المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:فإن محبة الأوطان، والانتماء للأمة والبلدان أمر فطري غريزي، وطبيعة جبل الله النفوس عليها. (قال تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ..}([1]).فحين يولد الإنسان في بلد ما، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، فيأكل من طعامه، ويشرب من مائه، ويحيا بين أهله وإخوانه، فإن فطرته ترتبط به، فيحبه ويواليه، ويجتهد في رفع شأنه، وتحسين صورته، ويذب عنه لمن يتكلم في حقه، أو يريد إيقاع الضرر به، وهذا كله مرتبط بما يكون عليه هذا الوطن. فإذا كان هذا الوطن متمسكاً بشرعة الله تعالى، مطبقاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قائماً بحدوده، فهذا هو أغلى الأوطان، وأحبها إلى نفوس عباد الله المؤمنين، وهذا هو الذي تبذل له النفوس والأموال، أما إذا كان غير ذلك فيكون حقه على قدر ما يشعر فيه بالعدل والأمان. ومهما كان الأمر فارتباط الإنسان بوطنه كامن في كل نفس بشرية، ويستشعر ذلك الإنسان حينما يترك بلده مهاجراً إلى بلد آخر، فيشعر بالحنين والشوق له، وتتحرك عواطفه الكامنة الدالة على محبته.ويظهر ذلك أيضاً حينما يصاب بلده باعتداء أو ظلم، فيبادر إلى الدفاع عنه،* والذب عن حياضه، ويحزن إذا كان بعيداً عنه لعدم قدرته في الدفاع عنه، فيكون لسانه سهماً في جلب الدعاء على من اعتدى عليه.إن الحديث عن حب الوطن، حديث ذو شجون وكيف لا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما أخرجه قومه من بلده التي نشأ بها، وترعرع بين جنباتها حزن أشد الحزن فقال وهو يغادرها (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)([2]). فهذا الوطن الذي يتعلق به المسلم يحتاج إلى وجود المواطن الصالح الذي يعرف قيمة وطنه، ويعمل على علو منزلته ورفع شأنه بين سائر الأوطان. فجميع الأوطان في هذا الوقت تضم أجناساً بشرية مختلفة، ومكونات أيدلوجية أو قومية أو عرقية متنوعة، إلا أن الجامع الذي يجمع هؤلاء جميعاً هو نظام الوطن والمواطنة الذي لا يخل بديانات الناس. ومن خلال الصفحات القادمة سوف أبين ـ إن شاء ـ بعضاً مما أتيح لي في إيضاح مفهوم المواطنة وما يرتبط به من مصطلحات أخرى، وأن حب الوطن من الفطرة التي جبل الله الناس عليها، والحث على إيجاد المواطنة الصالحة التي تعمل لصالح وطنها، ولسائر أوطان المسلمين. وكتب
أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار الزلفي ـ الثلاثاء 1/1/1432هـ التمهيد: المطلب الأول: تعريف المواطنة: إن المواطنة في الزمن الماضي لم يكن لها أثر بين الناس، ولم يكن يثار بسببها جدل أو نقاش، ومن خلال التاريخ الإسلامي الماضي وخلال مراحله السابقة التي اختلط فيها المسلمون بغيرهم من أهل الثقافات الأخرى كانت حياة الجميع مستقرة، قائمة على الاعتراف بالذات، سواء كان ذلك في ديار الإسلام أو في غيرها، لوضوح التعامل بين المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخرى، والتزامهم الدقيق بشريعة الإسلام نظراً وتطبيقاً، فكان الناس يعيشون تحت مظلة واحدة، وبلد واحد، ولكن في عصرنا الحالي أصبحت المواطنة من أكبر المشكلات المثيرة للجدل سواء كان ذلك في ديار المسلمين أو في غيرها، بسبب المفاهيم المختلفة التي وردت من غيرنا، أو مما أضيفت من أهل الإسلام. ومن المسلم به أن الإسلام هو أول الشرائع التي حثت على الوحدة بين الناس كافة، فلم تفرق بين أحد إطلاقاً إلا في التقوى، ولكنها شريعة جاءت بالعدل والحق والمساواة في الحقوق بين البشر كافة، قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([3]). إن لفظة المواطنة ليس لها وجود في اللغة العربية أو الأدبيات الإسلامية، ولكن لها مفهوم عام، لذا وهناك فرق بين المفهوم والاصطلاح، فالمفهوم يحاكي الفكرة، والمصطلح يحاكي اللفظ الذي يعبر عن هذه الفكرة. فعند تناول مسمى المواطنة نتناولها من حيث المفهوم، وننزل هذا المفهوم ونسقطه على النصوص الشرعية في الإسلام، أو غيره من أدبياته. أجل: إن المواطنة انتماء وموالاة لعقيدة، وقيم ومبادئ انتماء تغمره أحاسيس العزة ويكلله الفخر، وموالاة تعكسها سمات التضحية وتترجمها معاني الإيثار. المطلب الثاني: مصطلحات أخرى حول المواطنة: إن المواطنة لها ارتباطات ببعض المصطلحات الأخرى والتي قد تعبر عنها، أو تكون قريبة من مفهومها، أو هي جزء من محتواها، ومن ذلك: مفهوم الانتماء: يعد مفهوم الانتماء الوطني من المفاهيم العالمية، والمهمة في عالمنا المعاصر والذي أصبح من المفاهيم المتكررة في سائر وسائل الإعلام سواء المرئية أو السمعية، بل أصبح مفهوماً رئيساً في حياتنا العامة. وقد عرف هذا المفهوم لغة: بأن معناه الانتساب، فانتماء الولد إلى أبيه انتسابه إليه واعتزازه به، والانتماء مأخوذ من النمو والزيادة والكثرة والارتفاع فالشجر ينمو