خطبة بعنوان: (فقه التعامل مع الآخرين -2-) بتاريخ: 9-11-1437هـ
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالَمين، ومثلاً كاملاً وأسوةً حسنةً للمؤمنين، وحُجَّة على خَلقِه أجمعين. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الرؤوف بالمؤمنين، المبعوث بمكارم الأخلاق للناس أجمعين صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن النجاة يوم العرض عليه لمن أتى بحقها ولزم طريقها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102] .
عباد الله: تكلمنا في خطبة ماضية عن التوافق في حياة المسلم بين تقوى الله جل وعلا وحسن الخلق، وأنهما لا ينفكان عن بعضهما أبداً , واليوم نذكر تطبيقات عملية لذلك فنقول :
اعلم أيها الموفق أن من أحق الناس بحسن التعامل الوالدين , فذلك من أوجب الحقوق بعد حق الله جل وعلا وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهما سبب وجود المرء بعد الله جل وعلا، ولهما الفضل الكبير عليه في حمله وتربيته وتنشئته ورعايته.
وبرِّهما له منزلة سامية ومرتبةٌ عليّة، ولا أدل على ذلك من أنه جاء مقترناً بتوحيد الله جل وعلا، وصدق الله العظيم{وَقَضَى رَبُكَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحسَاناً} [الإسراء: 32].
بل إن برهما من أعظم المعروف الذي يُسدى في حياتهما وعند كبرهما وبعد وفاتهما.
وأما التعامل مع الزوجة: فقد جعلها الله نعمةً وسكناً ورحمةً ومودةً وخير متاع للرجل، وقد وجَّه ربنا جل وعلا الزوج إلى حسن عشرتها ومعاملتها بالمعروف، وأن يعلمها أمر دينها، وأن يقوم بإنصافها، ويعترفَ بمحاسنها، ويتجاوز عن هفواتها وأخطائها لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)(رواه مسلم)،
وأن يتذكَّر جوانبَ الخير فيها، وألاَّ يجحد فضلَها وتعَبَها في القيام بحقوقه ورعاية مصالحه، وأن يحرص على إدخال السرور عليها بالابتسامة الرقيقة والسلام عليها حالَ رؤيتها ومناداتها بأحب الألقاب إليها، وأن لا يعيب عليها في لباسها وطعامها وشرابها أو غير ذلك، لأن ذلك يحزن قلبها. وعليه أن يحسن صحبتها، وإسعادها وتحقيق رغباتها وإهدائها ما تحب مما يستطيعه، فيما أذن الله به شرعاً. وليعلم أن كلمة ثناء ومدح تسمعها المرأةُ من زوجها، تترك في نفسها أثرًا عميقًا، وتزيد في محبتها وأُنسها به، وتملأ جوانحها بالراحة والطمأنينة، وتشيع في قلبها مشاعر الفرح والغبطة، وتمنحها شحنةً من النشاط والقوة، تنسيها ما تقاسيه من مشقة وعناء، وتساعدها على بذل المزيد من الخدمة والعطاء، وتبعد عنها الإحباط، وصدق حبيبنا صلى الله عليه وسلم فيهم:(أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم)(رواه الترمذي).
وأما التعامل مع الأولاد فيجب على الرجل أن يكون قدوة حسنة لهم وكذا المرأة لبناتها، وهو من أعظم وأهم أسس التربية، وأن يجتهد في غرس الإيمان في قلوبهم، وتعبيدهم لربهم وخالقهم، وتزكية نفوسهم، وتهذيب أخلاقهم، وتربيتهم ورعايتهم وإصلاحهم روحياً وأخلاقياً، وأن يتحيّن الوقت المناسب للتوجيه والتعليم وتلقين الأفكار، وتصحيح السلوك الخاطئ، وبناء السلوكِ الصحيح، وأن يعدل بينهم، وأن يتعامل معهم تعامل الأب الحنو ن المتواضع المشفق عليهم الرحيم بهم، وأن يكون أقرب الناس إليهم، ويبذل وسعه في إدخال السرور عليهم والفرح، والدعاء لهم بالصلاح والهداية والتوفيق في حياتهم، وإذا أحب الأولاد أباهم أخذوا منه ما ينفعهم وساروا في حياتهم على ما كان عودهم عليه.
وأما التعامل مع ذوي الرحم والأقارب فيلزم زيارتهم، والسؤال عنهم، وإدخال السرور عليهم، والسعي في قضاء حوائجهم على قدر الاستطاعة، وغَضَّ الطرف عن هفواتِهم.
أيها الأخ المبارك؛ اعفُ عن زّلاّتهم، وأقِلِ عثراتهم، تجْنِ الودَّ والإخاء، واللينَ والصفاء، وداوِم على صِلة رّحمك، ولو قطعوها، وتعامل معهم بكل سبيل طيب، واعلم أنهم غيرُ معصومين، فإن بَدَر منهم شيءٌ فجانبُ العفوِ معهم أولى، وهو من شِيَم المحسنين الكرام، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا اعتذروا، واصفَح عنهم، وادعوا لهم. وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال:(يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم).
وأما التعامل مع العلماءِ فلهم مكانةٌ في الدين لا تُنكَر، وفضلٌ كبير لا يكاد يُحصر؛ وجاءتْ نصوصُ الشرع المطهر متوافرةً متعاضدة تعزِّز من مكانتهم، وتبيِّن فضْلَهم، ويكفيهم شرفًا أن الله جل وعلا رَفَعَ شأنَهم، فجعلهم أهلَ علمه وخشيته من بين خلقه؛ فحق على كل مسلم أن يوقَّرهم، ويحترمهم، ويتأدب معهم، وأن يصدر عن قولهم، وألا يستخف بهم؛ فمن استخف بهم ذهبت آخرته. وعليه أن يحفظ لسانه من الخوض في أعراضهم؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براءٌ أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتعٌ وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لِنَشْرِ العلم خُلُق ذميم.
