خطبة بعنوان: (مهلا أيها الزوجان) بتاريخ: 13 / 1 / 1438 هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
عباد الله: إن من أجل نِعَم الله جل وعلا على عباده نعمة الزواج، قال جل وعلا:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم: 21]، وهي نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا من فقدها، لما فيها من المقاصد العظيمة والفوائد الجلية والحكم البالغة.
فبالزواج تبدأ الحياة الزوجية بالمشاعر المليئة بالحب والوئام والانسجام، وتحصل المودة والرحمة والسكن ويحصل الاستمتاع.
لكن في بعض البيوت مع مرور الوقت وزيادة المسئوليات سرعان ما تبدأ تلك المشاعر الجميلة التي عاشها الزوجان في بداية زواجهما بالانحسار والانخفاض، فيتبع ذلك سُوءُ الأخلاق وكثرةُ النزاع والشقاق، ويتطور الأمر وقد يصل إلى الطلاق والانفصال.
إن بعض الأزواج ــ هداهم الله ـ بعد أن يمن الله عليهم بالزواج، ويرون نساءهم تحت أيديهم، يقومون على شؤونهم، ويؤدون حقوقهم، ويربون أبناءهم، ينسون هذه النعمة، فيسيئون العشرة، وتصدر منهم المظالم، فيتأزم الأمر وقد تطلب المرأة الطلاق، وهنا يتذكر هذه النعمة ويحاول أن يراجع نفسه في وقت لا تنفع فيه المراجعة أو الندم.
وقد كثرت أخيراً في بيوت المسلمين المشاكل الزوجية، بسبب ضعف الإيمان وجهل كثير من الأزواج والزوجات بحقوق الآخر عليه.
وإذا نظرنا إلى غالب المشكلات الزوجية التي تقع بين كثير من الأزواج ـ نظرة ثاقبة ـ وجدنا أن لها حلولاً بأيدي الزوجين، ولكنهما في الغالب يغفلان عن ذلك أو يتغافلان، ولو استشعر كل طرف خطورة تلك المشاكل على البيت وأهله وعلم أنها تؤدي إلى مراحل خطيرة يترتب عليها انهيار البيت، وحصول الطلاق، وتشتيت الأسرة، وضياع الأبناء، لحرصا أشد الحرص على المضي قدما في إصلاح ما فسد بينهما.
عباد الله: ولعلنا نقف مع الصور التي تحدُث الخلاف بين الزوجين ونوضح كيفية علاجها فيما يأتي:
أولاً: سوءُ التعامل بين الزوجين: فالرجل لا يعير المرأة الجانب العاطفي في حياتها، فيبخل عليها بكلمات قليلة تُسعد نفسها، وتُدخل السرورَ على قلبها، وتعطيها القوة اللازمة للقيام بحق زوجها وتربيةِ أبنائها، بل تحصل منه الشدةُ والقسوةُ ، والتعاملُ العنيف، وربما يصل الأمرُ إلى الضرب والإهانة. والذي ينبغي شرعاً أن يراعيَ الزوج شعور زوجته، إذا هي غضبت، أو تكلمت، أو صدر منها خطأ بأن يتجاوز عن ذلك، ويحرص على إشعارها بقيمتها وأهميتها في حياته.
وإليكم ذلك الموقف رائع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحكي موقفه مع إحدى زوجاته، فقد
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت).
وهكذا ينبغي على كل زوج ألا يجرح مشاعر زوجته عند كل مشكلة أو أزمة، بل عليه أن يتلطف معها وأن يرفق بها، وأن يراعي غيرتها ومشاعرها.فإذا دخل عليها وهي غضبانة فلا يضحك، وإذا وجدها مريضة فلا يتركها لحالها ويذهب، وإذا رآها في حالة نفسية سيئة فعليه أن يهونِّ عليها وأن يذكرها بالله تعالى.
والعكس بالعكس فبعض الزوجات ـ هداهن الله ـ لا يُعِرْنْ أَزواجهن أدنى اهتمام، فلا تتزين له، ولا تتلقاه بكلمة طيبة، أو ابتسامة رقيقة، ولا تهتم بشؤونه، بل ويتجاوز الأمر من بعضهن إذا حدثت مشكلة بينهما أنها تقصر في أداء حقه الشرعي عليها، وهنا يحصل الشقاق والتنافر وتذهب الألفة والمحبة والمودة، ويستغل الشيطان تلك المشكلات ليحصل الصدع ويقع الطلاق ويتهدم البيت.
ثانياً: ترك كثير من الأزواج بيوتَهم وأهليهم وأولادهَم ويذهبون للجلوس مع أصدقائهم، إما في استراحات، أو نزهات، فتجدهم يسهرون أغلب الليل في السواليف والضحك والمزاح، وعندما يرجع كل واحد منهم إلى بيته، فلا يُولِيْ زوجتَه حقَّها من الحديث والأنس، ولا يواسيها بأدنى كلمة، بل ينقلب وجهه الضاحك إلى عبوس، والرجل الوديع إلى وحش كاسر، بل ربما أضاع حقها الشرعي من المبيت والمضاجعة، وهنا تصاب الزوجة بالهموم والمكدرات، فيضعف جانب الحب والمودة في قلبها، وتسوء عشرتها وتقصر في حق زوجها، بل ربما طلبت الطلاق لعدم اهتمامه بها.