وكذلك الإنسان. كما عرف البعض الانتماء اصطلاحاً: بأنه الانتساب الحقيقي للدين الإسلامي والوطن فكراً ومشاعر ووجداناً، واعتزاز الفرد بالانتماء إلى دينه من خلال الالتزام بتعاليمه، والثبات على منهجه، وتفاعله مع احتياجات وطنه، ويظهر ذلك من خلال بروز محبة الفرد لوطنه والاعتزاز بالانضمام إليه والانتماء الحقيقي يشتمل على قيم عالية سامية، تتمثل في محبة الفرد لمجتمعه، وحرصه عليه وتفاعله مع جميع أفراده وخاصة عندما يكون هذا الوطن وطناً إسلامياً بمعنى الكلمة. ثانياً: القومية: وهي مشتقة في اللغة العربية من (قوم)، والقوم جماعة من الرجال والنساء جميعاً، وقوم كل رجل عشيرته. والقومية روح ومبدأ روحي، أي أنها تعني التضامن الحق الذي تخلقه عاطفة المستقبل، وتعترض القومية ماضينا، ولكنا نثبت وجودها في الحاضر بحقيقة ملموسة هي الرضا، والمقصود بالرضا هو رغبة مجموعة بشرية معينة رغبة أكيدة وواضحة في العيش معاً وفي الاستمرار في ذلك مستقبلاً. فالإنسان يحب أمته تحت تأثير النزعة القومية، ويشعر بارتباط قلبي نحوها، ويؤيد أمجادها ويفتخر بها، ويتألم بمصابها، كما أن الإنسان يحب وطنه تحت تأثير النزعة الوطنية فيفجع لنكبته ويسعى لخدمته، ولا يتأخر عن التضحية في سبيله. إن الوطنية قائمة يعيشها الإنسان العربي، وهي واقع طبيعي لا يهدد القومية العربية، ما دامت ليست هدفاً بذاتها، بل بعداً من أبعادها، أما إذا صارت هدفاً بذاتها فتعتبر إقليمية وليست وطنية، والأمة العربية والأسس التي تقوم عليها قوميتها لا تسمح بذلك فلا خطر على القومية من الدعوة إلى الوطنية. فالقومية في وقتنا الحالي تقوم على عدة عوامل، ومن ذلك: العامل التاريخي، واللغوي، والاجتماعي، والجغرافي، والاقتصادي، والسياسي، والديني العقائدي، والوطني، فكل ذلك يزيد من ارتباط القوم معاً، وخاصة إذا ارتبطت الأمة بالعامل الديني العقدي. ولكن هذه القومية تضعف ولا يكون لها قوة ولا تمساك ما دامت ترتبط بغير رباط الدين، فكل أمة تقوم على هذه القومية ولا يكون لها عقيدة صحيحة قوية فهي أقرب إلى الزوال. وهذه القومية قريبة من الوطنية، ولكن تختلف معها في بعض الجزئيات الأخرى، والتي تختلف باختلاف القائلين بها والمطبقين لها في حياتهم. ثالثاً: الأُمَّة: والأُمَّةُ لغة: السُّنَّةُ في الدِّين، من قوله عز وجل:{إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنا على أُمَّةٍ}، وكل قوم نسبوا إلى نبي فهم: أمته.وكل جيل من الناس: أمة على حدة. وهي من الجماعات: ما بين الأربعين إلى المائة([6]). واصطلاحاً: هي الجماعة البشرية المتماسكة وفق نظاميها الاجتماعي والثقافي. وللأمة روح واحدة تتجلى في وحدة عناصر مثل: اللغة، والعرق، والدين، والعادات، والتقاليد([7]). وهذا التعريف ينطبق على الأمة العربية التي محور اتحادها اللغة في حين أن الأمة الإسلامية محور اتحادها هو الدين الإسلامي العظيم بفحواه الظاهر والباطن. والأمة معناها قريب من الوطنية إلا أنها تختلف باختلاف الدولة أو الدول التي يعيش فيها الناس، فكل أمة تختص بشيء ربما يكون مغايراً لغيرها من الأمم كاللغة، أو اللون، أو الأرض، أو الدين، أو غير ذلك؛ فهي ترتبط ببعضها البعض حسب ما ذكرناه سابقاً. رابعاً: الشَّعْب: الشعب يطلق عليه: أمة ما إنما تنحدر بصفة عامة من أجناس وأصول عرقية مختلفة اختلطت مع بعضها البعض بفضل التكتلات البشرية والغزوات والحروب، وتحكم الشعب تجربة تاريخية مشتركة، ويربط بين أفراد الشعب الأصل والتاريخ، واللغة والأرض. والشعب مجموعة من الأفراد تتميز عن باقي المجتمع بميزة أو أكثر مشتركة بينهم كالإقامة في منطقة معينة أو الجنس، أو المهنة أو العقيدة السياسية. خامساً: الجنسية: الجنسية عبارة عن علاقة بين فرد ودولة، وبناء على هذه العلاقة تمنحه هذه الدولة جنسيتها بناء على ولاءه لها، والذي يستخدم كمصطلح عام للإشارة إلى مجموعة التزامات يلتزم بها هذا الفرد تجاه الدولة التي ينتمي إليها. وهي تشير أيضاً إلى وضع الأفراد من وجهة نظر القانون الدولي بمعنى كل فرد له رابطة بدول معينة ينتمي إليها وتمنحه جنسيتها بغض النظر عن ماهية الحقوق والواجبات التي تعتمد على دستور وقوانين الدولة، ومن ثم ليس بالضروري أن تحوي الجنسية حق ممارسة الحقوق والوظائف المدنية والسياسية، وبالتالي يكون للجنسية معنى أوسع من المواطنة التي قد تستخدم أحياناً كبديل لها. والجنسية أيضاً تكتسب السمة الدولية، بينما ترتكز المواطنة على الإطار الوطني، فهي تميز بين الداخل والخارج، تعبر فيه المواطنة عن العلاقة القانونية بين الفرد والجماعة السياسية التي ينتمي إليها وتتحول إلى علاقة بين دولتين أو أكثر، بمناسبة الوضع القانوني للفرد من ناحية ثانية. المطلب الثالث: المواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية: إن من المغالطات التي يبثها أعداء