وأما التعامل مع المعلمين والمعلمات فهم مربوا الأجيال وسقاة الغرس، والمؤدون لرسالة العلم، الناشرون لضيائه، وهم عُمّار المدارس المستحقون لشكر الآباء والأمهات والطلاب والطالبات.
فينبغي على كل طالب وطالبة احترامُهم وتقديرهم،والتأدب معهم، والتواضع لهم، والاستفادة من علمهم وخبرتهم، وإكرامهم، وعدم التكبر عليهم، أو غيبتهم، أو الإساءة إليهم، أو الاستهانة بهم، أو تحقيرهم. قال الشافعي رحمه الله: “كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً هيبة لئلا يسمع وقعها”.
وقال الربيع رحمه الله: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له.
وأما تعامل المسلم مع إخوانه وأصدقائه فيكون بإظهار المحبة لهم، وإلقاء السلام عليهم، والبشاشة في وجوههم، والتعاون معهم على الخير، ونصرتهم في الحق. وإعطائهم حقوقهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، وأن يرفق بهم، ويعفو عن زلاتهم، ويحفظ لسانه من الوقوع في أعراضهم، وأن يزور مريضهم، ويعين ذي الحاجة منهم، ويدعو لهم بظهر الغيب، استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤن كالبنيان يشد بعضه بعضا)(متفق عليه).
قال الحسن رحمه الله:”إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة”.
وقال عطاء: “تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا نسوا فذكروهم “.
وأما تعامل المسلم مع جيرانه فيكون نعم الجار لجاره بحسن خلقه، وتواضعه، وأداء حقه، والإحسان إليه، وإيصال النَّفع له، والعطف عليه، ومعاشرته بطيب الوفاق وكرم الأخلاق، وصبره على ما يصدر منه من أذى، ومَن كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر فليُحسِن إلى جاره، إِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ،وَإِنِ اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ،وَإِنِ احْتَاجَ أَعْطَيْتَهُ، وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ تَبِعْتَ جِنَازَتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ سَرَّكَ، وَهَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ سَاءَتْكَ وَعَزَّيْتَهُ، لا تُؤْذِهِ بِقَتَارِ قِدْرٍ لَكَ، إِلا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَلا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ لِتُشْرِفَ عَلَيْهِ، وَتَسُدَّ عَلَيْهِ الرِّيحَ إِلا بِإِذْنِهِ، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَاهْدِ لَهُ مِنْهَا، وَإِلا فَأَدْخِلْهُ سِرًّا،لا يَخْرُجُ وَلَدُكَ بِشَيْءٍ مِنْهُ يَغِيظُونَ بِهِ وَلَدَهُ”.
وصدق الله العظيم:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[التوبة: 71، 72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ووسلم تسليما كثيراً، أما بعد:
فيا أيها المسلمون والمسلمات اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أكثر الناس حاجة إلى التعامل الحسن العمالَ والسائقين والخدم لأنهم تركوا أهليهم وديارهم وأوطانهم من أجل طلب الرزق، فتعاملوا معهم بالأخلاق الحسنة، من التواضع، والبشاشة، وإلقاء السلام، وإعطاء الهدية، وكسوتهم، والتصدق عليهم، وإعانتهم على أمر دينهم ودنياهم، وألا يكلفوا أعمالاً فوق طاقتهم، وأن يصانوا عن ذميم الأخلاق من سبٍ وشتمٍ وسخريةٍ وغيرها مما يوغر صدورهم، وأن تكونوا قدوة صالحة في التعامل معهم اقتداءً بنبينا صلى الله عليه وسلم لتكونوا نعم الدعاة إلى دينكم، فعن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي : أفٍ، ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت)(رواه البخاري).
وأما التعامل مع غير المسلمين فيكون بالخلق الحَسَن، القائم على البِرِّ والقِسْط والإحسان، وأداء حقوقهم، فلهم الحق أن يعيشوا آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم، بل ويتمتَّعوا بالبرِّ والإحسان، لقول الله جل وعلا {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8]، وقال صلى الله عليه وسلم:(لهم ما لنا، وعليهم ما علينا)، وقال عليه الصلاة والسلام:(مَن آذى ذميًّا، فإني خَصْمه، ومن كنتُ خصمَه خصمتُه يوم القيامة).
أيها المؤمنون والمؤمنات: ينبغي على كل واحد منا أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة، هل التزم بما أمره الله ورسوله به، فيفوز برضا ربه جل وعلا ودخول جنته، أم أنه فرط وأساء وظلم فيتوب ويئوب إلى ربه ويتحلل من المظالم والآثام قبل لقاء الله تعالى.
إن من تحلى بالصفات الحسنة من العدل والإنصاف والتواضع والرحمة واللين والرفق والبشاشة، واتقى الله في تعامله مع من حوله، وحرص على تعويد نفسه كظم غضبه، وطُهر قلبه من الحقد والحسد والكراهة، وحفظ لسانه من البذاءة، وسوء الأدب، والوقوع في الغيبة والنميمة، وظلم الآخرين، والتكبر عليهم واحتسب الأجر من الله في ذلك فليهنأ وليسعد، وليعلم أن جميع من حوله ممن يتعامل معه بداية من الوالدين، وانتهاءً بعامة الناس سوف يطيب بحسن عشرته، وحلو حديثه، وبشاشة وجهه.
أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم تقواه وحسن الخلق وكريم التعامل مع الغير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 9 / 11 /1437هـ