله فإنه يتضمن صفة من صفاته؛ فالعليمُ يدل على العلم، والحكيم يدل على الحكمة، والسَّميعُ البصير يدلان على السمع والبصر.
ثالثاً: قواعد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته:
القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى توقيفية:
اتفق علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم على أنه يجب الوقوف على ما جاء في الكتاب والسنة بذكر أسماء الله – عز وجل – نصا دون زيادة أو نقصان، وأن أسماء الله الحسنى توقيفية على النص لا مجال للعقل فيها، وأن العقل لا يمكنه بمفرده أن يتعرف على أسماء الله – عز وجل – التي تليق بجلاله؛ ولا يمكنه أيضا إدراك ما يستحقه الرب – عز وجل – من صفات الكمال والجمال فتسمية رب العزة والجلال بما لم يسم به نفسه قول على الله بلا علم وهو أمر حرمه الله على عباده كما قال – عز وجل – في كتابه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف :33]، وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء:
فكل اسم من أسماء الله يجوز أن يشتق منه صفة لله عز وجل فالعليم يشتق منه صفة العلم، والحكيم يشتق منه صفة الحكمة، ولكن ليس كل صفة يؤخذ منها اسم لله, مثل الكلام صفة لله عز وجل ولكن الله سبحانه ليس من أسمائه المتكلم. ومن أجل ذلك كان باب الصفات أوسع من باب الأسماء، فالله يوصف بصفات كالكلام، والإرادة، والاستواء، والنزول، والضحك، ولا يشتق له منها أسماء، فلا يسمى بالمتكلم، والمريد، والمستوي، والنازل، والضاحك، لأنها لا تدل في حال إطلاقها على ما يحمد الرب به ويمدح، وفي المقابل هناك صفات ورد إطلاق الأسماء منها كالعلو، والعلم، والرحمة والقدرة، لأنها في نفسها صفات مدح والأسماء الدالة عليها أسماء مدح فمن أسمائه: العلي، والعليم، والرحيم، والقدير([32]).
القاعدة الثالثة: أن باب الإخبار أوسع منهما:
فما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء، والموجود، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
فالنصوص جاءت بثلاثة أبواب هي: “باب الأسماء”، و”باب الصفات”، و”باب الإخبار”.
القاعدة الرابعة: أسماء الله كلها حسنى:
أسماء الله كلها حسنى، وقد وصف الله تعالى أسماءه بالحسنى في أربعة مواضع من القرآن الكريم، وهي:
1- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].
2- قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110].
3- قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:7، 8].
4- قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24].
والحسنى: أي البالغة في الحسن غايته فأسماء الله هي أحسنُ الأسماء وأجلُّها لاشتمالها على أحسن المعاني وأشرفها.
فالحيُّ: متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم ولا يلحقها زوال.
والرحمن: متضمن للرحمة الكاملة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)([33])، يعني أم صبي وجدته في السبي فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته. والتي قال الله عنها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، وقال عنها المقربون من ملائكته: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ([34]).
القاعدة الخامسة: الأسماء الحسنى لا تحدّ بعدد:
الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد فإنَّ لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ همِّي)([35]).
فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه فتعرف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحد من خلقه، ولهذا قال استأثرت به أي انفردت بعلمه([36]).
القاعدة السادسة: الإيمان بأسماء الله يتضمن أموراً:
أولاً: الإيمان بثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
ثانيًا: الإيمان بما دل عليه الاسم من المعنى أي “الصفة”.
ثالثاً: الإيمان بما يتعلق به من الآثار والحكم والمقتضى.
مثال لهذه القاعـدة: اسم الله السميع فنثبت الاسم أولاً، ونثبت “السمع” صفة له
ثانياً، ثم نثبت ثالثاً: الحكم أن الله يسمع السر والنجوى.
والأثر: وهو وجوب خشية الله ومراقبته وخوفه والحياء منه عز وجل. وهكذا في جميع أسماء الله تعالى.
رابعاً: ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات:
العلم بأسماء الله وصفاته، وتدبرها، وفهمها على مراد الله أهم العلوم وأشرفها؛ لما يثمره من الثمرات العظيمة النافعة المفيدة.
ولقد اعتنى علماء الإسلام – قديماً وحديثاً – في بيان أسماء الله وصفاته، وشرحها، وإيضاحها، وبيان ثمرات الإيمان بها، فمن الثمرات التي تحصل من جراء الإيمان بها ما يلي:
1 – العلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفة الله:
فالله خلق الخلق ليعرفوه، ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم؛ فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له، وقبيح بعبد لم تزل نِعَمُ الله عليه متواترة أن يكون جاهلاً بربه، معرضاً عن معرفته.
وإذا شاء العباد أن يعرفوا ربهم فليس لهم سبيل إلى ذلك إلا التعرف عليه من خلال النصوص الواصفةِ له، المصرِّحةِ بأفعاله وأسمائه، كما في آية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الصمد، وغيرها.
2 – أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له: وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه بمعانيها، وأحكامها، ومقتضياتها.
3 – تزكية النفوس وإقامتها على منهج العبودية للواحد الأحد: وهذه الثمـرة من
أجل الثمرات التي تحصل بمعرفة أسماء الله وصفاته، فالشريعة المنزلة من عند الله تهدف إلى إصلاح الإنسان، وطريقُ الصلاح هو إقامة العباد على منهج العبودية لله وحده لا شريك له، والعلمُ بأسماء الله وصفاته، يعصم – بإذن الله- من الزلل، ويفتح للعباد أبواب الأمل، ويثبت الإيمان، ويعين على الصبر، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، واستحضر معانيها – أثّر ذلك فيه أيما تأثير، وامتلأ قلبه بأجل المعارف والألطاف.
فمثلاً أسماء العظمة تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله.
وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة له، وشوقاً إليه، ورغبة بما عنده، وحمداً وشكراً له.
وأسماء العزة، والحكمة، والعلم، والقدرة – تملأ القلب خضوعاً وخشوعاً وانكساراً بين يديه – عز وجل -.
وأسماء العلم، والخبرة، والإحاطة، والمراقبة، والمشاهدة – تملأ القلب مراقبةً لله في الحركات والسكنات في الجلوات والخلوات، وحراسةً للخواطر عن الأفكار الرديئة، والإرادات الفاسدة.
وأسماء الغنى، واللطف، تملأ القلب افتقاراً، واضطراراً، والتفاتاً إليه في كل وقت وحال.
4 – الانزجار عن المعاصي: ذلك أن النفوس قد تهفو إلى مقارفة المعاصي، فتذكر أن الله يبصرها، فتستحضر هذا المقام وتذكر وقوفها بين يديه، فتنزجر وترعوي، وتجانب المعصية.
5 – أن النفوس تتطلع وتتشوق إلى ما في أيدي الآخرين، وربما وقع فيها شيء من الاعتراض أو الحسد، فعندما تتذكر أن الله من أسمائه “الحكيم”، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه – عندئذٍ تكف عن حسدها، وتنقدع عن شهواتها، وتنفطم عن غيّها.
6 – أن العبد يقع في المعصية، فتضيق عليه الأرض بما رَحُبت، ويأتيه الشيطان؛ ليجعله يسيء ظنه بربه، فيتذكر أن من أسماء الله “الرحيم، التواب، الغفور”، فلا يتمادى في خطيئته، بل ينزع عنها، ويتوب إلى ربه، ويستغفره فيجده غفوراً تواباً رحيماً.
7 – ومنها أن العبد تتناوشه المصائب، والمكاره، فيلجأ إلى الركن الركين، والحصن الحصين، فيذهب عنه الجزع والهلع، وتنفتح له أبواب الأمل.
8 – ويقارع الأشرار، وأعداء دين الله من الكفار والفجار، فيجدُّون في عداوته، وأذيته، ومنع الرزق عنه، وقصم عمره، فيعلم أن الأرزاق والأعمار بيد الله وحده، وذلك يُثمر له الشجاعة، وعبودية التوكل على الله ظاهراً وباطناً.
9 – وتصيبه الأمراض، وربما استعصت وعزَّ علاجها، وربما استبد به الألم، ودب اليأس إلى قلبه، وذهب به كل مذهب، حينئذٍ يتذكر أن الله هو الشافي، فيرفع يديه إليه ويسأله الشفاء، فتنفتح له أبواب الأمل، وربما شفاه الله من مرضه، أو صرف عنه ما هو أعظم، أو عوضه عن ذلك صبراً وثباتاً ويقيناً هو عند العبد أفضل من الشفاء.
المبحث الرابع: أركان الإيمان:
أركان الإيمان هي الركائز الأساسية التي يقوم عليها البناء الإيماني، وكلها تتعلق بأمور يعتقدها المؤمن اعتقادًا جازمًا بناءً على ما ورده من خبر صادق بخصوصها.
كما أن هذه الأركان متفق عليها بين جميع الأديان المنزلة من عند الله تعالى، حيث دعا كل رسول قومه للإيمان بها كما قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].
ولا يصح إيمان المسلم إلا باعتقاده الجازم لجميع هذه الأركان اعتقادًا صحيحًا بعيدًا عن الشك.
وهذه الأركان هي: الإيمان بالله والإيمان بالملائكة والإيمان بالكتب والإيمان بالرسل والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقضاء والقدر، وهي جميعها متعلقة بالغيب حيث إن اعتقادها مبني على ما بلغنا من نصوص الوحي بخصوصها. وقد بَيَّن الله تعالى أصول الإيمان بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}[البقرة:177]، وقوله سبحانه:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر :49].
وجمعها النبي صلى الله عليه وسلم في إجابته على سؤال جبرائيل عليه السلام عندما قال له: ما الإيمان؟ فقال: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)([37]).
أولاً: الإيمان بالله عز وجل:
هو الاعتقاد الجازم بوجود الله تعالى رباً وإلهاً ومعبوداً واحداً لا شريك له، والإيمان بأسمائه وصفاته التي وردت في القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية من غير تحريف لمعانيها أو تشبيه لها بصفات خلقه أو تكييف أو تعطيل.
ويتحقّق الإيمان بالله تعالى بأمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى متفرد بالخلق والملك والتدبير مطلقاً، فلا شريك له في ذلك، ولا مدبِّر معه، ولا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، قال تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
وهذا التوحيد مستقر في فِطَر عامة البشر، فهم مُقِرُّون لله تعالى به، ولم يجحد هذا التوحيد إلا مكابر معاند، قد تظاهر بجحوده مع استقراره في نفسه، كما قال تعالى عن آل فرعون: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فمن أنكره فهو مقر به باطناً، وإنما تظاهر بإنكاره تكبراً وعناداً.
الثاني: اعتقاد أن الله تعالى هو الإله الحق المستحق للعبادة، وحده لا شريك له، فلا تنبغي العبادة إلا له، ولا يستحقها أحدٌ سواه، وإفراده تعالى بجميع الطاعات على الوجه الذي شرع، وأن يطاع نبيه صلى الله عليه وسلم فيها ويُتبع، وترك الشرك والبدع.
الثالث: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، وفيما صحَّ عن نبيه صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العُلى، على الوجه اللائق بجلال الله تعالى وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت الله تعالى لنفسه الأسماء والصفات، ونزَّه نفسه عن مماثلة المخلوقات.
وسيأتي بيان ذلك في مبحث خاص في الإيمان بأسماء الله وصفاته.
ثانياً: الإيمان بالملائكة:
المقصود من الإيمان بالملائكة: هو الاعتقاد الجازم بأن الله خلق الملائكة من نور وهم موجودون، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله القيام بها. قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
ويتحقق الإيمان بالملائكة بأمور منها:
1 – التصديق بوجودهم ومادة خلقهم، وما جاءت به النصوص من صفتهم والحكمة من خلقهم وشأنهم.
2 – الإيمان تفصيلاً بمن علمنا اسمه من طريق الوحي على وجه الخصوص مثل: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ورضوان، ومالك، ونؤمن إجمالاً بما لم نعلم اسمه منهم.
3 – الإيمان بما علمنا من وظائفهم وأعمالهم وما دلت عليه النصوص من اختصاصهم – على الوجه الذي ورد – واعتقاد أنهم يقومون بما كلفوا خير قيام وأحسنه.
4 – الاعتقاد بأنهم عباد مخلوقون مربوبون ليس لهم من خصائص الإلهية والعبادة شيء، والكفر بعبادة من عبدهم والبراءة منه.
5 – التصديق بمقاماتهم العظيمة عند الله تعالى، وما لهم عنده من الكرامة، واعتقاد وجوب موالاتهم ومحبتهم، واعتقاد تفاضلهم في المقامات والمهمات، والحذر من معاداتهم.
6 – تنزيههم وتبرئتهم مما زعمه المشركون فيهم من أنهم إناث أو بنات الله، أو أنهم يشفعون عند الله بغير إذنه، أو يشفعون لأحد من المشركين به.
ثالثاً: الإيمان بالكتب السماوية:
الإيمان بالكتب السماوية: معناه اعتقاد أن لله تعالى كتباً أنزلها على رسله هدايةً لعباده، متضمنةً لأصول دينه وقواعد شريعته، وكليات الأخلاق التي يحبها الله سبحانه ويرضاها، ومهمات مما نهى عنه جل ذكره.
وتحقيق الإيمان بالكتب يكون بأمور:
1- الإيمان بما سمى الله منها تفصيلاً: كصحف إبراهيم، وصحف موسى- وهي التوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن، وإجمالاً بما لم يسمه منها.
2- اعتقاد أنها كلها كلام الله تعالى، تكلم بها حقيقة كما شاء بكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، وأنها حق وصدق وهدى لمن خوطب بها من الأمم، ومشتملة على الشرائع التي تعبّد الله المخاطبين بها.
3- اعتقاد أنها كلها دعوة إلى عبادة الله تعالى، وتفصيل لحقه على خلقه وحقوق عباده بعضهم على بعض، وفيها نهي لهم عن مخالفته، وذكر ثواب المطيعين وعقوبات العاصين.
4- اعتقاد أنها يصدق بعضها بعض، فلا تناقض بينها ولا تعارض، فإنها سالمة من ذلك، فإن وجد فيها ما يوهم التعارض والتناقض فهذا جاء من أفهام بعض الناس وعقولهم، وليس من جهتها.
5- أن الحجة قامت بها على المخاطبين بها، واتضحت لهم بها المَحَجَّة – الطريق أو السبيل الموصلة إلى الله تعالى، وزالت بها المعذرة، فيجب العمل بها، ولا يحل لهم مخالفتها، ولا التحاكم إلى غيرها، ولا تعطيلها؛ بل يجب عليهم قبولها والعمل بهداها والحذر من مخالفتها.