الإسلام الإيهام بوجود التعارض بين الوطنية بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام كشريعة متكاملة، وما هذا إلا حيلة للنيل من الإسلام والقدح فيه، وهو استغلال للمحبة الغريزية للوطن، لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعضاً من مصالح الوطن، وذلك باتخاذ بعض أحكام الشريعة التي تصادم مطالب الوطنية حجة لهم في النيل من عظمة الإسلام وقوته واستحقاقه. إن العقيدة الإسلامية هي أساس وطنية المسلمين، ولذلك فحدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى ثانياً، ومن ثم يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة، وشعور الوطنية العامة؛ لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسان الخير لبلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم القليل والكثير من أجل رفعة شأنه وتقدمه. إن المسلم يكون ولاؤه أولاً وآخراً لله تعالى ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ويتمثل ذلك بعبوديته لربه، وإخلاصه له في كل عمل يقوم به، واتباع شرعه. ثم ينتقل بعد ذلك ولاؤه إلى إخوانه من المسلمين، وذلك بالتعاون معهم في اتباع المنهج الحق، والقيام به، والتناصح من أجله، والعمل على نشره، ورفع قدره بين الناس. فرابط الولاء يمثل الأمة الإسلامية جمعاء، لا لكونهم في مجتمع واحد، أو أنهم ينحدرون من عرق واحد، أو من أجل اشتراكهم في لغة واحدة، إنما يجمعهم رب واحد، ودين واحد، ونبي واحد. إن المواطنة من مفهومها السابق والمستمد من الشريعة الإسلامية الغراء لا يتعارض مع الانتماء إلى الأمة الإسلامية، ولكنها تتعارض مع الوطنية التي تكون سبباً في تنازع الأمة وتقسيمها إلى طوائف متناحرة وأحزاب مختلفة، والتي تركن إلى شرائع وضعية شكلتها الغايات المادية، وفسرتها الأفهام القاصرة وفق المصالح والأهواء. إن الوطنية التي يتمسك بها كل مسلم تلك الوطنية التي تأخذ حظها من الشريعة الغراء، والتي تهدف إلى تقوية الرابطة بين أبناء البلد الواحد على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ودياناتهم، واستخدام تلك الرابطة في تقوية المصالح المشتركة التي تعود على الوطن بالخير والنماء والأمن والأمان. وهي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم المتمثلة بحقوق الإنسان لقيامها على قاعدة التسامح، فهي تحترم الواقع وليست مجرد شعارات، وهي أداء بناء واستقرار، لا وسيلة تهديم وتفريق وزرع مشكلات كما هو شائع في بلاد الغرب، إنها مفهوم يعتمد على أساس الحرية والمساواة. وقد ظهر ذلك جلياً حينما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد المواطنة بين المسلمين واليهود وغيرهم ممن لم يدخل في الإسلام، والتي أطلق عليها (صحيفة المدينة)([8])، وهي التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة. وقد تضمنت تلك الصحيفة قضايا المواطنة وحقوق المواطنين ووجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد الأعداء، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين، والتي سوف نتكلم عنها بالتفصيل المطلب الرابع: عناصر المواطنة: المواطنة تقوم على عناصر محددة لا تخرج عنها إلى غيرها، ومن تلك العناصر: أولاً: الوطن: وهو في اللغة العربية محل الإنسان، فهو السكن، وهو المنزل، أو البيت الذي يقيم فيه، ولم تذكر معاجم العربية سوى الأصل لهذا اللفظ إلا هذا المعنى. وقد عرف بعض العلماء الوطن لغة: بأنه الأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له. وعلى ذلك فإن الأرض التي ينشأ عليها جماعة ما ويتخذونها مستقراً ومقاماً لهم تعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، مؤمن فيه على نفسك وأهلك ومالك. ولهذه الكلمة معان اصطلاحية عديدة، منها: 1ـ الوطن الأصلي: وهو مكان مولد الإنسان، ونشأته. 2ـ وطن الإقامة: ويسمى بوطن السفر، وهو الوطن (المستعار) الحادث، وهو ما خرج إليه المرء بغية الإقامة فيه لمدة محددة من غير أن يتخذه مسكناً. وهو المكان الذي يولد فيه الإنسان، ويقيم فيه، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، ويرتبط فيه بالناس. ثانياً: المواطن: وهو فرد من الأفراد ينتمي إلى وطن ما، ويكون هذا المواطن صالحاًَ في نفسه، صالحاً في مجتمعه، باذلاً لجهده في خدمة وطنه، وتقديم كل الامكانيات المتاحة من أجل حفظ كيانه، ورفعة شأنه، والذود عن حياضه. فارتباط المواطن بوطنه يكون ارتباطاً نابعاً من الفطرة، والألفة، والانتماء الصادق لهذا الوطن، فالفرد يكتسب صفة المواطنة بمجرد انتسابه إلى وطن أو دولة معينة، ولكنه لا يكتسب صفة الوطنية إلا بالعمل لصالح لهذا الوطن، وتصبح المصلحة العامة التي تخص وطنه أهم لديه من مصلحته الخاصة. ثالثاً: حب الوطن: وهذا الحب كما ذكرنا حب غريزي ولكنه يختلف من شخص إلى آخر، فكم من الناس من