وهنا يجب على الزوج أن يراعي هذا الجانب في حياتها، فكما تحب أنت أيها الزوج أن تجالس أصدقائك لتحادثهم وتمزح معهم وتأنس بهم، فهي كذلك تحب أن تجدك بجوارها لتؤانسها وتجالسها وتمازحها وتدخل السرور عليها، واسمع لوصية ربك جل وعلا لك { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}[النساء:19]، ووصية نبيك صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فاستوصوا بالنساء خيرا)(متفق عليه).
ثالثاً: كثرة زيارات المرأة سواء كان لأهلها أو صديقاتها: وهذا أصبح كثيرا في حياتنا، وأنتم تعلمون ما يترتب على ذلك من التقصير، كضياع الوقت الذي هو حق من حقوق زوجها عليها، وتقصيرها في جانبه، وزيادة الأعباء والتكاليف بشراء ما لا يستفاد منه دون أدنى اهتمام بظروف زوجها المادية، وهنا يجب على المرأة أن تراعي حق زوجها، بأن تجيبه إلى ما يحب، وأن تجالسه، وأن تريه منها خيرا، وأن يكون زوجها أهم عندها من أي أحد آخر. وأن تعينه على فعل الخير وبذله، وأن تحرص على طلب مرضاته فبذلك تحافظ على زوجها وبيتها، وبذلك تنال مرضات ربها وجنته.
رابعاً: إبراز العيوب وإغفال المزايا: فبعض الأزواج ينظر إلى عيوب ونقائص الطرف الآخر، ويعمل دائمًا على إبرازها وتضخيمها، ويغفل عما يراه من إيجابيات ومزايا، وهذا كثيرا ما يقع بين الزوجين، ويسبب النفرة والتخاصم، والذي ينبغي أن ينظر كل منهما بما في الطرف الآخر من مزايا وإيجابيات وأخلاق طيبة، وأن يعملا على إبرازها وتنميتها، وأن يتغاضى عن جوانب القصور والعيوب لدى الطرف الآخر ففي ذلك السعادة والراحة والعيش الطيب.
خامساً: عدم الجلوس مع الأولاد: فبعض الآباء والأمهات تراهم ميسرين لأولادهم كل سبل الراحة، ولكنهم يتركونهم دون اهتمام أو توجيه أو رعاية، ولا يقومون بتربيتهم وتنشئتهم التنشئة الصحيحة، ولا شك أن هذا خطأ عظيم، فهؤلاء الأولاد ودائع عندكم قد أوصاكم الله بهم بقوله {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء:11]، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلموهم وتؤدبوهم وتكفوهم عن المفاسد، وتأمروهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام، كما قال جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم:6]، فإما أن تقوموا بتلك الوصية، وإما أن تضيعوها فتستحقوا بذلك الوعيد والعقاب الشديد.
سادساً: السكوت على المشاكل وعدم التصدي لها وحلها: معلوم أن كل بيت لا يخلو من المشاكل والخلافات، ولكنّ كثرتًها وتكرارهَا، وعدمَ الوقوف أمامها، وبذلَ الوسع في علاجها، يولِّد شعورًا بالهم والغم والضيق والضجر، ورغبة كل طرف في التخلص من هذه العلاقة في أسرع وقت ممكن تجنباً لنكد العيش الذي يعيشه.
لذا ينبغي على الزوجين أن يقللا من تلك المشكلات، وأن يبادرا إلى معالجة كل ما يطرأ على حياتهما أولاً بأول، من خلال الحوار الهادئ والبعد عن العصبية والشدة للوصول إلى الحل الذي يرضي الجميع، وكلما كان الزوجان أحرص على حل مشكلاتهم، وإيجاد التآلف بينهم فالله ييسر لهم ذلك، ويسهل عليهم أسباب الألفة والمودة، ويجمع بينهما على الخير دائما، وصدق الله جل وعلا { إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}[النساء:35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله جل وعلا، واعلموا أن الحياة الزوجية لا طعم لها ولا ضمان لاستمراريتها ، وبقاء حيويتها بدون تواضع الطرفين، فمهلا أيها الزوجان.. تغلبا على مشاكلكما، وعالجاها بالهدي الرباني، واعملا بما أوصى به الله تعالى وأوصى به نبيه صلى الله عليه وسلم، وحافظا على بيتكما، واجعلا التفاهم سمة طيبة فيما بينكما، وغضا الطرف عما يحصل من نقص أو تقصير أو خطأ من كليكما، وحسِّنا أخلاقكما، وربِّيا أولادكما تربية طيبة، واجعلا حياتكما سعيدة هنية، تعتريها الرحمة، وتغطيها سحائب المودة ، وتملأ جوانبها الأخلاق الطيبة الكريمة، وبذلك تسعدان وترتاحان وتعيشان حياة كريمة مليئة بالحب والسعادة والفرح والسرور.
أسأل الله أن يصلح لنا نياتِنا وأعمالنَا وأزواجَنا وذرياتِنا، وأن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا وأن يجعلها في طاعته ومرضاته.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 13 / 1 / 1438هـ