الخشوع في الصلاة – خطبة الجمعة 10-3-1446هـ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اصْطَفَانَا مِنْ خَلْقِهِ مُوَحِّدِينَ، وَاجْتَبَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ وَخَصَّنَا بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ، فَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَأَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَشَرَّفَنَا بِخَيْرِ الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجمعين أمّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعُوهُ، واعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلاقُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَُمون) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤمنُونَ: إِنَّ الصَّلاةَ أَجَلُّ فَريضَةٍ، وأسْمَى طَاعَةٍ، وهِيَ رِدَاءُ الْعُبُودِيَّةِ للمُسْلِمِ، تَجْمَعُ لهُ بينَ الذُّلِّ والانْكِسَارِ، والعِزَّةِ والْوَقَارِ، والقُرْبِ منَ الْعَزِيزِ الْجَبَّار، وتَتَجَلَّى فيهَا عِبَادَاتٌ عَدِيدَةٌ، فَهِيَ ذِكْرٌ ومُنَاجَاةٌ، ودُعَاءٌ وخُشُوعٌ، وذلٌّ وخضوعٌ، قالَ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) هود: [114].
عِبَادَ اللهِ: والصَّلاةُ عَمُودُ الدِّين، وقُرَّةُ عينِ سيِّدِ المرسَلِينَ، وسَلْوَةُ المؤْمِنِينَ، وخَلْوَةُ الموَحِّدِينَ، وطُمَأْنِينَةُ المتَّقِينَ، تَسْمُوا بِهَا الأَرْوَاحُ، وتَعْمُرُ بها الأَوْقَاتُ، وتَصْلُحُ بِهَا الأَحْوَالُ، وهِيَ عَهْدُ اللهِ للمؤْمِنِينَ، والْفَارِق بينَنَا وبينَ أَهْلِ الْكِتَابِ والمشْرِكِينَ، مَتَى حَافَظَ عليهَا المُسْلِمُ كانتْ عَوْنًا لَهُ على المِحَنِ، ونَجَاةً مِنَ الْفِتَنِ، وأَوْرَثَهُ ذَلِكَ سَكِينَةً في الْقَلْبِ، ورَاحَةً في الْبَدَنِ، وسِعَةً في الرِّزْقِ، قَالَ تعالَى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) العنكبوت: [45].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والخشوعُ هوَ روحُ الصَّلاةِ، وثمرة أفعالها وأقوالها، وأَسْمَى غَايَاتِهَا امْتَدَحَ اللهُ عزَّ وجلَّ عبادَهُ المؤْمِنِينَ بقولِهِ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) المؤمنون: [1-2] والخشوعُ سكونٌ وطمأنينةٌ، وتُؤَدَةٌ ووقَارٌ، وتَوَاضُعٌ واسْتِقْرَارٌ، وهو لِينُ القَلْبِ وسُكُونُ النَّفْسِ، واسْتِشْعَاُر عَظَمَةِ وجلالِ الوقوف بينَ يديِ الملكِ سبحانَهُ، فَيَنْطَرِحُ مَا في القلبِ من الدَّوَاخِلِ، ومَا في الْعَقْلِ مِنَ الشَّوَاغِلِ، ومَا في النَّفْسِ منَ الضَّغَائِنِ، فتَكْسُو العبدَ طمأنينةٌ وسكينهٌ، وتلكَ حقيقةُ العبودِيَّةِ الَّتِي شُرِعَتْ لأَجْلِهَا الصَّلاةُ.
عِبَادَ اللهِ: والخشوعُ محله القلبُ، فإذَا خَشَعَ القَلْبُ، أَثْمَرَ خُشُوعهُ في الجوارحِ سكينةً ووقارًا، وطمأنينةً وإجلالًا، ولذا كانَ النبيُّ ﷺ إذا رَكَعَ قالَ: (اللَّهُمَّ لكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي وَعَصَبِي) أخرجه مسلم (771).
أيُّهَا المؤمنونَ: والخشوعُ في الصلاةِ عزيزٌ، وهو على النَّفْسِ شديدٌ؛ لأنَّه أشَدُّ تَفَصِّيًا منَ الإبلِ في عُقُلِهَا، والخشوعُ أوَّلُ مَا يُرْفَعُ من الدِّينِ، ويُفْقَدُ فِي الأُمَّةِ، قال ﷺ: (أولُ شيءٍ يُرفَعُ من هذه الأمةِ الخشوعُ، حتى لا ترى فيها خاشعًا) قال الهيثمي في المجمع (2/136): رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (543).
عبَادَ اللهِ: وإذَا رُزِقَ العبدُ الخشوعَ في الصَّلاةِ، وَجَدَ أثَرَ ذلك إقبالًا على الصَّلاةِ وحُبًّا لهَا، وتَحَيُّنًا لِوَقْتِهَا، ورَاحَةً في أَدَائِهَا، وسَكِينَةً في أَرْكَانِهَا، قالَ تعالى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) البقرة: [45] فتكونُ الصَّلاةُ أُنْسًا للنفسِ، وسكينةً للقلبِ وقرةً للعينِ كما وصَفَهَا النَّبِيُّ ﷺ بقوله: (جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ) أخرجه النسائي (3939) وصححه الألباني.
