وأقبلت العشر الأواخر من رمضان – خطبة الجمعة 21-9-1446هـ

الجمعة 21 رمضان 1446هـ 21-3-2025م

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدين أمَّــا بَعْـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة: [281].

أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: إنَّ المسْلِمَ مَأْمُورٌ في كُلِّ آنٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ بِالتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ والإكثَارِ منَ الْقُرُبَاتِ، والإِقْبَالِ عَلَى بَارِئِ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، قَالَ تَعَالَى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) البقرة: [197] ويتأكَّدُ الأمرُ في مَوَاسِمِ الْغُفْرَانِ وَمَوَاطِنِ الإحْسَانِ.
عِبَادَ اللهِ: بِالأَمْسِ الْقَرِيبِ كُنَّا نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَهَا هُوَ الآنَ قَد انْفَرَطَ عقْدُهُ وانْقَضَى جُلُّهُ، قَدْ أَزِفَ عَلَى الرَّحِيلِ، وَلمْ يَعُدْ مِنْهُ إلا القليل، وَفي هَذَا عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَبَلاغٌ لِلْعَالَمِينَ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ.

أيُّهَا الصَّائِمُونَ: بَقِيَ في شَهْرِكُمْ بَقِيَّةٌ ثَمِينَةٌ، وعشرٌ عظيمةٌ، وهي العشرُ الأواخرُ منْ رَمَضَانَ، وهِيَ قُرَّةُ عيونِ العَابِدِينَ ومُلْتَقَى الْعَاكِفِينَ، ومَحَطُّ الْمُخْبِتِينَ، تُسْكَبُ فيهَا الْعَبَرَاتُ وتُقَالُ فِيهَا الْعَثَرَاتُ فَدُونَكُمْ هذهِ العشرَ، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذِ.
عِبَادَ اللهِ: وَالْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَان، مِنْحَةٌ إلهِيَّةٌ، وهَدِيَّةٌ ربَّانِيَّةٌ، أَوْدَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا لَيْلَةً، هِيَ دُرَّةُ لَيَالِي الْعُمر، بَرَكَاتُهَا عَدِيدَةٌ، وسَاعَاتُهَا قَلِيلَة، وَهِيَ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ، تَتَنَزَّلُ فِيهَا الملائكةُ مِنَ السَّمَاءِ، وتعظُمُ فيها الأجورُ والآلاءُ، الْعَمَلُ الْقَلِيلُ فِيهَا كَثِيرٌ، وَالْكَثِيرُ فِيهَا مُضَاعَفٌ، والْعِبَادَةُ فِيهَا خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَهِيَ أَشْرَفُ لَيَالِي الدَّهْرِ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَهُوَ المَحْرُومُ، ومَنْ نَامَ عَنْهَا فَهُوَ الْغَافِلُ المَغْبُونُ، تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وأَحْيا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ) أخرجه البخاري (2024).

أيُّهَا الصَّائِمُونَ: ولَيْلَةُ الْقَدْرِ وَصَفَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِأَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ، وشَرَّفَهَا بِنُزُولِ الْقُرْآَنِ مِنَ اللَّوْحِ المحْفُوظِ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَهِيَ لَيْلَةٌ تُكْتَبُ فِيهَا الأَقْدَارُ والآَجَالُ، ومَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في تِلْكَ السَّنَةِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) الدخان: [3-4].
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُقْبِلُ بِهِ المُسْلِمُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وجلَّ في هَذِهِ الْعَشْرِ، تَطْهِيرُ الْقَلْب مِنَ الدَّفَائِنِ والأَسْقَامِ، وَوَأْدُ الْخِلافِ والنِّزَاعِ وَالْخِصَامِ، والْعَفْوُ عنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّ الشَّحْنَاءَ مَمْحَقَةٌ لِلْخَيْرَاتِ، وَمَمْحَاةٌ لِلْبَرَكَاتِ، وفي الْحَدِيثِ:  أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ يُخْبِرُ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقالَ ﷺ: إنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، وإنَّه تَلاحَى فُلانٌ وفُلانٌ، فَرُفِعَتْ، وعَسَى أنْ يَكونَ خَيْرًا لَكُمْ، التَمِسُوهَا في السَّبْعِ والتِّسْعِ والخَمْسِ) أخرجه البخاري (49)  وقدْ أَمَرَ النبيُّ ﷺ بتحرِّي لَيْلةَ الْقَدْرِ، والجِدِّ في طَلَبِهَا، والْحِرْصِ عَلَى اغْتِنَامِهَا، قَالَ ﷺ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ) أخرجه البخاري (2017) .

