فضل الصدقة والمساهمة في أعمال البر – خطبة الجمعة 5-9-1445هـ
الحمدُ للهِ ذيِ الجودِ والسّخَاءِ، خزائنُهُ بِالخيرِ مَلأَى ويَدُهُ بالنفقةِ سَحَّاء، أمرَ بالإحسانِ والبذلِ والعطاءِ، وَوَعَدَ بالخيرِ والزّيادةِ والنّمَاءِ، يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ المحسنينَ، ويَجْزِي بفضلهِ المتصدقينَ، ويُخْلِفُ النفقةَ على المنفقينَ (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ:[39] وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ولي الصالحين، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدينِ أمَّــا بَعْـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ فالتقوى غنيمةٌ وسَلْوَى، وقُرْبَةٌ وزُلْفَى ونَجَاةٌ مِنَ الْبَلْوَى، قالَ تعالَى: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى) النساء: [77].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: هَا قدْ حلَّ بكم الضَّيفُ الكَرِيمُ، والشَّهْرُ العَظِيمُ، وهُوَ الآنَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، فَجِدُّوا لاسْتِثْمَارِهِ، وشَمِّرُوا لاغْتِنَامِهِ، فَإِنَّهُ ضَيْفٌ عَزِيزٌ، أوقَاتُهُ ثَمِينَةٌ والعِبَادَةُ فيهِ عَظِيمَةٌ، والأُجُورُ مُضَاعَفَةٌ، والرَّحَمَاتُ نَازِلَةٌ، والمغْفِرَةُ شَامِلَةٌ، فَدُونَكُم رمضان، لا تَبْرَحُوا حتَّى تَبْلُغُوا، قالَ ﷺ: (ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ) أخرجه الترمذي (3545) وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: وقدْ جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ شهرَ رمضانَ طُهْرَةً للمسْلِمِ، يَترَبَّى فيهِ على إِلْجَامِ النَّفْسِ وإِحْكَامِهَا وإِخْضَاعِهَا لمرَادِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فيُحْكِمُ الشَّهْوَةَ بالصِّيَامِ، ويَهْجُرُ النَّوْمَ للقِيَامِ، ويُعَالِجُ أَدْرَانَ الْقَلْبِ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ، ويَتَخَلَّصُ مِنْ آفَةِ الشُّحِّ والبُخْلِ بالْبَذْلِ والإِحْسَانِ، قالَ تعالى:(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9].
أيُّهَا المؤمنُونَ: والصَّدَقَةُ مَرْضَاةٌ للواحِدِ القَهَّارِ، ومَنْجَاةٌ وخَلاصٌ مِن النَّارِ، يَسْتَظِلُّ بِهَا صَاحِبُها تحتَ ظِلِّ عَرْشِ ربِّ العِبَادِ، ويَتَفَيَّؤُ ظِلالَهَا يومَ التَّنَادِ، بِهَا تُدْفَعُ الْبَلايَا وتُسْتَجْلَبُ الْعَطَايَا وهِيَ شِعَارُ المحسنينَ، ودِثَارُ المتَّقِينَ، وعِبَادَةُ المُخلِصِينَ، تَطِيبُ بِهَا نُفُوسُ المؤمنينَ، وتَضِنُّ بِهَا نُفُوسُ المنافقينَ، قال تعالَى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) المنافقون: [10] وفي الحديثِ القُدُسِيِّ: (يَا ابْنَ آدَمَ أنّى تُعْجِزُنِي وقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ حَتَّى إذَا سَوَّيْتكَ وعَدَّلْتُكَ مشيتَ بين بُردتَينِ وللأرضِ منكَ وئيدٌ فجَمعتَ ومنَعتَ حتى إذا بلغتِ التَّرَاقِيَ قُلتَ: أتصدقُ وأنّى أوانُ الصَّدَقَةِ) أخرجه أحمد (17842)وصححه الألباني.
عِبَادَ اللهِ: والصَّدَقَةُ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ، والتَّاجِرُ الحصيفُ متى عَلِمَ أنَّ التجارةَ رابحةٌ والربحَ وفيرٌ، بَذَلَ أَنْفَسَ أموالِهِ وربُّمَا بَذَلَ كلَّ مَا يَمْلِكُ، وهذا ما يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ المسلمُ في تجارَتِهِ معَ ربِّه قالَ تعالَى: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) البقرة: [245] وقال ﷺ: (إنَّ اللهَ لَيُرَبِّي لأحَدِكُم التَّمرةَ واللُّقْمةَ، كما يُرَبِّي أحَدُكُم فَلُوَّه أو فَصيلَه حتى يكونَ مِثلَ أُحُدٍ) أخرجه أحمد (26135) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (857)..