أيُّهَا المؤمنُونَ: والخشوعُ في الصَّلاةِ مُوجِبٌ لِقَبُولِهَا، وسببٌ لرَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ونجاةٌ مِنْ عَذَابِهِ، قال ﷺ: (خمسُ صلواتٍ افترضَهُنَّ اللَّهُ علَى عبادِهِ فمن جاءَ بِهِنَّ لم ينتقِصْ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقِّهنَّ فإنَّ اللَّهَ جاعلٌ لَه يومَ القيامةِ عَهْدًا أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ ومن جاءَ بِهِنَّ قدِ انتقَصَ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقِّهنَّ لم يَكُن لَه عندَ اللَّهِ عَهْدٌ إن شاءَ عذَّبَهُ وإن شاءَ غفرَ لَهُ) أخرجه ابن ماجه (1401) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1158).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: ولِلْخُشُوعِ في الصَّلاةِ أَسْبَاب مِنْهَا:
أولًا: معرفةُ اللهِ عزَّ وجلَّ بأسمائِهِ وصفاتِهِ فإذَا عَرِفَ الْعَبْدُ رَبَّهُ أَثْمَرَتْ تلكَ المعرفة انكسارًا وإجلالًا، وتعظيمًا للهِ عزَّ وجلَّ، وعلى قَدْرِ مَعْرِفَةِ العبدِ بِخَالِقِهِ سبحانه يكونُ الخشوعُ في الصَّلاةِ، قال تعالى:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر: [28].
ثانيًا: الاستعدادُ للصَّلاةِ، وَتَحَيُّنُ وقْتِها، والتَّهَيُّؤُ لهَا، والتَّبْكِيرُ لأَدائِهَا، فإذَا فَعَلَ العبدُ ذلك عَظُمَ شَأْنُ الصَّلاةِ في قَلْبِهِ، فَأَثْمَرَ ذلك رِقَّةً في القلبِ، وسكينةً في النَّفْسِ.
ثالثًا: تَدَبُّر الآيَات، وتَعَقُّلُ أذْكَارِ الصَّلاةِ وأَوْرَادِهَا، فقدْ صحَّ أنَّ النبيَّ ﷺ قامَ ليلةً كاملةً بآيةٍ حتى أصبَحَ، والآية قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أخرجه النسائي (1010) وصححه الألباني (1009) وكانت قراءَةُ النَّبِيِّ ﷺ في الصلاةِ قراءةً حيّةً، فكانَ إِذَا مَرَّ بآيَةٍ فِيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذا مَرَّ بسُؤالٍ سَأَلَ، وإذا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص (29).
بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعْلَمُوا أنَّ الصلاةَ عبادةٌ وفريضةٌ يتقربُ بها العبدُ إلى ربهِ جلّ وعلا، ولا يليقُ بعبدٍ يتبوَّأُ مقامَ العبوديةِ بينَ يَدَي خالِقِه سبحانه أنْ يَتَقَرَّبَ بعِبَادَةٍ كَاسِدَةٍ وحركاتٍ صامتَةٍ تُصْدِرُهَا الجوارحُ والأركانُ، وعباراتٌ خافته لا تعدو اللسان.
وهَبْ أنَّ الصَّلاةَ قربة يقرِّبُهَا العبدُ لمولاهُ، فهلْ يليقُ أنْ يُقَرِّبَ العبدُ قربةً فاسدةً، وبضَاعَةً كاسِدَةً، وأنَّى لملكِ الملوكِ سبحانَهُ أنْ يَقْبَلَ قربةً هذا وصْفُهَا- وهوَ الْغَنِيُّ سبحانَهُ لا تَنْفَعه طاعةُ الطَّائِعِينَ، ولا تضرُّهُ معصيةُ العاصينَ، قَالَ ﷺ: (أسوَأُ النَّاسِ سَرِقةً الذي يَسرِقُ مِن صَلاتِه، قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وكيف يَسرِقُ مِن صَلاتِه؟ قال: لا يُتِمُّ رُكوعَها ولا سُجودَها) أخرجه أحمد (22642) وصححه الأرناؤوط في تخريج المسند (22642). ورجل لا يتم صلاته، أنى له أن يخشع؟! ففي صحيحِ البُخَارِيِّ أنَّ حذيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَأى رَجُلًا لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ ولا سُجُودَهُ، فَلَمّا قَضى صَلاتَهُ قالَ له حُذَيْفَةُ: ما صَلَّيْتَ؟ قالَ: وأَحْسِبُهُ قالَ: لو مُتَّ مُتَّ على غيرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ) أخرجه البخاري (389).
أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَرْزُقَنَا لَذَّةَ الْخُشُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَمَامَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَاجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ.
اللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ سَلْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيز إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ وَسَدِّدْهُ، وَاجْعَل لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا، اللَّهُمَّ وَفِّقْه ووَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وأُمَّهَاتِهِم، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وأزواجًنا وجيرانَنَا وَمَشَايِخَنَا ومَنْ لهُ حقٌّ علينَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 10/ 3/ 1446هـ