6- أن الكتب الأولى كانت موجهة لأزمنة محدودة، ولطوائف معينة، وأن بعضها ينسخ بعضها، وأن المتأخر منها ينسخ المتقدم من حيث الأحكام.
7- الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى نسخ جميع الكتب السابقة بالقرآن العظيم المشتمل على أحسن ما فيها، وجعل الله فيها أحكاماً مناسبة للأمة إلى أن يأتي الله بأمره، وصانه عما في الكتب السابقة من الآصار والأغلال، وما لا يناسب الأمة من أحكام الكتب السابقة، وحفظه من أن تمتد إليه يد التحريف، فأغنى به سبحانه عنها، وجعله حاكماً ومهيمناً عليها، فلا يسع أحداً من أهل الكتب السابقة ولا غيرهم أن يعبد الله تعالى بعد نزول القرآن بغير ما جاء به، ولا أن يتحاكموا إلى غيره.
فائدة عظيمة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن العظيم:
أهل السنة والجماعة يعتقدون سلامة القرآن العظيم من التحريف، والتبديل، والتغيير، والنقص، والزيادة بأي وجه من الوجوه، ويرون أن القول بذلك طعن في وعد الله تعالى الذي لا يتخلف، وذلك قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر:9].
والظن بأن الصحابة أو بعضهم أقدم على ذلك طعن في الله، وفي رسوله.
ذلك أن الله تعالى لم يكن لينصر رسوله على أمم الكفر والشرك، ثم يحيطه بجماعة من المنافقين يربيهم ويعلمهم ويؤاكلهم ويجالسهم ويعيش دهره معهم، وهم خونة فجرة، لا يؤتمنون على وحي، ولا يصلحون لحمل الرسالة، وتبليغ الدين، فأي طعن في الله تعالى فوق هذا الطعن؟! وأي تكذيب لوعد الله بالنصر والتمكين وإكمال الدين فوق هذا التكذيب؟!.
وكيف يسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهداية أمم الأرض من حوله، وهو عاجز عن أن يصطفي جماعة قليلة من حوله؟!.
وأي نصر وفتح يهبه الله له، وهو لا يفتأ يؤاكل ويجالس، بل ويصاهر ويناسب كفاراً منافقين سيسعون إلى تغيير القرآن وتبديله كما يزعم هؤلاء؟!.
والظن بأن الصحابة الذين جمعوا القرآن، ودونوه يمكن أن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه طعن في الدين كله، وهل جاءنا الدين إلا عن طريقهم؟! وهل وصول الإسلام إلينا إلا ثمرة من ثمار دعوتهم وجهادهم؟!
ومن هنا كان قول أهل السنة والجماعة، أن من ادعى وجود التحريف في القرآن فهو كافر، ومن قال قولاً يفضي إلى تضليل الأمة فهو كافر.
وقد كتب أهل السنة في ذلك كتابات متنوعة، منها ما يذكرونه في أبواب الردة من كتب الفقه، وينصون على حكم هذه المسألة، ومنها ما هو في سياق الرد على الزنادقة والملاحدة والطوائف المنحرفة، ومنها ما يذكر في كتب الاعتقاد في بيان منزلة القرآن الكريم. ومنها تآليف معاصرة اهتمت بتقرير المسألة، ودحض شبهات المخالفين.
ومن كلام أهل السنة في ذلك:
قال القاضي عياض: “وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، مما جمعه الدفتان من أول “الحمد لله رب العالمين” إلى آخر ” قل أعوذ برب الناس” أنه كلام الله، ووحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك، أو بدله بحرف آخر مكانه، أو زاد فيه حرفاً مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأجمع على أنه ليس من القرآن عامداً لكل هذا أنه كافر”([38]).
وقال ابن قدامة في لمعة الاعتقاد “ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر”.
وليعلم أن بعض ضعاف العقول ظنوا أن إثبات النسخ نوع من التحريف، وحاولوا أن يشنعوا على أهل السنة بذلك، وهذا ناشئ من الجهل، واتباع الهوى، فإن النسخ قد دل عليه القرآن وأثبتته السنة، ولا يصدر إلا عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن زعم أن في كتب السنة روايات صحيحة تعتمد شيئاً من تحريف القرآن فهو كاذب.
ومن ادعى أن روايات التحريف عند غير أهل السنة مقابلة بمثلها عند أهل السنة فهو مغالط، وذلك من وجهين: الأول: أن القضية ليست في روايات قد تصح، وقد تضعف، ولكن في تصريح بعض أئمة الضلال بكون القرآن محرفاً ومبدلاً ومغيراً.
والثاني: أنه على فرض وجود روايات من ذلك عند أهل السنة، فهي ساقطة باطلة قابلها أهل السنة بالإنكار، وحكموا على من اعتقد هذا التحريف بالكفر والردة، وهذا ما لم تفعله الفرق المنحرفة الطاعنة في القرآن، فإنهم يثبتون الروايات، ويتبنون ما تدل عليه، ولا يجرؤون على تكفير من اعتقدها ودان بها.
رابعاً: الإيمان بالأنبياء والرسل:
الإيمان بالرسل ركن عظيم من أركان الإيمان، وأصل من أصوله المنصوص عليها من القرآن والسنة، والتي لا يتحقق الإيمان إلا بها، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، فذكر سبحانه أن الإيمان بالرسل من جملة ما آمن به الرسول والمؤمنون، وجعل سبحانه الإيمان بالرسل براً وصدقاً وتقوى، فقال تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
الإيمان بالأنبياء والمرسلين – عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم – هو الاعتقاد الجازم بنبوتهم ورسالتهم وما جاءت به النصوص بشأنهم.
ويتحقق الإيمان بهم بأمور، منها:
1- اعتقاد أن الله تعالى اصطفاهم واجتباهم على علم ليكونوا سفراء بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
2- اعتقاد صدقهم، وتصديق الله تعالى لهم فيما جاءوا به من عنده، وأنهم ما قالوا عليه إلا الحق.
3- الإيمان بأنهم أشرف الأمم أنساباً، وأطيبهم أعراقاً، وأزكاهم نفوساً، وأكرمهم أخلاقاً، وأعظمهم شرفاً وسؤدداً.
4- أنهم بلّغوا رسالاتهم إلى أممهم، ولم يكتموا منها شيئاً، ونصحوا لمن أرسلوا إليهم، وبيّنوا ما أرسلوا به بياناً شافياً، قامت به عليهم الحجة، واتضحت به المحجَّة، وزالت به المعذرة، ووجب على الأمم العمل به.
5- اعتقاد عصمتهم عن الخطأ فيما بلغوا عن ربهم من الدين، وكذلك ما أرشدوا به أممهم من أمر الدنيا جازمين، وكذلك اعتقاد عصمتهم من كبائر الذنوب، وأما الصغائر فقد تقع منهم لكنهم لا يقرون عليها؛ بل ينبهون بشأنها ويوفقون للمبادرة إلى التوبة منها.
6- اعتقاد فضلهم، وتفضيل الله تعالى بعضهم على بعض على نحو ما جاءت به الآيات والأحاديث الصحيحة، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253].
7- اعتقاد أنهم أكمل الخلق علماً وعملاً، وأبرّهم وأرحمهم، وأن الله برأهم من كل عيب خِلْقِي وكل خُلُق رذيل.
8- وجوب الاهتداء بهديهم على أممهم، وكمال التأسّي بهم، وطاعتهم، واتباع من أرسل إلينا منهم وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
خامساً: الإيمان باليوم الآخر:
ومعناه هو التصديق بمجيئه وما يكون فيه والحكمة منه على النحو الوارد في الكتاب والسنة، ويتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبرنا به الله عز وجل ورسوله مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، والبعث والحشر والصحف والحساب والميزان والحوض والصراط والشفاعة والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما جميعاً.
سادساً: الإيمان بالقدر خيره وشره:
الإيمان بالقدر من أصول الاعتقاد، وسبيل أهل الرشاد، التي دلّ عليها القرآن، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}[القمر:53]، وقال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان :2].
* ودلّت عليها السنة الصحيحة، كما في حديث جبريل الطويل وفيه: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)([39]).
* وأجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، فقد ثبت عن عدد من الصحابة الذين أدركوا طائفة القدرية الضالة – نفاة العلم – وردوا بدعتهم بالدلائل من الكتاب والسنة، وأخبروهم أن العبد لا يذوق طعم الإيمان ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا ينجو من النار حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وتبرؤوا ممن أنكر القدر أو تكلّم فيه بخلاف الشرع.
ومعنى الإيمان بالقدر: هو التصديق التام والاعتقاد الجازم بما يأتي:
1- الإيمان بعلم الله القديم بالأشياء قبل كونها على ما هي عليه، وأنه تعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فقد أحاط الله تعالى بكلِّ علماً، وعلمه غير مسبوق بجهل، ولا يعرض له نسيان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62].
2- والإيمان بأن هذا العلم مكتوب في اللوح المحفوظ، فإن الرب تبارك وتعالى خلق القلم فأمره بكتابة المقادير إلى يوم القيامة فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وكان ذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة، قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53]، أي: مكتوب مسطور في كتاب.
3- والاعتقاد الجازم بأنه لا يكون في ملكه تعالى شيء من إيجاد أو عدم أو حركة أو سكون، ولا فعل ولا ترك، ولا طاعة أو معصية إلا بمشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، مالك الملك ومدبره بمشيته وحكمته، لا مالك غيره، ولا ربَّ سواه.
4- التصديق التام بأن الله تعالى خالق كل شيء لا خالق غيره، فهو خالق العباد وأعمالهم خيرها وشرها، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3].
5- والعلم بأن ما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
والقدر سر الله في الخلق وتدبيره الملك، وهو دليل على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته وقوته ولطفه، فمن لا يؤمن بربوبية الله وأسمائه وصفاته فإنه لا يؤمن بالقدر حقاً.
المبحث الخامس: مسائل في الإيمان:
أولاً: تعريف الإيمان:
هو التصديق الجازم، والإقرار الكامل، والاعتراف التام؛ بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه وحده العبادة، واطمئنان القلب بذلك اطمئناناً تُرى آثاره في سلوك الإنسان، والتزامه بأوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه.
وأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رسول الله، وخاتم النبيين، وقبول جميع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا وعن دين الإسلام؛ من الأمور الغيبية، والأحكام الشرعية، وبجميع مفردات الدين، والانقياد له صلى الله عليه وسلم بالطاعة المطلقة فيما أمر به، والكف عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وزجر؛ ظاهراً وباطناً، وإظهار الخضوع والطمأنينة لكل ذلك.
ثانياً: الإيمان مركب من قول وعمل:
من أصول أهل السنة والجماعة التي اتفقوا عليها في مسمى الإيمان أن الإيمان مركب من: (قول، وعمل)، أو (قول، وعمل، ونية)، أو (قول، وعمل، ونية، واتباع السنة).
فمسمى الإيمان يطلق عند أهل السنة والجماعة على هذه الخصال مجتمعة، لا يجزئ أحدها عن الآخر، وهذه الأمور هي: قول القلب وقول اللسان وعمل القلب والجوارح
فقول القلب: هو معرفته للحق، واعتقاده، وتصديقه، وإقراره، وإيقانه به؛ وهو ما عقد عليه القلب، وتمسك به، ولم يتردد فيه، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزُّمَر:33، 34]. وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ)([40]).
وقول اللسان: معناه النطق بالشهادتين، والإقرار بلوازمها.
وعمل اللسان: ما لا يؤدى إلا به؛ كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار؛ من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والدعاء، والاستغفار، والدعوة إلى الله تعالى، وتعليم الناس الخير، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى باللسان؛ فهذا كله من الإيمان.
وعمل القلب: المراد به نيته، وتسليمه، وإخلاصه، وإذعانه، وخضوعه، وانقياده، والتزامه، وإقباله إلى الله تعالى، وتوكله عليه – سبحانه – ورجاؤه، وخشيته، وتعظيمه، وحبه وإرادته.
وعمل الجوارح: يكون بفعل المأمورات والواجبات، وترك المنهيات والمحرمات.
ثالثاً: معنى الإيمان حال الإطلاق والتقييد.
لفظ الإيمان في الكتاب والسنة جاء على نوعين: مقيد ومطلق.
النوع الأول: الإيمان المقيد.
الإيمان المقيد: المراد به الإيمان بأركان الإيمان الستة إيمانًا مجملاً عامًا، وهذا فرض عين، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يؤمن إيمانًا عامًا مجملاً بهذه الأركان، لحديث جبريل أنه -عليه الصلاة والسلام- لما سئل عن الإيمان قال: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)([41]). فالإيمان المجمل العام دون تفاصيل هذا واجب على كل مسلم ومسلمة.
وحقيقة الإيمان المقيد أن يكون مع صاحبه الحد الأدنى من الإيمان الذي هو شرط صحة الإيمان والنجاة من الخلود في النار في الآخرة إن مات على ذلك، وبه تثبت الأحكام من فرائض ومواريث، وهذا الإيمان غير قابل للنقصان، لأن نقصانه يعني خروج الإنسان عن اسم الإيمان.
وهذه المرتبة من الإيمان يطلق على صاحبها الإسلام أو الإيمان المقيد (مؤمن ناقص الإيمان أو فاسق, فيدخل تحت هذه المرتبة أهل الكبائر عموماً, وكذلك من أسلم من أهل الطاعة ممن لم تدخل حقائق الإيمان في قلوبهم.
أيضاً كل من أزالت عنه النصوص الإيمان من أهل المعاصي هو داخل تحت هذه المرتبة لأن المنفي في النصوص هو حقيقة الإيمان، وكماله أو الإيمان الواجب، أما أصل الإيمان فلا ينتفي إلا إذا وقع في الكفر الأكبر ومن أمثلة ذلك:
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ, وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ, وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ) قَالُوا: مَنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ” ([42])، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ)([43]).
وقوله: (لَا يَزْنِي اَلزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ اَلْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ اَلنَّاسُ أَبْصَارَهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)([44]).
وغير ذلك من النصوص التي جاءت بنفي اسم الإيمان عن بعض المسلمين ممن يقع في شيء من المعاصي فنفي الإيمان عن أصحاب هذه الذنوب لا يعني إخراجهم من الإيمان ولا نفي التصديق الذي بقلوبهم، وإنما يعني نفي كماله الذي به يستحقون هذا الإطلاق.
النوع الثاني: الإيمان المطلق.
الإيمان المطلق ويقال عنه الإيمان الكامل، أو الإيمان المفصل أو حقيقة الإيمان، وهو أن يكون صاحبه ممن يؤدى الواجبات وبتجنب الكبائر وهو ممن وعد بالجنة بلا عذاب.
دليل ذلك قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21] الآية.