أيُّهَا المؤمنُونَ: والصَّدَقَةُ في الأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ أَعْظَمُ قَدْرًا فقدْ كَانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدَ النّاسِ وكانَ أجْوَدَ ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ وكانَ يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فيُدارِسُهُ القُرْآنَ فَلَرَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ) أخرجه البخاري (6) ومسلم (2308).
عِبَادَ اللهِ: والواجِبُ على المتَصَدِّق أنْ يَحْرِصَ على وضْعِ صَدَقَتِهِ في مكانِهَا المنَاسِبِ، ولا يتَسَاهَلُ في إخْرَاجِهَا، ويَتَحَرَّى المسْتَحِقِّينَ لَهَا، الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يَطْعَمُونَ، ولا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْأَلُوا، مَنعَهُم العَفَافُ، وتَلَحَّفُوا بِثَوْبِ السَّتْر، قالَ تعالَى:(للْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) البقرة: [273].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وبَذْلُ الصَّدَقَةِ لمُسْتَحِقِّيهَا، وتَحَرِّي أَشَدّهم حَاجَةً، عِبَادَةٌ وقُرْبَةٌ، قالَ ﷺ: (ليسَ المِسْكِينُ بهذا الطَّوّافِ الذي يَطُوفُ على النّاسِ، فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ، قالوا: فَما المِسْكِينُ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلا يُفْطَنُ له فيُتَصَدَّقَ عليه وَلا يَسْأَلُ النّاسَ شيئًا) أخرجه مسلم (1039).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة: 261].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ ربِّ الْعَالمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خاتمُ المرْسَلِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أجمعين أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّ بلادَنَا-حَفَظَهَا اللهُ- أنْشَأَتْ جهاتٍ رسميَّةً، ومنصاتٍ موثوقةً تتولى توزيعَ الصَّدقاتِ، وإيصالَهَا لمستحقِّيهَا؛ كمِنَصَّةِ إحسان، ومنصةِ جود للإسكانِ، ومنصةِ زكاتي، ومنصةِ فُرِجَتْ التي تَبَنَّتْهَا منصةُ إحسان المباركةِ؛ لمساعدةِ الغارمينَ، وسجناءِ الحقوقِ الماليَّةِ من المدينينَ العاجزين.
فاحْرصوا -رعاكم اللهُ-على جمعِ شَمْلِ هؤلاءِ الأُسَرِ بسدادِ ديونِهِمْ وفكِّ قُيُودِهِمْ واعلمُوا أنّ هذا خيرٌ من كثيرٍ من وجوهِ الصَّدقاتِ التي ينتفعُ بها المحتاجُ وغيرُ المحتاجِ وقد تفيضُ فلا يُسْتَفَادُ منهَا، بَلْ تُرْمَى أحْيَانًا عندَ الحاوياتِ، واحْذَرُوا الإسْرَافَ في مَوَائِدِ إفطَارِ الصائمين واجْعَلُوهَا في سِلالٍ غِذَائِيَّةٍ تَدْفَعُوا حِاجِِتهم، وتَسُدُّوا جَوْعَتَهم.
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُبَلِّغَنَا رمضانَ، وأَنْ يُعِينَنَا فيهِ على الصِّيَامِ والقِيَامِ والصَّدَقَةِ والإِحْسَانِ، وأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ، وأنْ يَرْزُقَنَا إِخْلاصَ النِّيَّةِ، وَعُلُوّ الْهِمَّةِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وحُبَّ المسَاكِينِ، وأَنْ تَحْفَظَنَا مِنْ مُضِلَاّت الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن يَا ذَا الْجَلالِ والإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أمِّنَا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أمُورِنا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عَامَّةً لِلْحُكْمِ بكتابِكَ والْعَمَلِ بِسُنَّةِ نبيِّكَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ الملك سلمان بن عبدالعزيز وسُمُوَّ وَلِيِّ عَهْدِهِ لِكُلِّ خَيْرٍ، واصْرِفْ عَنْهُمَا كُلَّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُمْ وأَعْوَانَهُم ووُزَرَاءهُمْ لما فِيهِ خَيْرُ الْبِلادِ والْعِبَادِ، ولمَا فِيهِ عِزُّ الإسْلامِ وَصَلاحُ المسْلِمِينَ.
اللَّهمَّ ارْبِطْ على قُلُوبِ رجَالِ الأمنِ، والمرَابِطِينَ عَلَى الْحُدُودِ، الّذِينَ يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ، اللهُمَّ احفظهمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمِ ومِنْ خَلْفِهِمِ وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الجمعَ مِن المؤمِنِينَ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّهُمْ، وَنَفِّس كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ دِيُونَهُم وَاشْفِ مَرْضَاهُم، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، واغْفِرْ لَهُم ولآبَائِهِم وأُمَّهَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَوَالِدِينَا وَأَزْوَاجنا وذُرِّيَّاتِنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56]. الجمعة 1445/9/5هـ