يتشدقون بحبهم لوطنهم وهم عالة عليه، وآلة هدم في بنائه، وهذا هو الحب الزائف. أما الحب الصادق للوطن فإنما يظهر فيما يقوم به المواطن من بذل وعطاء، وجهد وبناء في سبيل إعلاء مكانة وطنه بين الأمم، فهو يحبه ويتعلق به، ويكون ذلك باحترام الأنظمة الموضوعة لحفظ أمنه، ونشر العدل بين ربوعه، ويبذل قصارى جهده في سبيل إعزازه ونصرته ورفع شأنه وحفظ مقدراته، ونشر إيجابياته، وستر عيوبه، والعمل على حفظ أمنه من كل من يريد به الشر والأذى. المطلب الخامس: الفرق بين المواطنة والأخوة: المواطنة يطلق عليها الحب الفطري الغريزي للوطن، نتيجة الألفة والمعيشة فيه، وذكريات الصبا ومآرب الشباب، وهو كما ذكرت سابقاً غريزي يشترك فيه الإنسان والحيوان والطائر على حد سواء مع اختلاف الأسباب، وهذا النوع من حب الوطن يعتبر مواطنة فطرية سرعان ما تذوب وتتغير مع تغير الأحوال والملابسات لأنها قائمة على حدود معينة. أما الأخوة فهي رباط معنوي ومادي، يربط بين الإنسان بأخيه، أو بإخوانه، وخاصة إذا كان هذا الرباط هو رباط الإيمان والعقيدة، فلا يؤثر نفسه على أحد من إخوانه، أو يقدم مصلحته على مصلحتهم، بل يكون كاليد الواحدة، والجسد الواحد. والأخوة من أعظم الروابط وأقواها وقد حث عليها دين الإسلام في كثير من توجيهاته، فبهذا الرابط يزيد عامل الإيثار، وينتشر بالتناصح، ويقوى بسببه باب التعاون على البر والخير والتقوى. وقد ذكر القرآن الكريم في آيات عديدة فضل الأخوة، وأن المسلمين كلهم إخوة تحت رباط العقيدة، قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..}([9])، وقال تعالى {.. فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..}([10]). وقال صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([11]). وأروع مثال على تلك الأخوة العظيمة مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكيف تلاحمت هذه الأمة فأصبحت لحمة واحدة مع اختلاف القبيلة والوطن والحال، ولكن جمعهم الإيمان والعقيدة، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعتهم الهجرة إلى الله ورسوله، ونصرة دين الله عز وجل، فلما كان الهدف والغاية وجه الله عز وجل اجتمعوا على ذلك فكانت هذه الأُخوة العميقة العظيمة الأثر والتي ما زال. فالفرق بين الوطنية والأخوة فرق كبير، فالوطنية مرتبطة بحدود، وسياج، وجنسية، ولغة. أما الأخوة فهي أعظم من ذلك، لأنها ترتبط بالعقيدة فقط، فجميع المسلمين إخوة في الله، لأنهم أبناء عقيدة واحدة، لا يخرج عنهم إلا من سلك طريقاً غير طريقهم. المطلب السادس: مفهوم المواطنة لدى المسلمين: البلاد التي تسودها شريعة الإسلام، وتطبق أحكامه هي وطن مسلم واحد حتى لو اختلفت اللغات والجنسيات، والإسلام وضع منهجاً واضحاً للدفاع عن الوجود الوطني بالبدء بأهل الدار أو بالوطن الصغير، ثم الانتقال إلى الجوار، ثم الأقرب فالأقرب حتى يعم جميع بلدان وأقطار العالم الإسلامي كله. فهي أمة واحدة خالدة على مدى التاريخ، لا تفرقها المصالح الصغيرة، ولا تفكك رابطتها الجامعة القضايا الجانبية، فكان المصطلح الإسلامي هو التعبير بالأمة الواحدة، وليس بالشعب الواحد. فتكون المواطنة في الإسلام في أصل مفهومها أوسع من الحدود الجغرافية الإقليمية الضيقة للوطن الإسلامي، ويكون كل فرد مسلم أو معاهد مواطناً، لأنه عضو من الأمة الإسلامية، له كل الحقوق وعليه كل الواجبات. والذي يوضح ما سبق تلك الصحيفة التي أبرهما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، والتي جاءت بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة. وقد بينت تلك الوثيقة أن المجتمع المدني أصبح في بوتقة الأمة الواحدة على الرغم من التنوع العقدي والثقافي، لأن المدينة كانت تحتوي على جنسيات ولغات وثقافات مختلفة، فمنهم المسلمون، واليهود، والوثنيون، والمهاجرون من مكة، وكذا الأنصار. فكل هؤلاء جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم تحت بنود تلك الصحيفة والتي تحقق عن طريقها مبدأ المواطنة العامة لجميع من يسكن في المدينة. فكانت تلك الصحيفة كما جاء فيها: (هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم: ثم ذكر بنوداً أخرى نذكر منها ما يأتي: ·****** وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. إلى آخر تلك البنود المذكورة في تلك الصحيفة. فقد تضمنت تلك الصحيفة حقوق المواطنين وواجباتهم، مع الاتفاق على إنشاء تحالف عسكري بين جميع طوائف المدينة ضد كل من يعتدي عليها، ومنع أي تعاون مع المشركين ضد المسلمين. وهذه البنود وغيرها قد أرست مبدأ الوطنية المبنية على العدل والحق والمساواة. فالمواطنة علاقة والتزام له صبغة سياسية وصبغة اجتماعية ونفسية، وهي صفة ينالها الفرد، ليتمتع بالمشاركة في دولة، أو التزامات متبادلة ما بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء متبادلة بين الأشخاص والدولة، أو التعبير الاجتماعي لعملية انتماء الإنسان، عملية انتماء تتجسد في قضية المواطنة، وينتمي إلى موطن. ويقال أيضاً عن المواطنة أنها حالة التزام ما بين الفرد والدولة، فالفرد ملتزم أمام الدولة، والدولة ملتزمة أمام الفرد، فللمواطن حقوق وواجبات، وللدولة حقوق. وهذه المواطنة تختلف في محتواها عن المواطنة في الإسلام، لأن الأولى تبنى على احترام سيادة القانون، والعمل بمقتضاه، أما في الإسلام فهي حقوق وواجبات تقوم على أوامر الشرع الحنيف، لا يراد منها إلا إقامة الحق والعدل بين الناس على اختلاف الألوان والأجناس. المطلب الأول: تعريف الوطن: الوَطَنُ لغة: المَنْزِلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله. والجمع: أَوْطان، … وأَوْطَنَهُ اتخذه وَطَناً، يقال أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا أَي اتخذها محلاً ومُسْكَناً يقيم فيها… والمَوْطِنُ المَشْهَدُ من مَشَاهد الحرب وفي التنزيل العزيز {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ..}([14])، … أَما المَوَاطِنُ فكل مَقام قام به الإنسان لأَمر فهو مَوْطِنٌ له([15]). وفي الاصطلاح: الوطن الأصلي هو مولد الرجل، والبلد الذي هو فيه. وعرف أيضاً بأنه الأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له، وعلى ذلك فإن الأرض التي تنشأ عليها جماعة ما وتتخذها مستقراً ومقاماً لها تعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، مؤمن فيه على نفسك وأهلك ومالك. ·****** الوطن الأصلي: وهو مكان مولد الإنسان ونشأته. المطلب الثاني: الكيان الوطني ودعائمه: ومن العلامات الصادقة على حب الوطن: ويشتمل على خمسة مطالب: أولاً: المواطنة الإيجابية: وهي التي يكون فيها المواطن شاعراً بقوة انتمائه لوطنه، وقيامه بدور إيجابي في خدمته. إن الغالب من التربيات المعاصرة التي تقوم بها ديانات أخرى غير الإسلام لا تنشأ أبداً المواطنة الإنسانية الصالحة، إنما هي تربية تسعى إلى إيجاد المواطن الصالح لا المواطن الإنسان الصالح. ويظهر ذلك من خلال مواطنة الإنسان في موطنه الأصلي، فتجد الإنجليزي في الغالب أنه يتعاون مع بني جلدته لتحقيق المواطنة الصالحة، لكنه لا يحققها مع غيره إذا تعارضت مصالحهم مع مصالحه. وهكذا غالب جنسيات الدول من حولنا، فمقام كل مواطنة لدى المواطن هو احترام قوانين وأنظمة البلد الذي يعيش فيه المواطن، وأن يقدم كل جهده من أجل خدمة وطنه، ولكن إذا تداخلت مصلحة أحد من غير أبناء وطنه مع مصلحته قدم الأخرى لأنها مواطنة ذاتية فقط ترتبط بحدود ولغات وألوان. أما التربية الإسلامية في ديننا الحنيف فهي التي تنشأ الإنسان الصالح والمواطن الصالح، وهذا المواطن هو الذي يراقب الله تعالى في جميع علاقاته سواء مع إخوانه المسلمين أو غيرهم من غير المسلمين. المطلب الثاني: التمسك بأخلاق الإسلام دليل على المواطنة الصالحة: إن من ينظر إلى التوجيهات العظيمة للإسلام وتلك الصفات والسجايا العجيبة التي يوجه بها إلى التعامل الصادق، والعدل بين الناس على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم، يدل على أن المسلم إذا تمسك بتلك الأخلاق وقام بتطبيقها في حياته مع من حوله، واتصف بالرفق والتواضع، ورحمة الناس صغيرهم وكبيرهم، وابتعد عن الظلم والعدوان، كان هذا المسلم من خلال حياته العملية يعتبر عاملاً إيجابياً في المجتمع من خلال ما يقدمه لنفسه ولمجتمعه وأمته. وها هي بعض من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتي نرى من خلالها تلك الأخلاق العالية، والسجايا الكريمة التي لم توجد في نظام من الأنظمة القديمة أو الحديثة. وأيضاً في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([19])، قال الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}. وقال الشيخ عبد الكريم الخطيب: هذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها. فهي أقرب شيء إلى أن تكون عنوانا للرسالة الإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}. وما في كتاب اللّه كله هو شرح لما أمر اللّه سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي([21]). ففي قوله تعالى{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ…}([22])، وقوله {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..