فهَؤلاء اِجْتمعت لهم الأعمال الظَّاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم وتركوا ما حرَّم الله عليهم، فنالوا هذا الأجر العظيم.
فإن أتى بكبيرة من الكبائر فلا يوصف بالإيمان المطلق، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب ودخول الجنة بلا عذاب، وهؤلاء معرضون للوعيد ودخول النار إلا أن يشاء الله.
رابعاً: دخول الأعمال في مسمى الإيمان عند أهل السنة:
من أصول أهل السنة والجماعة التي اتفقوا عليها في مسمى الإيمان أن الإيمان قول وعمل واعتقاد قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
وقد خالف أهل السنة في دخول الأعمال في مسمى الإيمان طائفتان:
الأولى: طائفة ترى أنَّ الإيمان قول واعتقاد وعمل، إلا أنهم يعتقدون أنَّ الإيمان كلٌّ واحد لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب كلُّه، ويخرج العبد من الإيمان بارتكابه الكبيرة أو فعله المعصية. وهذا هو مذهب الخوارج والمعتزلة. وزاد الخوارج الحكم بدخوله في الكفر، ويوم القيامة يكون مخلداً في النار. وقالت المعتزلة: بل يبقى في منزلة بين المنزلتين، ويوم القيامة يكون مخلداً في النار.
الثانية: من أخرجوا العمل من مسمى الإيمان، وهم المرجئة، وإنما سُمُّوا بذلك لأنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان.
ومن أدلة أهل السنة على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان:
قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، ثبت في سبب نزول هذه الآية أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}”([45]).
وقد أجمع المفسرون على أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فثبت أن الصلاة إيمان، وإذا ثبت ذلك، فكل طاعة إيمان.
كذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2-4].
وقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62].
ففي هذه الآيات إشارة إلى أن جميع الأعمال المذكورة من واجبات الإيمان فلهذا نفي الإيمان عمن لم يأت بها، فإن حرف إنما يدل على إثبات المذكور ونفي غيره.
ومن الأدلة الصريحة في ذلك حديث وفد عبد القيس وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (آمركم بالإيمان بالله وحده)، وقال: (هل تدرون ما الإيمان بالله وحده”؟) قالوا: الله ورسوله أعلم قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا من الغنائم الخمس)([46]).
ففي هذا الحديث فسر الرسول صلى الله عليه وسلم للوفد الإيمان هنا بقول اللسان، وأعمال الجوارح ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، وقد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق مع العلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)([47]).
وقوله صلى الله عليه وسلم : (من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله فقد استكمل إيمانه)([48]).
خامساً: العلاقة بين الإسلام والإيمان والإحسان، والفرق بينها:
جاء ذكر الإسلام والإيمان والإحسان في حديث جبريل ومجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن هذه الأمور الثلاثة فأجاب عن الإسلام بامتثال الأعمال الظاهرة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وعن الإيمان بالأمور الباطنة الغيبية، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وعن الإحسان بمراقبة الله في السر والعلانية، فقَال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فإذا ذكرت هذه الأمور الثلاثة مجتمعة كان لكل واحد منها معنى خاص، فيقصد بالإسلام الأعمال الظاهرة ويقصد بالإيمان الأمور الغيبية.
ويقصد بالإحسان أعلى درجات الدين وإذا انفرد الإسلام دخل فيه الإيمان وإذا انفرد الإيمان دخل فيه الإسلام وإذا انفرد الإحسان دخل فيه الإسلام والإيمان.
وخلاصة ما يمكن أن يقال في الفرق بين الإيمان والإسلام والإحسان ما يأتي:
1- الإسلام والإيمان إذا قُرِن أحدهما بالآخر فالمقصود بالإسلام: الأعمال الظاهرة، وهي الأركان الخمسة، والمقصود بالإيمان: الأعمال الباطنة، وهي أركان الإيمان الستة، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه.
2- دائرة الإحسان أعم من دائرة الإيمان، ودائرة الإيمان أعم من دائرة الإسلام، فالإحسان أعم من جهة نفسه؛ لأنه يشمل الإيمان، فلا يصل العبد إلى مرتبة الإحسان إلا إذا حقق الإيمان، والإحسان أخص من جهة أهله؛ لأن أهل الإحسان طائفة من أهل الإيمان، فكل محسن مؤمن، وليس كل مؤمن محسناً.
3- الإيمان أعم من الإسلام من جهة نفسه؛ لأنه يشمل الإسلام، فلا يصل العبد إلى مرتبة الإيمان إلا إذا حقق الإسلام، والإيمان أخص من جهة أهله؛ لأن أهل الإيمان طائفة من أهل الإسلام ليسوا كلهم، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً.
سادساً: زيادة الإيمان ونقصانه، والأدلة على ذلك:
من عقيدة السلف الصالح – أهل السنة والجماعة – التي أجمعوا عليها: أن الإيمان يزيد وينقص، وأهله يتفاضلون فيه.
فيزيد الإيمان بأعمال القلب والجوارح وبقول اللسان؛ كالطاعات والعبادات؛ من التصديق والمعرفة والعلم، وذكر الله تعالى، والحب والبغض في الله، والخوف والرجاء من الله، والتوكل على الله .. الخ، والقيام بجميع شعائر الدين من الأعمال الصالحة.
وينفص الإيمان بأعمال القلب والجوارح وبقول اللسان؛ كفعل المعاصي والمنكرات، وارتكاب الذنوب والكبائر، والأقوال والأفعال الرديئة، وبغفلة القلب ونسيان ذكر الله تعالى، وبالحسد، والكبر، والعجب، والرياء والسمعة، والجهل، والإعراض، والتعلق بالدنيا، وقرناء السوء، وجميع الأعمال الطالحة.
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على زيادة الإيمان ونقصانه وأن أهله متفاضلون فيه، فبعضهم أكمل إيماناً من بعض منهم السابق بالخيرات ومنهم المقتصد ومنهم الظالم لنفسه، فمنهم المحسن ومنهم المؤمن ومنهم المسلم كما جاءت نصوص الكتاب والسنة في ذلك، فهم ليسوا في الدين في مرتبة واحدة.
وهذا هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أي أنهم يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه. الأدلة على ذلك:
أولاً: دلالة الكتاب:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124].
وقال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وقال تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدَّثر:31]
فهذه ستة مواضع من كتاب الله تدل دلالة واضحة على زيادة الإيمان. وإذا كانت هذه الآيات جاءت في التصريح بزيادة الإيمان فهي أيضاً تدل بدلالة المفهوم على نقصانه فكل ما جاز زيادته جاز عليه النقصان.
ثانياً: دلالة السنة على زيادة الإيمان ونقصانه:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ)([49]).
فالمراد من هذا الحديث نفي كمال الإيمان الواجب لمن اقترف هذه المعاصي وأنه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان.
فالمؤمن قد يرتكب هذه المعاصي فينقص إيمانه فيكون مؤمناً ناقص الإيمان فإن تاب وأقلع عن هذه المعاصي زاد إيمانه.
وممن احتج بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه جماعة من أهل العلم منهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى. قال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله عن الإيمان ونقصانه فقال: نقصانه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ..)([50]).
وقال أيضاً رحمه الله: “الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقال الزيادة في العمل وذكر النقصان إذا زنى وسرق”([51]).
الدليل الثاني: ومن الأدلة أيضاً على زيادة الإيمان ونقصانه من السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)([52]).
وجه الدلالة من الحديث أن هذه الشعب المذكورة في الحديث ليست على درجة واحدة في الفضل بل بعضها أفضل من بعض كما هو ظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (أعلاها) وقوله: (أدناها)، فشعب الإيمان منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق.
ولهذا استدل بهذا الحديث علماء السنة على زيادة الإيمان ونقصانه.
الدليل الثالث: ومن الأدلة أيضاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ)([53]).
فهذا الحديث احتج به الإمام البخاري على زيادة الإيمان ونقصانه، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن القائلين لا إله إلا الله متفاوتون في إيمانهم وأن منهم من يدخل النار بتفريطه وتقصيره في طاعة الله وأنه لا يخلد في النار لوجود أصل الإيمان معه فلا يسوي في الإيمان بين من معه إيمان يمنعه من دخول النار كلية وبين من لم يمنعه إيمانه من دخولها لتفريطه وكثرة معاصيه أن يمكث فترة قصيرة في النار وبين من استوجبت له أن يمكث فترة أطول.
وبهذه الأدلة نرى أن مذهب أهل السنة في هذه المسألة -أعني مسألة زيادة الإيمان ونقصانه- هو المذهب الصحيح بخلاف ما ذهب إليه بعض الطوائف الأخرى من القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه أو زيادته دون نقصانه أو توقف في النقصان دون الزيادة.
سابعاً: أوجه أسباب زيادة الإيمان ونقصانه.
المسلم الحق هو الذي يبحث عما يقوي به إيمانه فيقوم بفعله ويتعرف عما ينقص به إيمانه ليحذر منه ويتجنبه. ومن أوجه زيادة الإيمان ونقصانه؟
1- تعلم العلم النافع:
من أعظم ما يزيد الإيمان تعلم العلم النافع المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس العلم المبني على الفلسفة والمنطق فإن هذا العلم يورث صاحبه الكآبة والسآمة ونقصان الدين ولذا حذر السلف من هذا العلم.
فأعظم العلم هو العلم بالله وأسمائه وصفاته وشرعه، فهذا الذي يورث العبد زيادة في إيمانه قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
2 – قراءة القرآن بتدبر:
فهي من أعظم أبواب العلم المؤدية إلى زيادة الإيمان وثباته وقوته، قال ابن القيم –رحمه الله-: “وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله…”([54]).
3 – معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى:
من أعظم الأمور التي يزداد بها القلب إيماناً معرفة الربّ سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة والتي تدل على كمال الله المطلق من كافة الوجوه.
4 – تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم :
فهذا من أسباب زيادة الإيمان فالنظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم ودراستها وتأمل ما ذكر فيها من نعوته الطيبة وخصاله الكريمة وشمائله الحميدة وغير ذلك من الخصال الحميدة فإن العبد يزداد إيمانه بذلك، وتحصل هذه الزيادة من جهة أنه متى عرف خصال النبي الكريم –صلوات الله وسلامه عليه- ازداد في محبته له وأورثته هذه المحبة متابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم في القول والعمل وبالتالي يزداد إيمان العبد من جهة هذه المتابعة.
5 – تأمل محاسن الدين الإسلامي:
الدين الإسلامي كله محاسن، عقائده أصلح العقائد وأصدقها وأنفعها، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها.
وبهذا النظر الجليل والتأمل الجميل في محاسن هذا الدين يزيد الله الإيمان في قلب العبد ويحببه إليه كما امتن به على خيار خلقه بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحُجُرات:7].
فيكون الإيمان في القلب أعظم المحبوبات وأجمل الأشياء وبهذا يذوق العبد حلاوة الإيمان ويجدها في قلبه.
6 – قراءة سيرة السلف الصالح:
سيرة السلف الصالح –رضوان الله عليهم- من أصحاب النبي وتابعيهم بإحسان تعد من أعظم ما يزيد القلب إيماناً ومحبة لله وإجلالاً له، فهم خير القرون وحماة الإسلام وأهل المشاهد والمواقف العظام، وهم حملة هذا الدين وأقوى الناس إيماناً وأرسخهم علماً وأبرهم قلوباً وأزكاهم نفوساً اختارهم الله لنصرة دينه ونصرة نبيه فقاموا بذلك أعظم قيام فرضي الله عنهم جميعاً.
وكما أن هناك أسباباً تزيد الإيمان وتقويه فهناك أسباب تنقص الإيمان وتضعفه، ومن أعظم أسباب نقص الإيمان ما يلي:
(1) الجهل بالله وشرعه.
فهذا من أعظم أسباب نقص الإيمان كما أن العلم من أعظم أسباب زيادته، فالمسلم العالم لا يؤثر محبة وفعل ما يضره ويشقى به ويتألم به على ما فيه نفعه وفلاحه وصلاحه.
وخلاصة القول هنا أن الجهل بالله وبأسمائه وصفاته من أعظم الأمور التي تضعف الإيمان فهو داء خطير ومرض فتاك يجر على صاحبه من الويلات والعواقب الوخيمة الشر الكثير.
(2) الغفلة والإعراض والنسيان.
هذه الأمور سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان، فمن اعترته الغفلة وشغله النسيان وحصل فيه الإعراض نقص إيمانه وضعف بحسب هذه الأمور الثلاثة وأوجبت له مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه.
(3) فعل المعاصي وارتكاب الذنوب.
لا يخفى ما في ذلك من ضرر وسوء الأثر على الإيمان، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فكما أن فعل ما أمر الله به من واجب ومندوب يزيد في الإيمان فكذلك فعل ما نهى الله عنه من محرم ومكروه ينقص الإيمان.
ثامناً: ما يناقض الإيمان.
إذا كان الإيمان لا يتحقق إلا بتحقق عناصره من القول والعمل في الظاهر والباطن، وإذا كان الكفر هو تخلف أحد هذه العناصر مما يمس أصل الإيمان، فإن تحقق الإيمان لشخص ما لا يضمن له النجاة من الكفر إلا إذا مات على هذا الإيمان ولم ينقضه بقول أو عمل أو اعتقاد.
ونواقض الإيمان من الأقوال والأفعال والاعتقادات قد أفردها كثير من العلماء وجعلوا لها باباً خاصاً بها سموه باب المرتد.
والردة في الشرع هي: “الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام”، وتحصل هذه الردة تارة بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بالاعتقاد.
ا – نواقض الإيمان القولية.
وذلك كأن يسب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو أن يدعي أنه يوحى إليه، أو يدعي النبوة، أو يدعي أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها، وكذا لو سبَّ نبياً من الأنبياء، أو استخف به؛ فكل ذلك يعد ناقضاً من نواقض الإسلام.
ب – نواقض الإيمان الفعلية.
تحصل الردة بالفعل كأن يسجد لصنم أو الشمس أو القمر، أو أن يلقي المصحف في القاذورات، وكذا أن يذبح لغير الله؛ كأن يذبح للأصنام، وكذا السخرية بأسماء الله تعالى أو بأمره ووعيده، أو قراءة القرآن على ضرب الدف، أو فعل فعلاً أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا عن كافر وإن كان مصرحاً بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب ونحو ذلك، فهذا ردة عن دين الإسلام.
ج _ نواقض الإيمان الاعتقادية.
