الأناة خصلة يحبها الله ورسوله – خطبة الجمعة 13-10-1446هـ
الْحَمْدُ للهِ خَالِقِ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، المُطَّلِع عَلَى السَّرَائِرِ والنِّيَّاتِ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَحِلْمًا، وَأَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسانِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ فَالتَّقْوَى خَيْرُ زَادٍ لِيَوْمِ المَعَادِ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجِعُون فيه إلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَسَطَ المَوْجَاتِ الَّتِي تَرْتَطِمُ بِالعبدِ مِنَ المكَدِّرَاتِ والمُنَغِّصَاتِ، وَمَا يَعْتَرِي الْحَيَاةَ الْيَوْمِيَّةَ مِنَ المَشَاقِّ والآَفَاتِ، وتَوَالِي الأَخْبَارِ، وذُيُوعِ الإِشَاعَاتِ، كَانَ المُسْلِمُ بِحَاجَةٍ إِلَى الصَّبْرِ والتَّرَوِّي والأنَاةِ، والنَّظَرِ في الْعَوَاقِبِ والمَأَلاتِ؛ ليُحْسِنَ التَّصَرُّفَ والْعَمَلَ، ويَتَجَنَّبَ الشَّطَطَ والزَّلَلَ.
عِبَادَ اللهِ: وَالأَنَاةُ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ: قَالَ ﷺ : (التَّأنِّي مِنَ اللهِ، والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ) رواه البيهقي (10/104) وحسنه الألباني (2011) أي: التَّأَنِّي مِمَّا يَرْضَاهُ اللهُ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ أَمَّا العَجَلَةُ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لأَنَّهَا خِفَّةٌ وطيشٌ، وحدَّةٌ فِي الْعَبْدِ تَمْنَعُهُ مِنَ التَّثبتِ والْحِلْمِ، وَتُوجِبُ لَهُ النَّدَمَ والذَّمَّ، والأناةُ: هي التَّمَهل والتَّبَصُّر والنَّظَرُ إلى الْعَوَاقِبِ بِحِكْمَةٍ وتَدَبُّرٍ، والإِحْجَامُ عَن الْفِعْلِ قَبْلَ قَرَارٍ واسْتِشَارَةٍ، والإعراضُ عَنِ الْقُولِ قَبْلَ نَظَرٍ وإِعْمَالِ عَقْلٍ، فَيَنْظَرُ المرْءُ قَبْلَ أَنْ يَنْذُرَ، وَيَتَأَمَّلَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ.
أيُّها المؤْمِنُونَ: والأنَاةُ عَلامَةٌ على الرُّشْدِ، ودَليلٌ على الرَّزَانَةِ وَرُجْحَانِ الْعَقْلِ، وَهِيَ خُلُقُ الأَنْبِيَاءِ، وسَمْتُ الحُكَمَاءِ، تَعْصِمُ صَاحِبَهَا مِنَ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ، وتُجَنِّبُهُ الاعْتِذَارَ وإِبْدَاءَ الأَعْذَارِ، وبالتَّأَنِّي تَكْتَمِلُ الصُّورةُ، وتَتَّضِحُ الرُّؤْيَةُ، وتَجْلُو الْحَقَائِقُ، ويُغْلَقُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْعَمُ الإِنْسَانُ بِالنَّظَرِ والمَشُورَةِ.
عِبَادَ اللَّهِ: والأَنَاةُ خَلَّةٌ فَضِيلَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ، تَكُونُ جِبِلَّةً وَفِطْرَةً كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: (إنَّ فيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُما اللهُ الحِلْمُ والأناةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أنا أَتَخَلَّقُ بهما أَمِ اللهُ جَبَلَنِي عليهما؟ قال: بَلِ اللهُ جبلكَ عليهما. قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهما اللهُ ورَسُولُهُ) أخرجه أبو داود (5225) وصححه الألباني.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والأَنَاةُ كَمَا تَكُونُ جِبِلَّةً وَهِبَةً مِنَ اللهِ، تَكُونُ بِالدُّرْبَةِ والتَّجْرِبَةِ والتَّخَلُّقِ والتَّعَلُّقِ، يَتَحَلَّى بِهَا كُلُّ أَسِيفٍ، وَيَبْحَثُ عَنْهَا مَنْ يَرْنُو إِصْلاحَ نَفْسِهِ، وَتَهْذِيبَ طَبْعِهِ، قَالَ ﷺ: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ) أخرجه الطبراني (3/118) وحسنه الألباني
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والأَنَاةُ تَضْبِطُ سُلُوكَ الإِنْسَانِ، فَيَتَرَوَّى في الْفِعْلِ، وَيَتَحَرَّى فِي الْعَمَلِ وَتَضْبِطُ لِسَانَهُ، فَيَتَخَيَّرَ لِكَلِمَاتِهِ الأَوْقَاتَ المُنَاسِبَةَ، والأَوْسَاطَ المُلائِمَةَ، والأَلْفَاظَ الدَّقِيقَةَ الصَّحِيحَةَ الْخَالِيَةَ مِنَ اللَّبْسِ والإِيهَامِ، والنَّزِيهَةَ عَن الْفُحْشِ وَالإِيلامِ، قَالَ تَعَالَى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الإسراء: [53].
عِبَادَ الله: وَمِنْ صُورِ الأناةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ: التَّأَنِّي عِنْدَ الذَّهَابِ إِلى المَسَاجِدِ؛ قالَ ﷺ: (إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتموا) أخرجه البخاري (636).