}([23]). ولو نظرنا إلى العدل الإلهي حتى مع أعداء الملة من غير المسلمين، فهو يأمر سبحانه بإقامة مجتمع إنساني واحد، يعيش الجميع تحت ظله ولا يكون فيه إكراه لأحد، بل هناك حرية لغير المسلم في إقامة دينه في حدود التوجيهات في الدولة المسلمة التي يعيش فيها، ففي ظل هذا الوطن الذي يجمع المسلم وغير المسلم فإن غير المسلم له حق التملك، وله أن يستجير فيجار، وله أن يتحاكم إلى القضاء المسلم لتحصيل حقوقه، وله حق التعامل مع من حوله من أبناء هذا الوطن الواحد، ولا يحق لأحد بخسه حقوقه، أو الاعتداء عليه، أو ظلمه، إلى غير ذلك مما أمرت به شريعة الإسلام. وهناك الكثير من الآيات في كتاب الله تعالى التي تحض على جميل الصفات والأخلاق والسجايا، سواء بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى. فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)([25]). روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(أتشفع في حد من حدود الله). فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال (أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها([27]). وهذا الحديث وغيره فيه بيان لقمة العدل عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنه مهما كان الشخص ومكانته في المجتمع فإن العدل هو الذي يقوم على الفصل بين الناس، وليست أهواء الناس وشفاعاتهم الباطلة التي تخالف أوامر الله وحدوده. إن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يوفر العدالة المطلقة لجميع المواطنين بصرف النظر عن عقائدهم وأجناسهم وألوانهم ومواطنهم. فيحافظ على طاعة الله بأداء حقوقه وأوامره، ويتعامل مع الناس بالرفق واللين والصدق في التعامل، وتكون أخلاقه دليلاً على ذلك في كل حركة وسكنة، ويبتعد عن كل ما يشوب أخلاقه بين إخوانه وغيرهم، بل سبيله وطريقه هو قول الله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}([28]). لذا فإن المواطنة في الإسلام تجمع معاني الانتماء الوطني، فهي تحث على البناء المجتمعي الرشيد، والعمل على تقدمه، ويكون فيها التعامل الإيجابي، مع العطاء المتميز، واحترام نظام الوطن وقوانينه، واحترام حريات الآخرين، ونصرة أبناء وطنه والدفاع عن وطنه لمن أراد الإساءة إليه أو الاعتداء عليه، بل والقتال من أجل صد أي عدوان يقع عليه من أي جهة خارجية تريد إيقاع الظلم عليه. ولقد حصل هذا الترابط والتلاحم في صورة عظيمة مشرقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد هجرته من مكة إلى المدينة، حيث استقبل الأنصار إخوانهم من المهاجرين، ففتحوا لهم بيوتهم، وعرضوا عليهم أموالهم، والزواج من نسائهم، إلى غير ذلك من صور التلاحم والتراحم والإيثار. وعندما يكون المواطن هكذا فليبشر بخير لجميع أفراد هذا الوطن، سواءً المسلمين منهم، أو غيرهم من أهل الملل الأخرى. أولاً: الانتماء: وهو يعني الانتساب الحقيقي للدين والوطن بجميع صوره، والاعتزاز بسائر مكوناته الثقافية، والبشرية، والمادية، وجعل مصلحة هذا الوطن فوق كل مصلحة. ويتجسد هذا الانتماء من خلال التضحية في سبيل هذا الوطن وذلك دفاعاً عن العقيدة وقياماً بالواجبات التي يلزم بها، مع أداء الحقوق التي عليه. ثانياً: الولاء: وهو شعور داخلي يدفع الإنسان للوفاء لوطنه، ولمن يقوم عليه، مع الاهتمام بخير الوطن ومصلحته وتقدمه، والعمل على دعمه في مواجهة التحديات والظروف([29]). ثالثاً: المساواة: وهي حالة التماثل بين الأفراد في المجتمع أمام النظام بصرف النظر عن المولد أو الطبقة الاجتماعية، أو الثروة، أو العقار أو الجنس، أو الفكر، أو المهنة، أو التعليم. رابعاً: الحرية: إن الإسلام يحترم حريات الناس دون الإضرار بالوطن المسلم، فهو يكفل لغير المسلمين حرية الاعتقاد، وحرية أداء شعائرهم الدينية، وكذلك لهم حرية الرأى، ولكن دون تعدٍ أو إساءة لدين الله تعالى. خامساً: الحقوق: والإسلام هو الوحيد على مستوى عالم اليوم الذي يعرف حقوق كل إنسان على وجه هذه البسيطة، ويضع الأنظمة والقوانين التي تكفل للجميع الاستفادة بحقوقهم دون بخس أو ظلم، إلا أن هذا الأمر ضعف كثيراً بعد القرون الثلاثة المفضلة، ثم استمر ذلك يضعف أكثر وأكثر حتى أن أوضاع الناس اليوم اختلفت عن سابقاتها، فقد ضاعت غالب حقوقهم بسبب البعد عن تطبيق أوامر الإسلام وتوجيهاته. سادساً: الواجبات: وهي التي أوجبها الإسلام على المسلم وغير المسلم، وهي واجبات تختلف باختلاف دوره في أداء المواطنة الصالحة في المجتمع. وصدق من قال: وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم توجيه راشد في حق من ترك مخالطة الناس ومن حرص على مخالطتهم حيث قال:(الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ). ومن هنا فقد وجه الإسلام إلى التمسك بالخلق الحسن، وترك ما سواه، ودعى إلى تربية النفس على الصفات الجميلة الحسنة التي يحبها الله جل وعلا، قال تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}([33])، وقال أيضاً {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}([34]). وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ وإن من أهم عناصر حسن الخلق، تلك الصفات الجميلة التي من اتصف بها حصل له الخير العظيم، وعاد ذلك على من حوله، ومن تلك الصفات: وأيضاً أن يكون متصفاً