كأن يعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو اعتقد نفي ما هو ثابت لله بالإجماع، أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع كالألوان والاتصال والانفصال، أو استحل ما هو حرام بالإجماع، أو حرَّم حلالاً بالإجماع، أو استحل الخمر أو لحم الخنزير أو الزنا أو اللواط، أو أن السلطان يحلل ويحرم، أو أن يرضى بالكفر، أو أن يعتقد أن هذا الكون له مدبر غير الله؛ فيعتقد في الأولياء أنهم يدبرون حوائج الناس، أو اعتقد أن الولي أفضل من النبي، ونحو ذلك مما يعتقده عباد القبور كل هذا يعد ناقضاً من نواقض الإيمان.
تاسعاً: أثر المعاصي على الإيمان.
ذكرنا فيما سبق أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فللمعصية دور كبير في نقصان الإيمان لكن المعاصي درجات فبعضها كفر وبعضها ليس بكفر، وما ليس بكفر منها ما هو كبيرة من كبائر الذنوب ومنها ما هو صغيرة، وبيان ذلك كالآتي:
(1) المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر.
جاءت نصوص الكتاب والسنة مبنية ما هو من المعاصي مخرج من الملة وما هو غير مخرج من الملة، وأخبرت هذه النصوص أن الأولى – أعني المعاصي المخرجة من الملة- لا تغفر إلا بالتوبة وتجديد الإيمان وأن الثاني صاحبها في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48].
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحُجُرات:7].
ففي الآية الأولى يبين سبحانه وتعالى أنه لا يغفر لأحد مات على الشرك وما دون الشرك فإنه يغفره لمن يشاء من عباده.
وفي الآية الثانية: لما كانت المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر فرّق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر ونوع منها فسوق وليس بكفر ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق وأخبر أنه كرَّهها كلها إلى المؤمنين.
وإذا كانت المعاصي درجات فكما ذكرنا أنها أيضاً درجات في التوبة فمنها ما تحتاج إلى توبة وتجديد إيمان مثل معصية الشرك أو الكفر فإنه لا يغفرها سبحانه إلا بذلك، أما المعاصي الأخرى فصاحبها تحت المشيئة على ما ذكرناه.
المعاصي التي ليست بكفر:
المعاصي التي هي دون الكفر أو الشرك المخرج من الملة ذهب السلف والخلف إلى انقسامها إلى قسمين: كبائر وصغائر.
دليل هذا التقسيم قوله صلى الله عليه وسلم: (الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)([55]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)([56]).
عاشراً: آثار الإيمان على الفرد والمجتمع.
للإيمان بالله تعالى آثار عظيمة على حياة الأفراد والشعوب وهذه جملة من آثاره:
1 – من أعظم ثمرات الإيمان وأجلها محبة الله لأهل الإيمان.
2 – ومن آثار الإيمان على الأفراد والمجتمعات زيادة الأمن في البلدان على الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب. يقول المولى سبحانه: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فالمؤمنون آمنون في الدنيا؛ لكمال خوفهم من الله، آمنون في الآخرة تتلقاهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
3 – الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، فهو ثبات يوم أن تمتحن الأمة بأعدائها، وهو ثبات للداعي في دعوته، وللمريض عند مرضه حتى الممات، وهو ثبات أمام الشبهات والشهوات.
4 – ومن آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب. يقول [ابن أبي مليكة] كما في [البخاري]:”أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل”.
5 – نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات وحزبيات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقا التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات:13]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحُجُرات:10]، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد المؤمنين واحد، وبنيانهم واحد، أمة واحدة، لا شرق ولا غرب.
6 – ومن آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
7 – أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات. قال صلى الله عليه وسلم : (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)([57]).
8 – ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه يكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطأ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.
9 – ومن آثار الإيمان: سعة الرزق لأهل الإيمان والبركة فيه.
10 – ومن آثار الإيمان صدق التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، إن أصابهم خير حمدوا الله -جل وعلا- وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان حالهم ومقالهم:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]، { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12].
11 – انشراح الصدر، وطمأنينة القلب { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزُّمَر:22]، فالمؤمن منشرح الصدر، مطمئن القلب، قد آمن بالله ربَّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً فذاق حلاوة الإيمان، فانشرح صدره.
12 – ومن آثار الإيمان على الحياة بعمومها نجاة سفينة الأمة، ووصولها لبر الأمان نتيجة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي هو من الإيمان، بل هو عماد من أعمدة الإيمان.
13 – حفظ الجوارح، وتذليلها لطاعة الله، وانقيادها لأوامر الله؛ ومن ذلك حفظ القلب من الشهوات والشبهات. وحفظ اللسان من الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين والإفساد. وحفظ السمع والبصر فيما حرَّم الله وحفظ البطن عن أكل الحرام فلا يدخل له إلا ما أحله الله.
14 – ومن آثار الإيمان على الحياة آثاره على المجالس، حيث يجعلها رياضًا من رياض الجنة، ملائكة تحفُّ، ورحمة تتنزل، وسكينة تغشى.
15 – يكون المؤمن ذا نفس شفافة شفيقة وقلب رقيق أسيف، يتأثر بذكر الله، فيخشع قلبه، وتسيل دمعته، ولا يكون قاسيا جلفا، يقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
16 – ومن أعظم آثار الإيمان وأجلها وأكرمها رضوان الله عن العبد، قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وقال عن أهل الإيمان: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البيِّنة:8]، وهل الخشية إلا الإيمان.
المبحث السادس:
مسائل التكفير والتفسيق:
لا يجوز تكفير المسلم إلا بدليل ساطع، لا مدافع له، إذ الشهادة بالكفر على الموحد من أعظم الزور والظلم والبهتان.
قال الشوكاني: “اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن (من قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما) …. إلى أن قال رحمه الله: ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير”([58]).
وأما ابن حزم فإنه يرى أن البرهان المطلوب للحكم بكفر المسلم ينبغي أن يكافئ ما ثبت به إسلامه، فلا يرفع عنه اسم الإسلام إلا بنص أو إجماع: “والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام، فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا.
فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام، وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا، وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقولاً نقل إجماع تواتراً أو نقل آحاد”([59]).
وبمثله قال الباقلاني: “ولا يكفر بقول ولا رأي إلا إذا أجمع المسلمون على أنه لا يوجد إلا من كافر، ويقوم دليل على ذلك، فيكفر”([60]).
أولاً: النصوص القرآنية والنبوية في التحذير من التكفير.
لقد حذّر الشارع الحكيم من تكفير أحد من المسلمين، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لَا يَرمِي رجلٌ رَجُلًا بالفُسوقِ وَلَا يَرمِيهُ بِالكُفر إِلا ارتَدَّتْ عَليه إِن لَم يَكن صَاحِبُه كَذلِك)([61]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ)([62]).
وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم “([63]).
يقول ابن تيمية رحمه الله: “إني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحُجّة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية “([64]).
فائدة مهمة:
عندما نقرر خطورة هذه المسألة، والتحذير من تكفير من ليس بكافر، فلا يعني تهوين هذه المسألة، وإغلاق باب الردة بالحكم بإسلام من ظهر كفره بالدليل والبرهان، فهذا المسلك لا يقل انحرافًا وخطرًا عن سابقه، وكلا الطرفين مذموم.
ولقد أخطأ قوم، فأرادوا الرد على أولئك الغلاة، فسلكوا مسلك الإرجاء، فالواجب أن نحذر من أسلوب رد البدعة ببدعة، ولا يُقابَل الباطل بباطل، كما يتعيّن بيان هذه المسألة بعلم وعدل، فأهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق.
وإن أول نزاع حدث في الأمّة هو النزاع في التكفير. فكان أول بدعة حدثت في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنوب، إضافة إلى أن بدعتهم أظهر البدع ذمًا للسنة والآثار، ولقد كان باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء.
ثانياً: التكفير حكم شرعي مرده إلى الشرع.
التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة.
ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ)([65]).
وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به، لوجود مانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة – مثلا – وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به. وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: (أَلّلَهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)([66]).
وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ([67]).
ثالثاً: خطورة التكفير.
من أعظم ما أصيبت به الأمة هو تجرأ البعض على تكفير المسلمين واتهامهم بالفسق والضلال والانحراف أو النفاق وللتكفير خطورته على الأفراد خاصة والمجتمعات عامة وهذه جملة من أخطاره:
ا – أخطار التكفير على الأفراد:
1- من أخطار التكفير على الفرد أنه لا يحل لزوجته البقاء معه، ويجب أن يفرق بينها وبينه، لأن المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقن.
2-أن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه، لأنه لا يؤتمن عليهم ويخشى أن يؤثر عليهم بكفره.
- أن فقد حق الولاية والنصرة على المجتمع الإسلامي، بعد أن مرق منه وخرج عليه بالكفر الصريح، والردة البواح.
- أن يجب أن يحاكم أمام القضاء الإسلامي، لينفذ فيه حكم المرتد، بعد أن يستتيبه ولي الأمر ويزيل من ذهنه الشبهات، ويقيم عليه الحجة.
- أنه إذا مات لا تجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورث له.
- إنه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في نار جهنم.
وهذه الأحكام الخطيرة توجب على من يتصدى للحكم بتكفير خلق الله أن يتريث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول.
ب – أخطار التكفير على المجتمع:
1 – أن التكفير يعتبر تقنيطاً للمجتمع المسلم من رحمة الله تعالى.
2- يعتبر التكفير إهداراً للدم المعصوم ومن المعلوم أنه من مقاصد الإسلام العليا صيانة النفوس من إهدار دمها.
3 – كذلك من أخطار التكفير التي تجري على الفرد والمجتمع إبطال قواعد الزواج والتوارث والترحم على موتى المسلمين ولا يخفى على كل ذي عقل ما هي النتائج الوخيمة التي سوف تترتب على إبطال وإلغاء مثل هذه القواعد العظيمة في حياة الأمة المسلمة.
ج – أخطار التكفير على الإسلام والمسلمين:
من أخطار ظاهرة التكفير على الإسلام والمسلمين فشو الجهل وخفاء العلم بالدين: عقيدة وشريعة، وتشويه سماحة الإسلام وعالميته، وكذلك اختلال الأمن العام للمسلمين وغيرهم: الأمن العقدي والفكري والأمن الديني، والأمن الاجتماعي، والأمن السياسي، والعسكري، والأمن الأسري، والأمن النفسي، ولا سيما على العقل والدين والعرض والنفس والمال، وهي الضرورات الخمس التي أجمعت على حفظها شرائع الله قاطبة. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)([68])، وفي حجة الوداع في يوم عرفة قال: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا)([69]).
ولقد عانى كثير من المسلمين من ويلات هذه النهج الخاطئ فَروِّع الآمنون واستحلت دمائهم واموالهم وانتشرت هذه الفتنة وعم الاضطراب في بلاد المسلمين، فتشوهت صورة الإسلام الصحيح في نظر غير المسلمين، واستغل هذا الأمر اعداء الإسلام حيث صوروا لغير المسلمين أن دين الإسلام دين إرهاب وقتل وسرق ونهب، وقد بلغ ببعض أفراد تلك الطائفة أن استحلت الأموال العامة وسعت إلى إتلاف ما أمكن اتلافه ومحاولة زعزعة الأمن وإخافة الآمنين وإيذائهم.
رابعاً: ضوابط التكفير.
هناك جملة من الضوابط التي يجب اعتبارها عند الحكم بتكفير شخص معين ومن هذه الضوابط ما يأتي:
1- أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون بالمعاصي، ولو كانت هذه المعاصي من الكبائر وهذا ما أجمع عليه علماء أهل السنة والجماعة وقد تناولنا هذا الضابط بشيءٍ من التفصيل في مبحث الكبائر والصغائر.
2 –أن التكفير حكم شرعي لا مدخل للرأي المجرد فيه، لأنه من المسائل الشرعية لا العقلية، لذا صار القول فيه من خالص حق الله تعالى لا حَقَّ فيه لأحد من عباد، فالكافر من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا غير.
3 – أن للحكم بالردة والكفر موجبات وأسباباً هي نواقض الإيمان والإسلام، من اعتقاد، أو قول، أو فعل، أو شك، أو ترك، مما قام على اعتباره الدليل الساطع من الكتاب أو السنة، أو الإجماع، فلا يكفي الدليل الضعيف السند، ولا مشكل الدلالة، ولا عبرة بقول أحد كائنا من كان إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح.
4 – أنه يتعين التفريق بين التكفير المطلق وهو: التكفير على وجه العموم في حق من ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، وبين تكفير المعين، فإن الاعتقاد أو القول، أو الفعل، أو الشك، أو الترك، إذا كان كفرا فإنه يطلق القول بتكفير من فعل ذلك الفعل، أو قال تلك المقالة وهكذا ... دون تحديد معين به. أما المعين إذا قال هذه المقالة، أو فعل هذا الفعل الذي يكون كفرا، فينظر قبل الحكم بكفره، بتوفر الشروط، وانتفاء الموانع في حقه، فإذا توفرت الشروط، وانتفت الموانع، حكم بكفره وردته يستتاب فإن تاب وإلا قتل شرعاً. وسيأتي مزيد من التوضيح لهذا الضابط بمشيئة الله تعالى عند بيان الفرق بين كفر النوع وكفر العين.
5 – أن الأصل عدم تكفير كل مخالف لأهل السنة والجماعة، بل ينزل حكمه حسب مخالفته من كفر، أو بدعة أو فسق أو معصية وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة بخلاف غيرهم من أهل الأهواء، فان كثيرا منهم يكفِّرون كل من خالفهم.
6- أن التكفير حكم شرعي لا مدخل للرأي المجرد فيه، لأنه من المسائل الشرعية لا العقلية، لذا صار القول فيه من خالص – حق الله تعالى – لا حَقَّ فيه لأحد من عباده، فالكافر من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا غير.
7- التحذير الشديد، والنهي الأكيد عن سوء الظن بالمسلم فضلا عن النيل منه فكيف بتكفيره والحكم بردته والتسرع في ذلك بلا حجة ولا برهان من كتاب ولا سنة.
8 – انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين، بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه، وتنتفي الموانع كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فهذه جملة من الضوابط التي يجب مراعاتها والتنبه لها في هذه المسألة العظيمة التي أدت إلى تفريق كلمة المسلمين.
فينبغي التورع والتثبت في المسألة حيث تورع جمهور العلماء من تكفير من اقتضت النصوص كفره من الخوارج فقد امتنع كثير من الصحابة الكرام ومن جاء بعدهم من أهل العلم من تكفير الخوارج مع ورود النصوص التي تبين أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميه، ويبين الإمام النووي-رحمه الله- مذهب أهل السنة فيقول: “واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أهل الأهواء والبدع وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك فان استمر حكم بكفره وكذا حكم من استحل الزنى أو الخمر أو القتـل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة”([70]).
خامساً: شروط التكفير.