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والمشْرُوعُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِحْيَاؤُهَا بِالْعِبَادَةِ والدُّعَاءِ، والتَّضَرُّعِ إلى اللهِ عَزَّ وجلَّ، قالَ ﷺ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه البخاري (35)، ومسلم (760) تقولُ عائشةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيتَ إن وافقتُ ليلةَ القدرِ ما أدعو؟ قالَ تقولينَ: (اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي) رواه ابن ماجه (3850) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3119).

وَمِنَ الْعِبَادَاتِ المشْرُوعَةِ في هَذِهِ الْعَشْرِ، الْاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، فعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ (كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَاهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) رواه البخاري (2026) ومسلم (1172). وَكَانَ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ) رواه مسلم (1172) ومِنْ أَحْكَامِ الاعْتِكَافِ مَا يَلِي:
أولًا: الاعتكافُ مشروعٌ، ولا يصحُّ إلا في مَسْجِدٍ، ويَصِحُّ في مُلْحَقَاتِ المسْجِدِ كَرَحْبَتِهِ ومَكْتَبَتِهِ والْغُرَفِ المتَّصَلةِ بِهِ، وأفْضَلُهُ في رَمَضَانَ وآكدُهُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ.
ثانيًا: أقلُّ زمنِ الاعتكافِ يومٌ وليلةٌ وهذا هو الموافِقُ للسُّنَّةِ، ولكن إذا جلس المسلم مدة في المسجد، ونوى الاعتكاف، فإنه يؤجر على ذلك، ولا حدَّ لأكْثَرِ الاعْتِكَافِ إلا أنَّهُ يُكْرَهُ إِطَالَتُهُ إذا حَصَلَ بسبَبِهِ إضاعَةٌ للأَهْلِ والانْشِغَالُ عنْهُمْ.
عِبَادَ اللهِ: لا يَسُوغُ للرَّجُلِ أنْ يَعْتَكِفَ ويُهْمِلَ أَهْلَهُ وبَيْتَهُ إذا كانوا في حاجةٍ إليه، أَوْ يُقَصِّرَ في عَمَلِهِ، ولا بأسَ باعتكافِ بعضِ أيامِ العشرِ، وخاصَّةً ليالي الوِتْرِ، ولا يسوغُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تعتكفَ في مُصَلَّى بيتِهَا؛ لأنَّ الاعتكافَ لا يكونُ إلا بالمساجِدِ فإنْ عزمَتْ عَلَى الاعْتِكَافِ في المسْجِدِ فَلا بُدَّ مِنْ إِذْنِ زوْجِهَا أَوْ وَلِيِّهَا ولا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الْفِتْنَةِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) القدر (1-5).

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآَنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآَيَاتِ وَالْعِظَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ رب العالمين، وَأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ أيُّهَا الصَّائِمُونَ: واعْلَمُوا أنَّ الأيَّامَ خَزَائِنُ الأَعْمَالِ، ومَطِيَّةُ الآَجَالِ، فبادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ومَنْ جَدَّ فِيمَا فَاتَ، فَلْيُضَاعِفْ فيمَا هُوَ آَتٍ، ومنْ قَصَّرَ فِيمَا مَضَى، فَلْيُدْرِكْ بَقِيَّتَهُ، وَلْيَتَدَارَكْ مِنْ غَفْلَتِهِ، فَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وشمِّرُوا عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الْخَيْلَ إِذَا شَارَفَتْ نِهَايَةَ المِضْمَارِ بَذَلَتْ قُصَارَى جَهْدِهَا؛ لِتَفُوزَ بِالسِّبَاقِ، فَزَيِّنُوا نَهَارَكُمْ بالصِّيَامِ، ولَيْلَكُمْ بالقِيَامِ، وتَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ ليالِي شَهْرِكُمْ، وأَيْقِظُوا لهَا نِسَاءَكُمْ وأَبْنَاءَكُمْ. أَسْألُ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَكتبنا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يُوَفِّقْنَا لاغُتِنَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِيهَا مِنَ الْمَقْبُولِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ أمِّنَا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِكُلِّ خَيْرٍ، واصْرِفْ عَنْهُمَا كُلَّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُمْ وأَعْوَانَهُم ووُزَرَاءهُمْ لما فِيهِ خَيْرُ الْبِلادِ والْعِبَادِ، ولمَا فِيهِ عِزُّ الإسْلامِ وَصَلاحُ المسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، وَالمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الْجَمْعَ مِنَ المؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَات، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّهُمْ، وَنَفِّسْ كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ دِيُونَهُم وَاشْفِ مَرْضَاهُم، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، واغْفِرْ لَهُم ولآبَائِهِم وأُمَّهَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَوَالِدِينَا وَأَزْوَاجنَا وذُرِّيَّاتِنَا ومشَايِخَنا وجِيرَانَنَا، وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.     

الجمعة: 21 /9/ 1446هـ