بالأمانة، والأمانة من أجل الصفات التي حض عليها الإسلام، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحض على الاتصاف بالأمانة، ومن ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}([37])، وقوله تعالى في صفات عباد الله المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}([38]). وقال صلى الله عليه وسلم (لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ)([39]). وفي هذا حض للمسلم على اتصافه بالوفاء في جميع حالاته، فيكون وفياً لدينه، وفياً لولاة أمره وعلماء بلده، ووفياً لأهله وأقربائه، ووفياً لمجتمعه وأمته. وقد أوصى الله تعالى عباده بأن يكونوا صادقين في جميع شؤونهم، فقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}([42])، وكما قال أيضاً صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا..)([43]). فمن كان متصفاً بالصبر كان مواطناً صالحاً قادراً على خدمة نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته. وهذه التوجيهات التي ذكرتها وغيرها كثير إذا التزم بها الفرد عاد ذلك عليه وعلى مجتمعه بالخير، وهكذا هي المواطنة الصالحة التي تؤتي ثمارها للمجتمع ـ بإذن الله تعالى ـ. *المطلب الخامس: المواطنة الصالحة وأثرها على الأمة: إن أمة الإسلام مبناها على طريق واحد، وهو التمسك بحبل الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجاءت الشريعة الغراء آمرة باتحاد الأمة وتماسكها وتعاضدها سواء كان ذلك اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو سياسياً، أو فكرياً، المهم أن تصب المصلحة لعامة الأمة كبيرها وصغيرها، ذكرها وأنثاها، بعيدها وقريبها. وهذا هو أساس الأمة، أن يكون الأفراد مترابطين، متواصلين، مجتمعين على الخير، حريصين على العطاء من أجل مصلحة الأمة كلها. إن الإسلام قد أرسى معالم الوطنية قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، وقوى دعائمها حينما كانت الجاهلية هي التي تحكم الناس، وقد نظم الإسلام العلاقات بين جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن دياناتهم وطوائفهم وعصبياتهم، وهذا ما شهدت به صحيفة المدينة والتي رسخت قواعد المجتمع المتكامل، وأسست مفهوم المواطنة الصالحة حقوقاً وواجبات دون إغفال مرتكز العقيدة الذي يحفظ للأمة شخصيتها ومقومات وجودها؛ فكانت بذلك أول تعاقد سياسي رسمي أسس للدولة في أركانها وقواعدها ومنهج سيرها، ووضع أول إقرار لمبدأ المواطنة المشتركة في الدولة الإسلامية، ومبدأ التكافل الاجتماعي، ومبدأ المحافظة على أمن الدولة والمجتمع، ومبدأ المساواة والتيسير الذاتي للمجتمع، وقد ظهر ذلك جلياً عندما أقام النبي صلى الله عليه وسلم أركان البناء الشرعي للدولة. إن كل فرد من أفراد الأمة مسؤول مسؤولية كاملة عن نهضة الأمة كلها، فولي الأمر له دور عظيم في حفظ الوطن من التشتت والضياع، والعمل على تقوية مكتسباته، وتقوية دعائمه، وربطه بمن حوله في حدود ما يعود عليه بالخير، وأن يتعامل مع الناس تعامل الوالد مع أولاده، فيوجه، ويربي، ويعلم، ويخطط، ويحنو على الضعيف ويقويه، ويشدد على المفرط ويناصحه. ويكون قدوة في نفسه ولغيره، فيكون في كل حين ووقت الموجه الأول لمواطنيه، فيبحث عما يعود عليهم بالخير، ويضع الأنظمة والقوانين التي تحفظ الأمن والسلامة لأفراد وطنه. ويجعل بين يديه مستشارين مخلصين، حريصين على مصلحة الدولة والأمة، يضع كل موظف في مكانه الطبيعي والذي يستطيع عن طريقه خدمة وطنه. فمن سار على هذا النهج، وعمل ما يستطيع في سبيل ذلك حاز على رضا الله تعالى، وكان خير من قام بالمواطنة الحقة التي تعود على وطنه وأمته بخير عميم. ويتبع ذلك أيضاً الوزير، والمستشار، ورئيس الشرطة، وغيرهم ممن يتحملون مسؤوليات عظيمة تحت رئيس الدولة، فهؤلاء إذا صلحوا وراعوا الله في أمورهم وشؤونهم، وقاموا بمسؤولياتهم على الوجه المطلوب كانوا عوناً للحاكم على تسيير أمور الوطن على الوجه الذي يعود عليها بالتقدم والازدهار. وإذا قامت الدول العربية والإسلامية بتطبيق هذه المنهجية الإيجابية كانت الثمار عائدة على كل من شارك فيها، فلا وطنية صالحة دون تمسك بالفضائل والأخلاق الإسلامية، والالتزام بشرع الله المطهر، ولا فلاح ولا نجاح إلا بلزوم المنهج الحق، والسير على طريقته، والعمل على تطويره بما يحقق الخير لسائر أمتنا العربية أو الإسلامية. إن عدم فهم الوطنية بمحتواها الظاهر يلقي بظلال الخوف على المواطن في التمسك بها ولزوم توجيهاتها، والناظر إلى حال المجتمعات المعاصرة يجد أن العالم الآن أصبح كأسرة واحدة تتقاسم أمور الحياة، سواء من الناحية السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو غيرها، فالكل يشارك في المسيرة. ولكن هناك فئام من الناس من جهلهم بمفهوم تلك الوطنية، واختلاطها بمفهوم الغرب فقط دون النظر إلى