1– ثبوت أن هذا القول أو الفعل أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإذا لم يثبت أن هذا القول، أو الفعل، أو الترك كفر فلا يحل أن يحكم بأنه كفر لأن ذلك من القول على الله بغير علم وقد قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
2- ثبوت قيامه بالمكلف، فلا يحل أن يرمى إنسان بالكفر لمجرد الظن وقد سبق الإشارة إلى ذلك في ضوابط التكفير قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
3- بلوغ الحجة: قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115]، وقال عز وجل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: “فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة”([71]).
4- انتفاء موانع التكفير في حقه وسيأتي الحديث عنها.
5- العلم فلا بد أن يكون عالماً بمخالفته التي وجب من خلالها إطلاق حكم الكفر عليه. قال سبحانه: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ([72]).
سادساً: موانع التكفير.
1 – الإكراه:
والإكراه هو أن يقع منه الكفر أو الفسق بغير إرادة منه، فمن يكره على الكفر، فيفعله لداعي الإكراه، لا اطمئناناً به، فلا يكفر لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
قال القرطبي رحمه الله: ” أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر هذا قول مالك والكوفيين والشافعي غير محمد بن الحسن قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر وهو قول مردود بالكتاب والسنة” ([73]).
2 – ومن موانع التكفير الإغلاق على المرء من شدة الفرح أو الحزن:
فقد يبلغ الفرح أو الحزن بالإنسان درجة لا يستطيع أن يميز فيها ما يقول فيصدر منه قول ظاهره الكفر، دليل ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)([74]).
قال ابن القيم رحمه الله: “وفي الحديث من قواعد العلم أن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد ونحوه لا يؤاخذ به، ولهذا لم يكن هذا كافراً بقوله أنت عبدي وأنا ربك”([75]).
3 – ومن موانع التكفير العذر بالجهل فيه:
من شروط الإيمان – عند أهل السنة والجماعة – وجود العلم والمعرفة عند الشخص المؤمن به؛ فمن أنكر أمراً من أمور الشرع جاهلاً به، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله؛ فإنه لا يكفر؛ حتى لو وقع في مظهر من مظاهر الشرك أو الكفر.
وهذا أصل مجمع عليه فالجهل يعذر الإنسان به لأنه لم يكن يعلم بهذا المكفر قبل إسلامه. أو يعيش في بلد فاش فيه الجهل، أو بعيد عن ديار العلم وأهله، أو نشأ في بلد انقلبت فيه موازين الشرع؛ فصار الشرك فيه هو التوحيد، والبدعة فيه هي السنة، وكثر فيه الانحراف، وزين فيه الباطل والكفر، ولبس عليهم. أو أنه وقع في المكفر وهو غير قاصد له، أو أن هذا المكفر من المسائل الخفية التي لا يطلع عليها إلا العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “المقالة تكون كفرا كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده كمن هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول ومقالات الجهمية هي من هذا النوع”([76]).
4 – ومن موانع التكفير العذر بالخطأ:
اتفق أئمة أهل السنة والجماعة؛ على أن الخطأ من موانع التكفير في المسائل العلمية والعملية، إذا كان اجتهاداً لطلب الحق ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير مقصود لمخالفة الشرع، وقاعدتهم في ذلك قوله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)([77]). لأن الله تعالى أمر الناس بطلب الحق على قدر وسعهم وإمكانهم؛ فإن لم يصيبوا الحق في اجتهادهم، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
فالمخطئ حكمه حكم الجاهل والمتأول لا يحكم عليه بكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5].
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد وقصد الحق فالخطأ لم يكفر بل يغفر له خطأه، ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب ثم قد يكون فاسقا وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً”([78]).
5 – ومن موانع التكفير التأويل:
اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على أن التأويل السائغ – الذي له وجه في العلم واللغة العربية – يعتبر من موانع التكفير؛ إذا كان سببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، أو الاستناد إلى الشبه التي تصرف عن اتباع الحق دون تعمد للمخالفة، أو المعارضة، أو التكذيب، أو الرد، أو العناد؛ بل اعتقاد العكس بأن الحق معه والتزامه بذلك.
وهذا النوع من المتأول إذا أخطأ، وكان من أهل الإيمان؛ فهو معذور حتى تقام عليه الحجة، وتزول عنه الشبهة.
فإذا كان الرجل لم تبلغه النصوص لمعرفة الحق، أو لم تثبت عنده، أو عجز عن فهمها فهماً صحيحاً، أو عرضت له شبهة فقال متأولاً قولاً كفرياً، أو عمل عملاً يوجب الردة فإنه يعذر ولا يكفر، إلا بعد قيام الحجة عليه وإظهار خطئه في هذا التأويل، وإعلامه بالحق فإن تمادى فإنه يكون جاحداً ومعانداً فيحكم بكفره. يقول شيخ الإسلام-رحمه الله-: “وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فان الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام”([79]).
سابعاً: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين.
يُفرِّق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ففي الأول يُطلق القول بتكفير صاحبه – الذي تلبّس بالكفر – فيُقال: من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافر، ولكن الشخص المُعيّن الذي قاله أو فعله لا يُحكم بكُفره إطلاقًا حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحُجّة التي يكفر تاركها.
فقد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت عليه شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مُجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطاياه كائنًا من كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية ، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماهير أئمة الإسلام([80]).
المبحث السابع: عقيدة المسلم
في الصحابة وأمهات المؤمنين:
أولاً: ذكر فضائلهم وشمائلهم من الكتاب والسنة:
ا – ذكر فضائلهم وشمائلهم من القرآن الكريم.
لقد تواترت نصوص الكتاب العزيز في أكثر من موضع ببيان فضائل الصحابة الكرام ومن هذه النصوص:
1- قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:172، 173].
فقد اشتملت هذه الآية على مدح عظيم للصحابة بقوة الإيمان والصبر على البلاء وتفويض كل الأمور باللجوء إلى الله تعالى، وعلى وعده تعالى للمحسنين المتقين منهم بالثواب العظيم، وقد فعلوا ما وعدهم بالثواب عليه؛ ولا خلاف بين العلماء أن الذين استجابوا لله والرسول هم المهاجرون والأنصار الذين حضروا معه وقعة أحد، أجابوا في ثاني يومها حين دعاهم إلى الخروج وراء قريش([81]).
2 – قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، إلى قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:72- 74].
وجه الدلالة من الآية أن الموصوفون بهذه الصفات الثلاث التي هي الإيمان والهجرة والجهاد هم المهاجرون الأولون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثاراً لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار الدين الإسلامي الحنيف على سائر الأديان ،والموصوفون في الآية نفسها بالإيواء والنصرة هم الأنصار الذين هم الأوس والخزرج فإنهم آووا الرسول وأصحابه المهاجرين في منازلهم ونصروا نبي الله عليه الصلاة والسلام لمقاتلة أعداء الدين وقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوبهم إن وجدت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الدائم الأبدي المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص، ولا يسأم ولا يمل لتنوعه وحسنه.
3 – قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وجه الدلالة من الآية أنها اشتملت على أبلغ الثناء من الله تعالى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان حيث أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه بما أكرمهم الله به من جنات النعيم.
4- قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117].
وجه الدلالة من الآية ثناء آخر من الله تعالى على النبي الكريم وصحبه الأكرمين من المهاجرين والأنصار ألا وهو إخباره تعالى أنه من لطفه وإحسانه أن تاب عليهم فغفر لهم الزلات ووفر لهم الحسنات ورقاهم إلى أعلى الدرجات وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقة.
5 – قال تعالى: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]. قال ابن جرير الطبري: “… الذين اصطفاهم يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به الجاحدين نبوة نبيه. ثم ذكر بإسناده إلى ابن عباس في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه”.
6 – قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزُّمَر:33- 35]، يقول شيخ الإسلام رحمه الله “والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن القرآن حقٌّ، هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء”([82]).
7 – قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
وجه الدلالة من الآية أنه تضمنت الثناء على سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فذكر تعالى أن من صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان.
فهذه الآيات نصوص واضحة الدلالة وصريحة في مناقب الصحابة رضي الله عنهم.
ب – ذكر فضائلهم وشمائلهم من السنة النبوية.
لقد ورد الثناء في السنة النبوية على الصحابة رضي الله عنهم على وجه عام في أحاديث كثيرة مستفيضة ومتواترة منها الصحيح ومنها الحسن ومن ذلك ما يلي:
1- عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قُلْنَا لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَهُ الْعِشَاءَ – قَالَ – فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: (مَا زِلْتُمْ هَا هُنَا). قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَكَ الْعِشَاءَ قَالَ: (أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ). قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ)([83]).
قال النووي:”ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) أي: من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً وقد وقع كل ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم : (وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم ([84]).
فهذا الحديث تضمن فضيلة الصحابة رضي الله عنهم على وجه عام كما اشتمل على بيان منزلتهم ومكانتهم العالية في الأمة، وأنهم في الأمة بمنزلة النجوم من السماء.
2- وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ. نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ)([85]).
قال الإمام النووي: “وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفضل الصحابة والتابعين وتابعيهم”([86]).
3- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَبْدُرُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَتَبْدُرُ يَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)([87]).
قال النووي:”اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم ، والمراد أصحابه”([88]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة”([89]).
4 – وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ..)([90]).
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصحابة حيث لا يدركهم أحد في فضلهم وعملهم بل إن القليل من عملهم لا يوازيه عمل غيرهم مهما بلغ من الكثرة ومهما صاحبه من إخلاص وصدق ويقين وإيمان وذلك فضله تعالى يؤتيه من يشاء. روى ابن بطة بالإسناد الصحيح كما في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة”، وفي رواية: “وكيع خير من عبادة أحدكم عمره”([91]).
قال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى: “والمعنى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم”([92]).
والحاصل أن الأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة ومشهورة.
ثانياً: حقوق الصحابة علينا.
1 – وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وتوقيرهم وتكريمهم واجب من واجبات الدين وذلك لما شرفهم الله به من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام، وصبرهم على أذى المشركين والمنافقين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وتقديم حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كله.
2 – الدعاء والاستغفار لهم.
ومن حقوق الصحابة رضي الله عنهم الدعاء لهم والاستغفار والترحم عليهم، لما لهم من القدر العظيم، ولما حازوه من المناقب الحميدة، والسوابق القديمة، والمحاسن المشهورة، ولما لهم من الفضل الكبير على كل من أتى بعدهم، فهم الذين نقلوا إلى من بعدهم الدين الحنيف الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ففضلهم مستمر على كل مسلم جاء بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد ندب الله جل وعلا كل من جاء بعدهم من أهل الإيمان إلى أن يدعو لهم، ويترحم عليهم، وأثنى على من استجاب منهم لذلك بقوله جل وعلا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
3 – الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم.
ومن حقوق الصحابة رضي الله عنهم الشهادة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم فهناك أشخاص أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة كالعشرة من المهاجرين فقد سماهم بأعيانهم وبشرهم بالجنة، وهناك آخرون أخبر ببعض النعيم المعد لهم في الجنة، وكل ذلك شهادة منه صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة.
4 – إثبات عدالتهم رضي الله عنهم.
ومن حقوق الصحابة رضي الله عنهم اعتقاد عدالتهم وذلك لتضافر الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعديل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، مما لا يبقى معها شك لمرتاب في تحقيق عدالتهم، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
ففي هذه الآية وصف الله تعالى عموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق ومن شهد الله له بهذه الشهادة فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.
ومن ذلك أيضاً: وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
ووجه دلالة هذه الآية على عدالتهم رضي الله عنهم أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلاً للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها عدلاً في دينه.
ومن أثنى الله تعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاً وإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس فكيف لا تثبت عدالة صفوة الخلق وخيارهم بهذا الثناء الصادر من رب العالمين.
5 – تحريم سبهم رضي الله عنهم.
ومن حقوق الصحـابة رضي الله عنهم سلامة القلوب والألسن لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والتبرأ من طريقة الرافضة والخوارج الذين يسبون الصحابة رضي اللّه عنهم ويبغضونهم ويجحدون فضائلهم ويكفرون أكثرهم. وذلك لأن سبهم وازدراءهم والتنقص من مكانتهم الرفيعة التي أنزلهم الله فيها إنما هو من البهت لهم بما ليس فيهم، فكل من عابهم وطعن فيهم أو في أحد منهم كل ذلك من البهتان المبين ومن الوقوع في أعراضهم الذي يعد من أربى الربا عند الله ـ جل وعلا ـ.
6 – السكوت عما شجر بينهم.
معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات، ونشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة والانتصار لأخرى.
ومذهب أهل السنة ـ الفرقة الناجية ـ الإعراض عما شجر بين الصحابة، وعدم الدخول فيه في شيء، لأنها أمورٌ وقعت وانتهت فيقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]، فلا فائدة في الدخول في ذلك، هذا في الجملة، وأما إذا قيل: لابد من النظر، فالنظر أن نقول مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (أنه يمرق مارقة على حين اختلافٍ من المسلمين يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق)، وهذا يدلنا على أن الطائفتين كلاهما معه شيءٌ من الحق، ولكن أقربهما إلى الحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم الذين أخطئوا معذورون باجتهادهم.
أما ما يروى في كتب التاريخ من الأشياء الكثيرة، فكتب التاريخ وللأسف غالب رواتها إن لم يكونوا كلهم من الرافضة، ففيها مزيد وفيها منقوص، وفيها محرف عن وجهه، فإذا جاءت هذه الأمور لا يجوز أخذها على القبول، بل يجب أن تمحص وينظر فيها إلى السند هل هو ثابت أو غير ثابت؟ فإن لم يثبت فلا يجوز أن نثبته، وإذا كان ثابتاً فينظر ما وجهه، ووجهه لا يخلو إما أن يكون صاحبه مجتهداً مخطئاً، أو مجتهداً مصيباً، والمجتهد المخطئ له أجرٌ، وخطؤه مغفور، وإذا كان مصيباً فله أجران، هذه عقيدة أهل السنة في الصحابة رضوان الله عليهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:”وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين، إما مصيبين لهم أجران أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات، وقد سبق لهم من الله الحسنى، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة”([93]).
وما شجر بينهم من خلاف فقد كانوا رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق ويدافعون فيه عن الحق، فاختلفت فيه اجتهاداتهم، ولكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم، ومن هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شجر بينهم، فلا نقول عنهم إلا خيراً ونتأول ونحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم ولا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله وقد أفضوا إلى ما قدموا، فنترضى عنهم جميعاً ونترحم عليهم ونحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم.
ثالثاً: حكم من سب الصحابة أو أبغضهم.
السب: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم من السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحوه.
