واعبد ربك حتى يأتيك اليقين – خطبة الجمعة 6-10-1446هـ

الجمعة 6 شوال 1446هـ 4-4-2025م

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدين أمَّــا بَعْـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)
أيُّهَا المؤمنُونَ: خَلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الإنسانَ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، قالَ تعالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: [56] وحثَّت الشَّرِيعَةُ الإسلاميَّةُ على اسْتِدَامَةِ الْعِبَادَة في كلِّ زمانٍ، والمدَاوَمَةِ على العملِ الصَّالِحِ  في كلِّ وقتٍ وآنٍ؛ لتكونَ حياةُ العبدِ خالصةً للهِ عزَّ وجلَّ، دِثَارُهَا العبودِيَّةُ ولباسُهَا التَّقْوَى، وسَمْتُهَا التَّقَرُّبُ للهِ بِمَا يرْضَاهُ منَ الأقْوَالِ والأَفْعَالِ، قالَ تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الأنعام: [162-163].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وكانَ هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ الانْضِبَاطَ في الطَّاعَةِ بِلا فُتُورٍ أَوْ وَهَنٍ، والالْتِزَامَ في العبَادَةِ دونَ تَرَاخٍ أَوْ كَسَلٍ، سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: (كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً) أخرجه البخاري (6466 ومسلم (783) أيْ: غير مُنْقَطِع وفي روايةٍ: (كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ إذا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ) أخرجه البخاري (1970) ومسلم (782) أيْ: أَتْقَنَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ.
عباد الله
: والنَّاظِرُ إلى حَالِ العِبَادِ في شَهْرِ رَمَضَانَ، يَتَعَجَّبُ لما يَؤُولُ إليهِ حالُ بعضهم بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، مِنَ التَّقْصِيرِ في الْفَرَائِضِ، والانْقِطَاعِ عن النَّوَافِلِ، وهذَا ما حذَّرَنَا مِنْهُ نبيُّنَا ﷺ قالَ عَبْدُ اللهِ بْن عَمْرو بنُ العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَالَ لي رَسولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ) أخرجه البخاري (1152).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ
: ومِنْ صُوَرِ الانْقِطَاعِ عَنِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ رَمَضَان: هَجْرُ الْقُرْآَن، فَالْقُرْآَنُ الْكَرِيمُ كِتَابٌ عَزِيزٌ، ومِنْ مَظَاهِرِ عزَّتِهِ أنَّهُ لا يَقْبَلُ الضَّيْمَ، فَمَنَ هَجَرَ القرآنَ هجرَهُ القرآنُ؛ ولِذَا وَرَدَ الأَمْرُ بِتَعَاهُدِهِ، والْحَذرَ مِنْ هَجْرِهِ، قَالَ ﷺ: (إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ) أخرجه البخاري (5031) وَقَالَ أَيْضًا: (بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ) أخرجه البخاري (5032).

أيُّهَا المؤمنُونَ: وقَدْ حَذَّرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآَنِ بِقَوْلِهِ: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) فصلت: [3، 4] وتَوَعَّدَ مَن يَهْجُرُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) طه: [99 – 101] فَأَنَّى لِعَاقِلٍ أَنْ يَهْجُرَ الْقُرْآَنَ، بَعْدَ أَنْ آَنَسَ مِنْهُ صَلاحَ الْقَلْبِ، وَانْشِرَاحَ الصَّدْرِ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ شهرَ رمَضَانَ يُوقِدُ في نَفْسِ المؤْمِنِ جَذْوَةَ الْحَمَاسِ للطَّاعَةِ، والرَّغْبَةَ في القُرْبِ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، والمسْلِمُ الْفَطِنُ هُوَ الَّذِي يُحَافِظُ على تِلْكَ الْجَذْوَةِ، فإذا وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ إِعْرَاضًا وَتَهَاوُنًا، ذكَّرَهَا بِعَذَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَإنَّ الْخَائِفَ مِنَ النَّارِ، يَسْهُلُ عَلَيْهِ مَشَقَّةُ الْفِرَارِ، وَالرَّاجِي لِلْمَأْمُولِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ، فيَتَقَدَّمَ في الْعِبَادَةِ مَتَى رَأَىَ مِنْ نَفْسِهِ إِقْبَالًا وَسُرُورًا، وَيَلْزَمَ الْوَسَطَ إِنْ رَأَى كَسَلًا أَوْ فُتُورًا، فَيَفُوزُ بِالْكَثِيرِ وَلا يُحْرَمُ الْقَلِيلَ، قالَ ﷺ: (والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا) أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) ويحذَرُ مِنَ التَّشَدُّدِ وَالْكُلْفَةِ، قَالَ ﷺ: (يا أيُّها النّاسُ، خُذُوا مِنَ الأعْمالِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتّى تَمَلُّوا، وإنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ ما دامَ وإنْ قَلَّ) أخرجه البخاري (5861).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وتَجَنُّبُ التَّنَطُّعِ وَالتَشَدُّدِ في الْعِبَادَةِ سَبَبٌ لاسْتِدَامَتِهَا، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ أَخَفُّهَا عَلَى الْقُلُوبِ، وَأَحَبُّهَا إِلَى النُّفُوسِ؛ لأنَّ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ عَادَةً وَخُلُقًا، بخلافِ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مِنَ الأَعْمَالِ مَا يَشقّ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، أَوْ يَترُكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ يَتَنَاوَبَ عَلَيْهِ بَينَ الْفَيْنَةِ والأُخْرَى.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ🙁 يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) العنكبوت: [56].

بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة: الْحَمْدُ للهِ ربِّ الْعَالمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أجمعين، أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّ للهِ عزَّ وجلَّ مِنَحًا في سَائِرِ أَحْوَالِ الدَّهْرِ وَنَفَحَاتٍ في جَمِيعِ أَيَّامِ الْعُمْرِ، فَلِلْمُسْلِمِ لِقَاءٌ خَاصُّ مَعَ رَبِّهِ جلَّ وعلا خَمْسَ مَرَّاتٍ في يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ قالَ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) النساء: [103]  وإذا كانَ الثُّلُثُ الآخرُ مِنَ الليلِ (يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟) أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) فَالْزَمُوا الْعِبَادَةَ، ودَاوِمُوا عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنَّ فَضْلَ اللهِ عظيمٌ، ورَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُعِينَنَا عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، اللَّهمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ووَلِيَّ عَهْدِهِ وإِخْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

الجمعة 6/ 10 /1446هـ