صورتها الحقيقية في الإسلام يلقي بالشبهة في القلوب أن هذه الوطنية التي ينادى بها وطنية مزيفة غير حقيقية، وأن تطبيقها في واقع المسلمين يودي بالأمة إلى السير وراء الأمم الأخرى في عقائدها، وأعرافها، وحياتها المادية التي تعيشها. أما إذا سارت على المنهاج الحق، والتزمت بالأحكام الشرعية، وقامت بتطبيق ذلك في حياتها العملية فسيعود ذلك على الأمة ومواطنيها بالخير والفلاح. أولاً: أن مفهوم المواطنة ما كان موجوداً في الزمن السابق، وأن هذه اللفظة جاءت من الغرب، ودخلت إلى ديار المسلمين وراجت بينهم: وهذا القول حق ولكنه يحتاج إلى تفصيل. ثانياً: الحدود الجغرافية الموضوعة بين الدول الإسلامية والعربية ومثيلاتها: فلا يمكن لإنسان أن يمر من دولة إلى دولة إلا إذا كان له وثيقة يمر بها، وربما يحتاج إلى تأشيرة لدخولها، أو الانتقال إليها، فهذه الأمور لم تكن موجودة في عهد الخلافة الإسلامية من بداية الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحتى سيطرة الاستعمار على كثير من بلاد المسلمين. ثالثاً: الحمية للدفاع عن كرامة الوطن إذا أساء إليها أحد: وهذه موجودة لدى سائر الناس، ولكنها تختلف باختلاف البلدان، فالبلد إذا كان قائماً على تنوع في الأنظمة والقوانين، من حيث وجود تطبيق لبعض أجزاء الشريعة، والبعض الآخر قوانين وضعية، أو غالب ما يطبق فيها قوانين وضعية فقط دون الأخذ بزمام الشريعة، فهذا يختلف عما إذا كان الوطن يطبق شريعة الإسلام كاملة كما هو الوضع في المملكة العربية السعودية، فالصورتان الأوليان يختلف فيهما الحكم عن الصورة الثالثة. رابعاً: محبة الوطن: هناك من يقدح في أن محبة الوطن ليست من الإسلام في شيء، وأن ذلك مخالف لولاء العقيدة، والإخوة الإيمانية، وهذا يحتاج إلى إيضاح وبيان. خامساً: الخدمة الوطنية: وهي في غالبها تطلق على الخدمة العسكرية كما في سائر بلدان العالم، وهي التي يلقي بها المشككون في صحة الالتحاق بها، وهي خدمة تصب في مصلحة الوطن. سادساً: النشيد الوطني: والنشيد الوطني عبارة عن كلمات يقولها المواطن في حق وطنه، والتي فيها حث على الرفع من مكانتها، وكلماته قليلة إلا أن محتواه غال ونفيس لما يقال فيه. سابعاً: العَلَم: وهو عبارة عن رقعة من القماش تحمل رموز الوطن، وشرفها وأمجادها، وهي ترمز لمعنى خاص، ويحملها الجند في طليعة الجيش، وترتفع على المباني الرسمية والحكومية باستمرار، ويحملها الأفراد في سائر المناسبات العامة والأعياد، والمهرجانات، والاحتفالات([54]). ثامناً: الأنظمة الموضوعة لحفظ نظام الوطن: وهي عبارة عن قوانين وأنظمة وضعها ولي الأمر من أجل ضبط أمن المجتمع، وحمايته من الفساد والظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، وهي التي يلقي البعض حولها الشبه ويقول أنها مخالفة لشريعة الإسلام. فهرس المصادر والمراجع: المقدمة: التمهيد: التأصيل الشرعي لمفهوم المواطنة وما يتعلق به من مصطلحات أخرى، ويشتمل على سبعة مطالب: المطلب الأول: تعريف المواطنة: المطلب الثاني: مصطلحات أخرى حول المواطنة: المطلب الثالث: المواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية: المطلب الرابع: عناصر المواطنة: المطلب الخامس: الفرق بين المواطنة والإخوة: المطلب السادس: مفهوم المواطنة لدى المسلمين: المطلب السابع: مفهوم المواطنة لدى غير المسلمين: المبحث الأول: الوطنية في ضوء تعاليم الإسلام، ويشتمل على خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف الوطن: المطلب الثاني: الكيان الوطن-ي ودعائمه: المطلب الثالث: حدود الوطنية: المطلب الرابع: وطنية الإسلام لا تتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام: المطلب الخامس: علامات حب الوطن من واقع تعاليم الإسلام: المبحث الثاني: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد والمجتمع والأمة، ويشتمل على خمسة مطالب: المطلب الأول: أهمية المواطنة الصالحة وضرورتها في بناء الأمة: المطلب الثاني: التمسك بأخلاق الإسلام دليل على المواطنة الصالحة: المطلب الثالث: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الفرد: المطلب الرابع: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على المجتمع: المطلب الخامس: أهمية المواطنة الصالحة وأثرها على الأمة: المبحث الثالث: شبهات حول مفهوم المواطنة والرد عليها: أولاً: أن مفهوم المواطنة ما كان موجوداً في الزمن الماضي: ثانياً: الحدود الجغرافية الموضوعة بين الدول الإسلامية والعربية: ثالثاً: الحمية الوطنية للدفاع عن كرامة الوطن إذا أساء إليها أحد: رابعاً: محبة الوطن: خامساً: الخدمة الوطنية: سادساً: النشيد الوطني: سابعاً: العلم: ثامناً: الأنظمة الموضوعة لحفظ نظام الوطن: الخاتمة: المصادر والمراجع: فهرس الموضوعات: *الهوامش: ([1]) سورة الروم: الآية 30. |
|