وسب الصحابة رضوان الله عليهم دركات بعضها شر من بعض، فمن سب بالكفر أو الفسق، ومن سب بأمور دنيوية كالبخل وضعف الرأي، وهذا السب إما أن يكون لجميعهم أو أكثرهم، أو يكون لبعضهم أو لفرد منهم، وهذا الفرد إما أن يكون مما تواترت النصوص بفضله أو دون ذلك. وإليك تفصيل وبيان أحكام كل قسم:
الأول: أن يسبهم بما يقتضي كفر أكثرهم، أو أن عامتهم فسقوا، فهذا كفر، لأنه تكذيب لله ورسوله بالثناء عليهم والترضي عنهم، بل من شك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، وذلك لأمور منها:
أ- أن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وبذلك يقع الشك في القرآن والأحاديث لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول.
ب- لأن في ذلك إيذاءً له صلى الله عليه وسلم لأنهم أصحابه وخاصته فسب أصحاب المرء وخاصته والطعن فيهم يؤذيه ولا شك، وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم كفر كما هو مقرر.
ج- أن في هذا تكذيباً لما نص عليه القرآن من الرضا عنهم والثناء عليهم فالعلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي، ومن أنكر ما هو قطعي فقد كفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً حكم هذا القسم: “.. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين.. إلى أن قال:… وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام”([94]).
الثاني: أن يسبهم باللعن والتقبيح، ففي كفره قولان لأهل العلم وعلى القول بأنه لا يكفر يجب أن يجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عما قال.
الثالث: أن يسبهم بما لا يقدح في دينهم كالجبن والبخل فلا يكفر ولكن يعزر بما يردعه عن ذلك، ذكر معنى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب “الصارم المسلول” ونقل عن أحمد قوله :”لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص، فمن فعل ذلك أدب، فإن تاب وإلا جلد في الحبس حتى يموت أو يرجع” ([95]).
المبحث الثامن: عقيدة المسلم
في آل البيت:
أولاً: المقصود بآل البيت:
المقصود بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم، وبنو المطلب. لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد)(رواه البخاري).
ومن أَهل بيته أَزواجه رضي الله عنهُن وهن أُمهات المؤمنين بنص القرآن، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:32، 33].
قال ابن كثير رحمه الله: “وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.
وكان عكرمة ينادي في الأسواق: ” {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة”، وكان يقول: “من شاء باهلته أنها في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم “. وتحرم الصدقة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، كما تحرم على بني هاشم وبني المطلب”([96]).
ثانياً: مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في آل البيت.
1- أهل السنة يوجبون محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعلون ذلك من محبة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتولونهم جميعاً لا كالرافضة الذين يتولون البعض، ويفسقون البعض الآخر.
2- أهل السنة يعرفون ما يجب لهم من الحقوق؛ فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
3- أهل السنة يتبرؤون من طريقة الشيعة الذين غلوا في بعض أهل البيت غلواً مفرطاً، ومن طريقة النواصب الذين يؤذونهم ويبغضونهم، فأهل السنة متفقون على وجوب محبة أهل البيت، وتحريم إيذائهم أو الإساءة إليهم بقول أو فعل، وكتب أهل السنة ولله الحمد والمنة مليئة وزاخرة بذكر مناقب أهل البيت.
4- أهل السنة يتولون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويترضون عنهن، ويعرفون لهن حقوقهن، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة.
5- أهل السنة لا يخرجون في وصف آل البيت عن الحدود الشرعية، فلا يغالون في أوصافهم، ولا يعتقدون عصمتهم، بل يعتقدون أنهم بشر تقع منهم الذنوب كما تقع من غيرهم.
6- أهل السنة يعتقدون أن أهل البيت ليس فيهم مغفور الذنب، بل فيهم البر والفاجر، والصالح والطالح.
7- أهل السنة يعتقدون أن القول بفضيلة أهل البيت لا يعني تفضيلهم في جميع الأحوال، وعلى كل الأشخاص، بل قد يوجد من غيرهم من هو أفضل منهم لاعتبارات أخرى.
المبحث التاسع: الشفاعة:
أولاً: حقيقة الشفاعة:
الشفاعةً: معناها: سؤال التجاوز عن الذنوب والآثام.
وأهل السنة والجماعة يثبتون الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والملائكة والشهداء وصالحي المؤمنين، حسبما وردت به الأدلة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع نفي الشفاعة التي نفتها الأدلة من الكتاب والسنة.
ثانياً: أدلة الشفاعة:
استدل أهل السنة على ثبوت الشفاعة بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة منها:
1_ قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26].
2_ وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109].
3_ وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].
ومن السنة:
1_ حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ….)، إلى أن قال: (..اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي..) ([97]).
2_ وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا) ([98]).
3_ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا)([99]).
4ـ وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ)([100]).
ثالثا: شروط الشفاعة:
دلت الأدلة على أن الشفاعة في الآخرة لا تقع إلا بشروط هي:
1 – رضا الله عن المشفوع له، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]؛ ذلك لأن الناس تتفاوت مواقفهم تجاه قضية الإيمان، فكانت الشفاعة محصورة في أهل التوحيد، والله تعالى لا يرضى لعباده الكفر:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزُّمَر:7]، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِه) ([101]).ِ
لكن هناك استثناء مخصوص في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد جاءت النصوص مفيدةً بأن الله سوف يقبل شفاعته في عمه أبي طالب جزاءً له على ما كان يحوط به النبي عليه الصلاة والسلام من الرعاية في صغيره، والحماية في كبره، لكنها ليست شفاعة مطلقة بل هي تخفيف جزئيٌّ من العذاب الخالد السرمدي في جهنم.
2 – رضا الله عن الشافع، فلا بد أن يكون الشافع أهلاً لقيامه بهذه الشفاعة، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن يكون من أهل الاستقامة والصلاح والتقوى، وقد قال الله تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وقال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
3 – إذن الله بالشفاعة، وذلك لأن الشفاعة ملك لله، فليس لأحدٍ أن يشفع دون إذنه ورضاه، كما جاء في آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة :255]، أي: لا أحد يشفع عنده دون إذنه عزّ وجل، فالشفاعة كلها له وحده، كذلك قوله سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزُّمَر:44].
رابعاً: أنواع الشفاعة:
النوع الأول: المثبتة.
وهي التي أثبتها الله تعالى في كتابه، أو أثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص.
وهذا النوع ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما اختص به الرسول صلى الله عليه وسلم وهي:
1_ الشفاعة العظمى في الخلائق كلهم ليخلصوا من هول الموقف، وليقضى بينهم حين يقف الناس خاضعين أمام خالقهم ويطلبون من الأنبياء أن يشفعوا لهم إلى الله في تخليصهم من كربات هذا اليوم العظيم وينتهي السؤال إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها..).
2_ شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة ليدخلوها بعد الفراغ من حسابهم.
3_ شفاعته صلى الله عليه وسلم لتخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، وهي خاصة في أبي طالب دون غيره لما كان يقوم به من حمايته والدفاع عنه، حيث يشفع له.
4_ الشفاعة لأهل الكبائر من أمته صلى الله عليه وسلم ، فذلك حينما يمر الناس على الصراط على قدر أعمالهم؛ فتأخذ الكلاليب الموضوعة على جنبتي الصراط من أمرت بأخذه من أهل الكبائر من أمة النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم صلى الله عليه وسلم .
6_ الشفاعة في رفع درجات بعض المؤمنين من أهل الجنة، كما دعا لأبي سلمة حينما قبض الله روحه.
7_ الشفاعة في دخول بعض المؤمنين الجنة من غير حساب ولا عقاب، مثل عكاشة بن محصن، حيث دعا له أن يكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب.
8_ شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن سكن في المدينة المنورة ومات بها.
القسم الثاني: الشفاعة العامة:
ومعناها أن الله سبحانه وتعالى يأذن لمن شاء من عباده الصالحين أن يشفعوا لمن أذن الله لهم بالشفاعة فيهم، وهذه الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين ومن أمثلة ذلك.
1 – الشفاعة لأناس قد دخلوا النار في أن يخرجوا منها.
2 – الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في أن لا يدخلوها.
3 – الشفاعة لأناس من أهل الإيمان قد استحقوا الجنة أن يزدادوا رفعة ودرجات في الجنة.
النوع الثاني: الشفاعة المنفية.
وهي الشفاعة الباطلة التي لا تنفع أصحابها، وهي ما يدَّعيه المشركون من شفاعة آلهتهم لهم عند الله عز وجل، فإن هذه الشفاعة لا تنفعهم كما قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدَّثر:48]، وذلك لأن الله تعالى لا يرضى لهؤلاء المشركين شركهم، ولا يمكن أن يأذن بالشفاعة لهم؛ لأنه لا شفاعة إلا لمن ارتضاه الله عز وجل والله لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد، فتعلق المشركين بآلهتهم يعبدونها ويقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] تعلقٌ باطلٌ غير نافع، بل هذا لا يزيدهم من الله تعالى إلا بُعداً، على أن المشركين يرجون شفاعة أصنامهم بوسيلة باطلة وهي عبادة هذه الأصنام، وهذا من سفههم أن يحاولوا التقرب إلى الله تعالى بما لا يزيدهم منه إلا بعداً.
المبحث العاشر: التوسل:
أولاً: تعريف التوسل:
ا – معنى التوسل في اللغة:
التوسل: مصدر توسل يتوسل أي اتخذ وسيلة توصله إلى مقصوده؛ فأصله طلب الوصول إلى الغاية المقصودة.
ب – معنى التوسل في الشرع:
هو اتخاذ وسيلة إلى الله تعالى لإجابة الدعاء وتحقيق المطلوب.
ثانياً: أقسام التوسل وحكمها: ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التوسل المشروع.
وهو ما كان بوسيلة ثبتت بها الأدلة ومنه:
1- التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير أن تعافيني.
أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي. ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبك لمحمد صلى الله عليه وسلم. فإن الحب من صفاته تعالى.
ودليل مشروعية هذا التوسل قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى. ولا شك أن صفاته العليا عز وجل داخلة في هذا الطلب، لأن أسماءه الحسنى سبحانه صفات له، خصت به تبارك وتعالى.
2 ـ التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي: كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك اغفر لي.. أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد صلى الله عليه وسلم وإيماني به أن تفرج عني.. ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بالٍ، فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته.
3 – التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح:
كأن يقول المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه. فهذا نوع آخر من التوسل المشروع، دلت عليه الشريعة المطهرة، وأرشدت إليه.
القسم الثاني: التوسل الممنوع.
وهو التوسل إلى الله بما ليس عليه دليل شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أنواع:
1 – التوسل إلى الله بجاه شخص له مكانة ومنزلة وجاه عند الله فهذا غير مشروع لعدم ورود الدليل عليه حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرق بين أن يتوسل العبد بإيمانه برسول الله أو يتوسل بجاه رسول الله فالأول مشروع والثاني ممنوع.
2 – التوسل إلى الله بدعاء ميت لا يمكن أن ينفع نفسه فكيف ينفع غيره وهذا من الحمق والسفه فإذا كان رسول الله لا يمكن أن ينفع أحداً بعد موته فكيف بغيره ثم إن الميت حيل بينه وبين العمل فلا يمكن أن يعمل حسنة واحدة فكيف يدعو لغيره أو ينفع غيره.
3 – التوسل بدعاء الأصنام والأولياء والقبور وهذا توسل شركي مخرج من الملة وهو ما كان عليه عمل أهل الجاهلية، قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزُّمَر:3].
المبحث الحادي عشر: أحكام النذور:
أولاً: تعريف النذر.
النذر لغة: الإيجاب، تقول: نذرت كذا إذا أوجبته على نفسك.
وشرعاً: إلزام مكلف مختار نفسه شيئاً لله تعالى.
ثانياً: حكم النذر.
حكم النذر: ابتداءً مكروه غير مستحب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نهى عن النذر وقال: “إنه لا يردُّ شيئاً وإنما يستخرج به من الشحيح”([102])، ولأن الناذر يلزم نفسه بشيء لا يلزمه في أصل الشرع، فيحرج نفسه، ويثقلها بذلك، ولأنه مطلوب من المسلم فعل الخير بلا نذر.
إلا أنه إذا نذر فعل طاعة وجب عليه الوفاء به؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]، وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، ولحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال:”من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه“([103]).
فقد مدح الله عز وجل الموفين بالنذر وأثنى عليهم، وأمر – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالوفاء به، فدل ذلك على أن النهي المتقدم عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إنما هو للكراهة لا للتحريم، وأن المنهي عنه والمكروه هو ابتداء النذر والدخول فيه، وأما الوفاء به، وإنجازه لمن لزمه فواجب، وطاعة لله سبحانه. والنذر نوع من أنواع العبادة لا يجوز صرفه لغير الله تعالى، فمن نذر لقبر أو وليٍّ ونحوه، فقد أشرك بالله تعالى شركاً أكبر، والعياذ بالله.
ثالثاً: أقسام النذر من حيث الصحة والفساد.
ينقسم النذر باعتبار صحته وعدم صحته إلى: صحيح وغير صحيح، أو: جائز وممنوع، أو منعقد وغير منعقد.
فيكون النذر صحيحاً منعقداً واجب الوفاء: إذا كان طاعة وقربة، يتقرب بها الناذر إلى الله تعالى.
ويكون غير صحيح ولا منعقد ولا واجب الوفاء: إذا كان معصية لله تعالى؛ كالنذر للقبور والأولياء أو الأنبياء، أو نذر أن يقتل، أو أن يشرب الخمر، ونحو ذلك من المعاصي، فإن هذا النذر لا ينعقد، ويحرم الوفاء به. لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)([104]).
رابعاً: صور من النذر الذي لا يجوز الوفاء به.
إن النذر الذي لا يجوز الوفاء به هو نذر المعصية وهذا يتحقق في صور، منها:
1- نذر شرب الخمر أو صوم أيام الحيض؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه”([105]).
2- النذر الذي يقع للأموات كأن يقول: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من النقد أو الطعام أو الشمع أو الزيت كذا وكذا. فهذا باطل، وهو شرك أكبر والعياذ بالله؛ لأنه نذر للمخلوق، وهو لا يجوز؛ لأن النذر عبادة، وهي لا تكون إلا لله.
3- إذا نذر أن يسرج قبراً، أو شجرة، لم يجز الوفاء به، ويصرف قيمة ذلك للمصالح؛ لأنه معصية، ولا نذر في معصية؛ للحديث المتقدم.