وَمِنْ صُوَرِ الأَنَاةِ: التَّأَنّي في مَسَائِلِ الطَّلاقِ، وَنَهُْيِ الزَّوْجِ عَنْ طَلاقِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ في طُهْرِ جَامَعَهَا فِيهِ، وأَتْبَعَ الطَّلاقَ بِالْعِدَّةِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأَنِّي والتَّرَوِّي الَّذِي بِهِ تَطُولُ المدَّةُ، فَيَزُولَ الْغَضَبُ، وتَنْقَشِعَ سَحَابَةُ الْخِصَامِ؛ لِيَحِلَّ مَحَلَّهَا الْوُدُّ وَالوِئامُ.
وَمِنْ صُوَرِ الأَنَاةِ: التَّأَنِّي فِي تَلَقِّي الأَخْبَارِ، قَالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَةٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات: [6] قرأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (فَتَثَبَّتُوا) وَمِنَ التَّثَبَّت: الأَنَاةُ وَعَدَمُ الْعَجَلَةِ، والنَّظَرُ في الأمرِ بِتُؤَدَةٍ وَرَوِيَّةٍ، فَلَا تَنْقِلُ مَا لَمْ تَسْمَعْ، وَلَا تُحَدِّثُ بِمَا لَمْ تَرَى، وَخَاصَّةَ مَع وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ المقْرُوءَةِ والمَسْمُوعَةِ والمُرْئِيَّةِ الَّتِي عَجَّتْ بِالْغَثِّ وّالسَّمِينِ فَيَعْجَلَ المْرَءُ بِضَغْطَةِ زِرٍّ، وَلمْسَةِ إِصْبَعٍ فَيَشِيعَ الْكَذِبُ، وَتَسُوءَ الْعَاقِبَةُ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الشَّائِعَاتِ في زَمَانِنَا، سِلاحٌ فَتَّاك لا يُخْطِئُ مَرْمَاهُ، وَدَاءٌ عضَالٌ لا نَجَاةَ مِنْ بَلْوَاهُ، وَهِيَ أَمَارَةُ سُوءِ النِّيَّةِ، وَفَسَادِ الطَّوِيَّّةِ، لا غَرْو أَنْ تَصْدُرَ مِن أَعْدَاءِ الإِسْلامِ الظَّاهِرِينَ، فهذَا دَيْدَنُهُمْ وَتِلْكَ أَهْدَافُهُمْ، إِنَّمَا الْعَجَبُ أنْ تَذِيعَ الشَّائِعَةُ بينَ المسلمينَ وَيَتَبَنَّاهَا قِلَّةٌ منَ المجتمعِ، إمَّا عن جهلٍ مُدْقِعٍ، أو هوًى مُشْبِعٍ، غيرَ عابِثِينَ بمَا تَلُوكُهُ ألْسِنَتُهُمْ منَ الْكَذِبِ والافْترَاءَاتِ وَالإِشَاعَاتِ وَالتُّرَّهَاتِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ((مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق: [18].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآَنِ والسُّنَّةِ، ونفعنَا بمَا فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا، واستغْفِرُ الله العظيم لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبِ فَاسْتَغْفِرُوهُ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ، وَأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْحَقُّ المُبِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالمِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللهِ واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ مَا يُعِينُ عَلَى التَّحَلِّي بِالأنَاةِ: سُؤَالُ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ الأَنَاةَ والرُّشْدَ، فَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: (وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ لَا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيْئهَا إِلَّا أَنْتَ) أخرجه ابن حبان (1772) وصححه الألباني (3421).
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى التَّحَلِّي بِالأَنَاةِ: النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْعَجَلَةِ وَمَآَلاتِهَا، والاعْتِبَارِ بِأَهْلِ الْعَجَلَةِ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمَا أَكْثَرَ مَا نُشَاهِدُهُ يَوْمِيًّا مِنْ عَوَاقِبِ الْعَجَلَةِ فِي قِيَادَةِ السَّيَّارَاتِ وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَاتَّهَامِ الْأَخْيَارِ، ولَوْ تَحَلَّى هَؤُلاءِ بِالتَّؤَدَةِ وَالأَنَاةِ؛ لَعَصَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ مِنَ الانْحِرَافِ وَالزَّلَلِ.
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُجَمِّلنَا بِالأَنَاةِ والرِّفْقِ، وأَنْ يُجَنِّبنَا الْعَجَلَةَ وَسُوءَ الْقَصْدِ.
اللَّهمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ووَلِيَّ عَهْدِهِ وإِخْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
الجمعة 13/ 10/ 1446هـ
مواضيع ذات صلة
-
استقبال شهر رمضان – خطبة الجمعة 29-8-1446هـ....
الجمعة 29 شعبان 1446هـ 28-2-2025م قراءة -
أعظم نعيم أهل الجنة – خطبة الجمعة 19-2-1446هـ....
الجمعة 19 صفر 1446هـ 23-8-2024م قراءة -
وجعلنا نومكم سباتا – خطبة الجمعة 6-8-1445هـ....
الجمعة 6 شعبان 1445هـ 16-2-2024م قراءة -
حاجة الناس إلى الرفق – خطبة الجمعة 15-4-1446هـ....
الجمعة 15 ربيع الثاني 1446هـ 18-10-2024م قراءة -
خطبة عيد الفطر 1-10-1446هـ....
الأحد 1 شوال 1446هـ 30-3-2025م قراءة -
قليل دائم – خطبة الجمعة 20-8-1445هـ....
الجمعة 20 شعبان 1445هـ 1-3-2024م قراءة