المبحث الثاني عشر: السحر:
أولاً: تعريف السحر في اللغة والاصطلاح:
ا – السحر في اللغة:
تطلق مادة ـ س ح ر ـ عند علماء اللغة على معان جمّة، تبعاً لورود استعمالها في الوضع الذي وقع فيه التخاطب ومنها : التمويه بالحيل والخداع والخفاء والاستمالة واللطافة([106]). فهو عبارة عما لطف أمره وخفي سببه، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم – :”إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا..”([107])، وقوله تعالى:{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}[الأعراف :116]، أي أخفوا عنهم عملهم.
ب – تعريف السحر في الاصطلاح:
السحر عُقَدٌ وَرُقَى وكلامٌ يتكلمُ به الساحر أو يكتبه أو يعمل شيئاً، فيؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين اثنين([108]).
ثانياً: أنواع السحر.
قسم العلماء السحر إلى أنواع، منها:
١. ما يقع بخداع وتمويه فيحدث تخيلات لا حقيقة لها وهو ما يفعله المشعوذون بحذق ومهارة وخفة وسرعة مع طول المران والتدريب فيسحرون الأنظار عما يتعاطونه بشعوذتهم وهو السيمياء، قال تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}[الأعراف:116]. وقال أيضاً: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، وهذا النوع شائع الآن في العالم.
٢. ما يقع بالرقى والنفث في العقد وتصوير صورة المسحور والتأثير فيه بأمور يسمعونها من تلاوة وقراءة وكتابة ورسوم يتوصلون به إلى الأذى، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفَلَق:4]. والنفاثات: السواحر، وهذه الرقى والعزائم قد تكون مشتملة على أسماء الله الحسنى أو أسماء ملائكته الكرام وقد تكون مشتملة على أيمان وأقسام عظيمة تلجئ الأرواح إلى الطاعة وتنفيذ ما يطلبون منها، وقد تكون معلومة وقد تكون غير معلومة المعنى بل هي ألفاظ مجهولة وكأنها كلمات سريانية كأنها أسماء الجان أو الأرواح الخفية الغير معلومة.
٣. ما يقع عن الطلسمات والخواتم التي تكتب بطريقة خاصة مغايرة للكلمات العربية أو أحرف عربية مقطعة لا صلة بينها موضوعة بطريقة خاصة وحقيقتها نفس أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والأوقات التي ترجع إلى مناسبات الأعداد وجعلها على شكل مخصوص.
ثالثاً: حقيقة السحر.
اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو هو تخييل لا حقيقة له. والصحيح أن السحر حق وله حقيقة مؤثرة ويدل على ذلك ما يأتي:
ا – الأدلة من الكتاب منها ما يلي:
1- قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
وجه الاستدلال: الآية تدل على أن للسحر حقيقة من وجوه:
الأول: أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر فيها عن السحر وأنه مما يعلم ويتعلم وأن متعلمه يكفر بذلك وهذه الصفات لا تكون إلا لماله حقيقة، مما يدل على أن له حقيقة.
الثاني: أن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية بأن للسحر آثاراً محسوسة كالتفريق بين المرء وزوجه والأثر دليل على وجود المؤثر وأن له حقيقة.
الثالث: كما أخبر الله تعالى في هذه الآية بأن للسحر ضرراً لا يتحقق إلا بإذنه، والاستثناء دليل على حصول الآثار بسببه والضرر أو الأثر لا يكون إلا مماله حقيقة.
2- قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفَلَق:5].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – في هذه السورة بالاستعاذة من شر النفاثات في العقد وهن السواحر كما فسرها جمهور المفسرين مما يدل على أن للسحر حقيقة وأثرا إضافة إلى ذلك أن هذه السورة وسورة الناس باتفاق جمهور المفسرين سبب نزولهما سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولو لم يكن له حقيقة وأثر لما أنزلت هاتان السورتان لإبطال أثره.
ب – الأدلة من السنة وهي كثيرة منها ما يلي:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ” سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: ” يَا عَائِشَةُ،أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ “فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: “يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ” قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلاَ اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: “قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا” فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ “([109]).
وجه الاستدلال: الحديث كما نرى يروي واقعة سحره عليه الصلاة والسلام ابتداءً من تغير عادته – صلى الله عليه وسلم – حتى إنه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله وانتهاءً بقراءة المعوذتين وحل العقد ونزع الإبر وما بين ذلك من دعائه – صلى الله عليه وسلم – ثم نزول الملكين ونقاشهما فيما حصل له – صلى الله عليه وسلم – ثم ذهابه إلى البئر في جماعة من أصحابه وإخبار عائشة فيما حصل. وطلبها رضي الله عنها استخراجه، قوله – صلى الله عليه وسلم – “إن الله شفاني” كل هذا لا يكون إلا فيما له حقيقة وأثر بيّن.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: “الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ”([110]).
وجه الاستدلال: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمرنا باجتناب السبع الموبقات وعد منها السحر بل جعله في المرتبة الثانية بعد الشرك بالله. مما يدل على أن له حقيقة.
3- قول الرسول – صلى الله عليه وسلم –:”مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ، وَلَا سِحْرٌ “([111]). وجه الاستدلال: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أرشدنا إلى ما فيه وقاية من السحر ولا يتوقى إلا شيء له حقيقة وأثر بين، كما أنه قارنه بالسم والسم متفق بأن له حقيقة وأثراً فكذلك إذاً السحر.
ج – الدليل من الواقع:
فإن الواقع المشاهد وما اشتهر بين الناس من عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها. وحل عقده فيقدر عليها بعد عجز عنها حتى صار متواتراً لا يمكن جحده([112]). قال النووي : “والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة”([113]).
رابعاً: حكم الشرع في السحر والساحر، وعقوبته.
ا – حكم الشرع في الساحر:
جاء الإسلام ليحفظ للناس دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم، وجعل هذه الضرورات الخمس قواعد الخلق في رعاية مصالحهم ودفع مضارهم، فحرّم كل اعتداء عليها، فحرم الكفر والردة لإخلالها بأصل الدين، وحرم قتل النفس بغير حق، وحرّم الاعتداء على الأموال والأعراض والأنساب، وحرّم الاعتداء على العقول بكافة أنواع المسكرات الحسية والمعنوية.
والسحر لم يأت على قاعدة من هذه القواعد إلا وأفسدها، فالسحر والكفر قلما يفترقان، والسحر سبيل لتبذير المال وتضييعه، وهو مفسد للذرية بتفريق رباط الأسرة، وهو مدخل للزنا والاعتداء على الأعراض؛ وهو كذلك سبيل لاغتيال العقول وطمسها، فلا غرو حينئذ أن يقف الإسلام من السحر وأهله موقفا صارماً فقد حرم تعلمه وتعليمه، وأوجب كف الساحر عن سحره، وإقامة الحد عليه تطهيرا للمجتمع من شره ودجله، وحرم على الناس الذهاب إلى السحرة والاستعانة بهم وقد اتفق العلماء على أن تعلم السحر وتعليمه وممارسته حرام، قال ابن قدامة – رحمه الله – : “فإن تعلُم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم”([114]).
وقال الإمام النووي رحمه الله:” وأما تعلمه – أي السحر – وتعليمه فحرام”([115]).
ورغم اتفاقهم على حرمة تعلم السحر وتعليمه وممارسته إلا أنهم اختلفوا في تكفير فاعله، فذهب جمهور العلماء ومنهم مالك وأبو حنيفة وأصحاب أحمد وغيرهم إلى تكفيره. واستدلوا على كفره بقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102].
قال الحافظ في الفتح: “فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا وهذا كله واضح”([116]). وذهب الشافعي إلى التفصيل، فإن كان في عمل الساحر ما يوجب الكفر، كفر بذلك، وإلا لم يكفر.
ب – عقوبة الساحر:
اختلف أهل العلم في عقوبة الساحر، والأظهر عندي أن الساحر إن كان سحره كفرا; فإنه يقتل ردة، إلا أن يتوب على القول بقبول توبته، وهو الصحيح، وإن كان سحره دون الكفر; فإنه يقتل قتل الصائل ;أي: قتل لدفع أذاه وفساده في الأرض، وعلى هذا يرجع في قتله إلى اجتهاد الإمام، وظاهر النصوص التي وردت أنه يقتل بكل حال([117]).
خامساً: بعض صور السحر المعاصرة، والتمييز بينها.
1 – العقد: وهي على أنواع منها ما يكون حبالاً أو شعرا معقودا أو خيوطا رفيعة معقودة كخيوط مكرات الخياطة، والعقد قد تكون ثلاث عقد أو سبعا أو إحدى عشرة عقدة.
2- التمائم: وهي عبارة عن أوراق أو قماش أو قطعة من جلد أو قطعة من معدن كتب عليها بعض الطلاسم والرموز والحروف المقطعة والأرقام والمربعات والدوائر والكلمات الغير معروفة والاستغاثات الشركية بالشياطين وشيء من القرآن فتلف بقطعة من جلد أو تحفظ في قطعة من معدن أو تخاط في قطعة من قماش أو يلف عليها بلاصق بلاستكي.
3 – السحر المأكول والمشروب: هو سحر ينفثه الساحر في ماء أو يكتب طلسمه بمادة وتذاب هذه المادة في ماء ويوضع للمراد سحره في طعامه أو شرابه والغالب في هذا السحر أنه يكتب بالزعفران فيكون لونه أحمر أو أصفر ويوضع في عصير مثلاً له نفس اللون.
4 – السحر المرشوش: وهو سحر عن طريق المواد السائلة وأكثر ما يفعله السحرة هو كتابة التوكيل بالسحر بالزعفران ثم محيه بالماء ويأمر الحاسد بسكبه على ممرات المقصود بالسحر، أو في مكان سكنه، وأغلب سكب هذا النوع من السحر تكون:
1- على عتبه باب الشارع.
2- أركان المنزل العلوية والسفلية.
3- أعتاب الغرف في المنزل.
4- ممرات المقصود إلى سيارته.
5- باب الشقة في عمارة سكنية.
سادساً: طرق الوقاية من السحر.
خير علاج للسّحر أن يتقيه المرء قبل وقوعه إذ الوقاية خير من العلاج، والساحر إنسان ضالّ يحبّ الشّرّ والإفساد، وهو يستعين على أغراضه الفاسدة بالشيطان، وقد بين القرآن كيف يحصن المسلم نفسه من الشيطان وأعوانه وأتباعه ومن ذلك:
1- تجريد التّوحيد لله، والتّرحل بالفكر في الأسباب إلى المسبّب، وأنّ كلّ ما حوله بيد الله، وأن لن يضرّه شيء ولا ينفعه إلاّ بإذن الله، قال تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102].
2- الاستعاذة بالله من الشّيطان قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:98].
3- تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، وقال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120].
4 – التّوكل على الله والاعتماد عليه وهو من أقوى الأسباب في دفع كل الشرور عن العبد فمن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
5- المحافظة على الأذكار اليومية من أذكار الصباح والمساء والنوم ونحوها، والتهليل مئة مرة في اليوم, وقراءة آخر آيتين من سورة البقرة، وآية الكرسي وغيرها من التحصينات الواردة في الكتاب والسنة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس الموضوعات
الموضوع |
مقدمة: |
المبحث الأول: توحيد الربوبية: |
أولاً: تعريفه: |
ثانياً: أدلته: |
ثالثاً: حقيقة توحيد الربوبية: |
رابعاً: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية. |
المبحث الثاني: توحيد الألوهية: |
أولاً: تعريف توحيد الألوهية: |
ثانياً: علاقة هذا النوع بالشهادتين: |
ثالثاً: أهمية توحيد الألوهية: |
رابعاً: فضائل توحيد الألوهية: |
خامساً: العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. |
سادساً: ما يضاد توحيد الألوهية: |
ما يضاد توحيد الألوهية قسمان: |
الأول: ما يضاد أصله. |
الثاني: ما يقدح في توحيد الألوهية. |
ومن أمثلة ما يضاد أصل توحيد الألوهية ما يأتي: |
1 – دعاء غير الله. |
ومن أمثلة الشرك في الدعاء ما يلي: |
ا – أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق: |
ب- دعاء الميت والغائب: |
ج – أن يجعل بينه وبين الله تعالى واسطة في الدعاء: |
2 – الذبح لغير الله: |
والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين: |
القسم الأول: أن يكون الذبح لغير الله فرحاً أو إكراماً للضيف |
القسم الثاني: أن يكون الذبح تعظيماً وتقرباً لغير الله، |
3 – النذر لغير الله: |
القسم الثاني: ما يقدح في توحيد الألوهية: |
ا – ذكر بعض الأمثلة على القسم الأول: |
ما يقدح في توحيد الألوهية: |
أولاً: الشرك الصغر: |
ا – تعريف الشرك الأصغر: |
ب – حكمه: |
ج – صور من الشرك الأصغر: |
1 – الحلف بغير الله: |
2 – الاستسقاء بالأنواء. |
3 – التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله تعالى: |
4 – التسمي بأسماء فيها تعبيد لغير الله تعالى: |
5 – سب الدهر: |
6 – الرياء: |
سابعاً: الوسائل الموصلة للشرك الأكبر: |
وأهم الوسائل الموصلة للشرك الأكبر أربعة هي: |
1 – الغلو في الصالحين: |
2 – تصوير الأولياء والصالحين: |
3 – التبرك بالصالحين: |
4 – اتخاذ القبور مساجد: |
ثامناً: الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر: |
المبحث الثالث: الأسماء والصفات: |
أولاً: مفهوم توحيد الأسماء والصفات: |
ثانياً: الأدلة على توحيد الأسماء والصفات: |
ثالثاً: قواعد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته: |
القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى توقيفية: |
القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء: |
القاعدة الثالثة: أن باب الإخبار أوسع منهما: |
القاعدة الرابعة: أسماء الله كلها حسنى: |
القاعدة الخامسة: الأسماء الحسنى لا تحدّ بعدد: |
القاعدة السادسة: الإيمان بأسماء الله يتضمن أموراً: |
رابعاً: ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات: |
المبحث الرابع: أركان الإيمان: |
أولاً: الإيمان بالله عز وجل: |
ثانياً: الإيمان بالملائكة: |
ثالثاً: الإيمان بالكتب السماوية: |
فائدة عظيمة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن العظيم: |
رابعاً: الإيمان بالأنبياء والرسل: |
خامساً: الإيمان باليوم الآخر: |
سادساً: الإيمان بالقدر خيره وشره: |
ومعنى الإيمان بالقدر: |
المبحث الخامس: مسائل في الإيمان: |
أولاً: تعريف الإيمان: |
ثانياً: الإيمان مركب من قول وعمل: |
ثالثاً: معنى الإيمان حال الإطلاق والتقييد. |
النوع الأول: الإيمان المقيد. |
النوع الثاني: الإيمان المطلق. |
رابعاً: دخول الأعمال في مسمى الإيمان عند أهل السنة: |
وقد خالف أهل السنة في دخول الأعمال في مسمى الإيمان طائفتان: |
ومن أدلة أهل السنة على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان: |
خامساً: العلاقة بين الإسلام والإيمان والإحسان، والفرق بينها: |
سادساً: وخلاصة ما يمكن أن يقال في الفرق بين الإيمان والإسلام والإحسان ما يأتي: |
أولاً: دلالة الكتاب: |
ثانياً: دلالة السنة على زيادة الإيمان ونقصانه: |
سابعاً: أوجه أسباب زيادة الإيمان ونقصانه. |
1- تعلم العلم النافع: |
2 – قراءة القرآن بتدبر: |
3 – معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: |
4 – تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم : |
5 – تأمل محاسن الدين الإسلامي: |
6 – قراءة سيرة السلف الصالح: |
ومن أعظم أسباب نقص الإيمان: |
1- الجهل بالله وشرعه. |
2- الغفلة والإعراض والنسيان. |
3- فعل المعاصي وارتكاب الذنوب. |
ثامناً: ما يناقض الإيمان. |
ا – نواقض الإيمان القولية. |
ب – نواقض الإيمان الفعلية. |
ج _ نواقض الإيمان الاعتقادية. |
تاسعاً: أثر المعاصي على الإيمان. |
المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر. |
المعاصي التي ليست بكفر: |
عاشراً: آثار الإيمان على الفرد والمجتمع. |
المبحث السادس: مسائل التكفير والتفسيق: |
أولاً: النصوص القرآنية والنبوية في التحذير من التكفير. |
فائدة مهمة: |
ثانياً: التكفير حكم شرعي مرده إلى الشرع. |
ثالثاً: خطورة التكفير. |
ا – أخطار التكفير على الأفراد: |
ب – أخطار التكفير على المجتمع: |
ج – أخطار التكفير على الإسلام والمسلمين: |
رابعاً: ضوابط التكفير. |
خامساً: شروط التكفير. |
سادساً: موانع التكفير. |
سابعاً: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين. |
المبحث السابع: عقيدة المسلم في الصحابة وأمهات المؤمنين: |
أولاً: ذكر فضائلهم وشمائلهم من الكتاب والسنة: |
ا – ذكر فضائلهم وشمائلهم من القرآن الكريم. |
ب – ذكر فضائلهم وشمائلهم من السنة النبوية. |
ثانياً: حقوق الصحابة علينا. |
1 – وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . |
2 – الدعاء والاستغفار لهم. |
3 – الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم. |
4 – إثبات عدالتهم رضي الله عنهم. |
5 – تحريم سبهم رضي الله عنهم. |
6 – السكوت عما شجر بينهم. |
سادساً: حكم من سب الصحابة أو أبغضهم. |
المبحث الثامن: عقيدة المسلم في آل البيت: |
أولاً: المقصود بآل البيت: |
ثانياً: مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في آل البيت. |
المبحث التاسع: الشفاعة: |
أولاً: حقيقة الشفاعة: |
ثانياً: أدلة الشفاعة: |
ثالثا: شروط الشفاعة: |
رابعاً: أنواع الشفاعة: |
النوع الأول: المثبتة. |
وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: |
الأول: ما اختص به الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: |
القسم الثاني: الشفاعة العامة: |
النوع الثاني: الشفاعة المنفية. |
المبحث العاشر: التوسل: |
أولاً: تعريف التوسل: |
ا – معنى التوسل في اللغة: |
ب – معنى التوسل في الشرع: |
ثانياً: أقسام التوسل وحكمها: ينقسم إلى قسمين: |
القسم الأول: التوسل المشروع. |
القسم الثاني: التوسل الممنوع. |
المبحث الحادي عشر: أحكام النذور: |
أولاً: تعريف النذر. |
ثانياً: حكم النذر. |
ثالثاً: أقسام النذر من حيث الصحة والفساد. |
رابعاً: صور من النذر الذي لا يجوز الوفاء به. |
المبحث الثاني عشر: السحر: |
أولاً: تعريف السحر في اللغة والاصطلاح: |
ثانياً: أنواع السحر. |
ثالثاً: حقيقة السحر. |
رابعاً: حكم الشرع في السحر والساحر، وعقوبته. |
خامساً: بعض صور السحر المعاصرة، والتمييز بينها. |
سادساً: طرق الوقاية من السحر. |
فهرس الموضوعات |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([4]) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف السنة من غير علم فحكمه مردود (9/107)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقص الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718).
([5]) تسهيل العقيدة الإسلامية: عبد الله بن عبد العزيز بن حمادة الجبرين ص (53).
([6]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب العمل الذي يُبتغى به وجه الله (6423)، ومسلم، في الكتاب والباب السابقين، رقم (33).
([7]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (6570).
([8]) انظر تيسير العزيز الحميد ص (36-39)، والقول السديد لابن السعدي، ص(16)، ومعارج القبول (1/268 : 271).
([9]) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد – فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله آل فوزان ص (21_23)، ومباحث في العقيدة للمؤلف (1/72-73).
([10]) شأن الدعاء للخطابي: ص (4).
([11]) رواه: أحمد في “المسند” (4/267)، والترمذي (الدعوات، باب الدعاء مخ العبادة, 9/92) وقال: “حديث حسن صحيح”، وأبو داود (كتاب الصلاة, باب الدعاء (2/161)، وابن ماجه (كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء (2/1258)، والحاكم (1/490)، وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في “الصغير” (2/97). وقال ابن حجر في “الفتح” (1/49): “إسناده جيد”.
([12]) أنظر: كتاب مباحث في العقيدة للمؤلف، ص (132)، تسهيل العقيدة الإسلامية، عبد الله بن عبد العزيز بن حمادة الجبرين، ص (164-167).
([13]) رواه الإمام أحمد (4/445) واللفظ له، وابن ماجة (كتاب الطب، باب تعليق التمائم) وليس فيه: (فإنك لو مت…) إلخ. وفي (الزوائد)(إسناده حسن). ورواه ابن حبان أيضاً (1410) بلفظ (إنك إن نمت وهي عليك وكلت إليها). ومن طريق أبي عامر الخراز عن الحسن عن عمران بنحوه، رواه ابن حبان (1411) والحاكم (4/216)، وصححه ووافقه الذهبي.
([14]) أخرجه عبد الرزاق (8/469)، والطبراني في “الكبير” (8902). قال المنذري في “الترغيب” (3/607) والهيثمي في “مجمع الزوائد” (4/177): “ورواته رواة الصحيح”.
([15]) رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف؟ (2679)، ومسلم، كتاب النذر، باب النهي عن الحلف بغير الله (1646) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
([16]) رواه أبو داود، كتاب الأيمان، باب في كراهية الحلف بالآباء (3/570)- وسكت عنه-، والترمذي (النذور، باب كراهية الحلف بغير الله تعالى، رقم (1535) وحسنه، والطيالسي (رقم 1896)، وابن حبان (رقم 1177)، والحاكم (1/18، 4/ 297) وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي-، وأحمد في “المسند” (2/34, 69).
([17]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (127).
([18]) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء (71).
([19]) رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة (934).
([20]) رواه مسلم، كتاب الآداب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك (2143).
([21]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[الجاثية:24](7491)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (2246).
([22]) رواه الإمام أحمد في “المسند” (5/428). قال ابن حجر في “بلوغ المرام” (ص 302): “أخرجه أحمد بإسناد حسن”، وقال المنذري في “الترغيب”(1/69): “إسناده جيد”, وقال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/222): “رجاله رجال الصحيح; غير عبد الله بن شبيب بن خالد, وهو ثقة”.
([23]) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (3527).
([24]) رواه: أحمد في “المسند” (1/215, 347)، والنسائي في “الصغرى” (كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى (5/268)، وابن ماجه (كتاب المناسك، باب قدر الحصى (2/1008)، وابن أبي عاصم في “السنة” برقم (98)، وابن حبان برقم (1011)، والطبراني في “الكبير” برقم (12747)، والحاكم (1/466)- وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي-، والبيهقي في “السنن الكبرى” (5/127). وقال النووي في “المجموع” (8/137): “إسناده صحيح على شرط مسلم”, وكذا قال شيخ الإسلام في “اقتضاء الصراط المستقيم” (ص 106).
([25]) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب ودا ولا سواعا ولا يغوث (3/316).
([26]) رواه البخاري، كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة، (5950)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان (2109).
([27]) رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة (2110).
([28]) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (1/408)، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (1/376).
([29]) رواه مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (1/377).
([30]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا (2585)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في أسماء الله تعالى ( 2677 )
([31]) رواه الإمام أحمد (1/391، 452)، وابن حبان (2372)، وصححه ابن القيم: كما في “بدائع الفوائد” (1/166)، وحسنه الحافظ في “تخريج الأذكار”، كما في “الفتوحات الربانية” (4/ 13).
([32]) انظر: كتاب معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى: محمد بن خليفة بن علي التميمي، ص (52).
([33]) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5999)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى (4/2109)(2754).
([34]) أنظر: كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة: نخبة من العلماء، ص (11) الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية.
([35]) رواه أحمد (1/391، 452)، وابن حبان (968)، والحاكم (1/509)، وأبو يعلى (5297)، وصححه الألباني في الصحيحة (199).
([36]) أنظر: بدائع الفوائد لابن القيم (1/171)، وانظر أيضا شفاء العليل، ص (277).
([37]) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}[لقمان:34] (6/115) (4777)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله (1/39)(9).
([38]) الشفا في بيان حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم (2/304).
([40]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان وفضله (44)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلا (191).
([41]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن الإيمان..(50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة (8).
([42]) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6019)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف (47).
([43]) رواه البخاري في “الأدب المفرد” (112)، والطبراني (12741)، وأبي يعلى (2699) وقال الألباني صحيح لغيره كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2562).
([44]) رواه البخاري، كتاب المظالم، باب النُّهْبَى بغير إذن صاحبه (2475)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي… (57).
([45]) أنظر: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان (40).
([46]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان (53)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم (17).
([47]) رواه أحمد (3/135)(12406)، وابن حبان (1/422)(194) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الذهبي في المهذب: سنده قوي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7179).
([48]) رواه أبو داود (4681) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، ورواه الترمذي (2521)، وأحمد (3/438) (15655) من حديث معاذ الجهني رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وحسَّن الألباني كلا الطريقين في السلسلة الصحيحة (380) ثم قال: والحديث بمجموع الطريقين صحيح.
([49]) رواه البخاري، انظره في الفتح (5/119) (10/30)، ومسلم شرح النووي (2/41).
([50]) رواه الخلال في السنة برقم (1045) وابن هانئ في مسائله (2/164).
([51]) رواه الخلال (1035)، وابن بطة في الإنابة (1045).
([52]) رواه البخاري، انظر فتح الباري (1/51)، ومسلم شرح النووي (2/6).
([53]) رواه البخاري، انظر فتح الباري (1/103)، ومسلم شرح النووي (2/59).
([54]) مفتاح دار السعادة، ص 204.
([55]) رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة.. (233).
([56]) رواه البخاري (فتح الباري 10/338)، ومسلم برقم (2556).
([57]) رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب النهبى بغير إذن صاحبه (2475).
([59]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 392).
([61]) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (٦٠٤٥).
([62])رواه مسلم، كتاب الإيمان ، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر (225).
([63]) أنظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (4/ 76).
([65])رواه مسلم، كتاب الإيمان ، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر (225).
([66])رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة… (6308) ، ومسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
([67])أنظر: البيان بالدليل لما في نصيحة الرفاعي ومقدمة البوطي من الكذب والتضليل ،مجلة البحوث الإسلامية العدد التاسع والخمسون – الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1420هـ .
([68])رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله (2564).
([69])رواه البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«رُبَّ مبلغ أوعى من سامع»(67)، ومسلم، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء (1679) عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.
([70])شرح النووي على صحيح مسلم (1/150).
([72])مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (3/52).
([74])رواه مسلم، كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747).
([75])مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/209).
([77])رواه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2043)، وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجة) ج 1، ص 347.
([79])مجموع الفتاوى (23/346)، وانظر تفاصيل موانع التكفير في كتاب الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة، عبد الله بن عبد الحميد الأثري، ص (145).
([80]) أنظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (٣٢٦/٢٣ )
([81]) إتحاف ذوي النجابة (36)، ومحاسن التأويل (8/202).
([82]) إتحاف ذوي النجابة (36)، ومحاسن التأويل (8/202).
([83]) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب بَيَانِ أَنَّ بَقَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَانٌ لأَصْحَابِهِ وَبَقَاءَ أَصْحَابِهِ أَمَانٌ لِلأُمَّةِ (6629).
([84]) شرح النووي على صحيح مسلم (16/83).
([85]) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فَضْلِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (6630).
([86]) شرح النووي على صحيح مسلم (16/83)، وانظر: عمدة القاري للعيني (14/180).
([87]) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فَضْلِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (6633).
([88]) شرح صحيح مسلم النووي (16/84).
([90]) رواه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا (3673)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (2541).
([94]) الصارم المسلول: ص (591، 592).
([95]) الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص (573)، وانظر شرح لمعة الاعتقاد لشيخنا محمد بن صالح العثيمين، ص (50).
([96]) تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير (3/584).
([97]) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3](4343)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلا (287).
([98]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم “أنا أول الناس يشفع”(289).
([99]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته (296).
([100]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (6081).
([101]) رواه البخاري، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (99).
([102]) رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر (6693)، ومسلم، كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا (1639)، واللفظ له.
([103]) رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة (6696).
([106]) أنظر: غريب القرآن للأصفهاني: ص (226)، الجوهري (5/678).
([107]) رواه البخاري، كتاب الطب، باب إن من البيان سحرا (5767) من حديث ابن عمر.
([108]) المغني لابن قدامة (8/150).
([109]) رواه البخاري، كتاب الطب، باب السحر (5763)، ومسلم، كتاب السلام، باب السحر (2189).
([110]) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب رمي المحصنات (6857)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (89).
([111]) رواه البخاري، كتاب الطب، باب الدواء بالعجوة للسحر (5769)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة (2047).
([112]) أنظر: كتاب حقيقة السحر وحكمه في الكتاب والسنة: د عواد بن عبد الله المعتق، ص (150 – 156).
([113]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (10/222).
([114]) المغني لابن قدامة (9/29).
([115]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (14/176).
([116]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (10/225).
([117]) أنظر: لقول المفيد على كتاب التوحيد، لشيخنا محمد بن صالح بن محمد العثيمين (1/490).