السؤال رقم (4111) : حكم تقنيين الفقه على شكل مواد.
السؤال الأول: هل ترون أن يكون حكم القضاة الشرعيين بناءً على الفقه المقنن بحيث يكون الحكم الشرعي الذي يصدره مبنياً على فقرات في نظام الفقه المقنن، أي يتم الرجوع إليها عند إصدار الحكم؟
الرد على الفتوى
الإجابة: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الغرار المامين، أما بعد: إن مما يجب الإيمان به أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه المبين وبعث رسوله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين رحمة للناس أجمعين، فقال سبحانه:[وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين]، فجاء هذا النبي بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء لكن إلى الله المشتكى.
ولقد كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين اليد الطولى في الحفاظ على هذا الدين حيث بنوا للناس مجداً شامخاً من فقه دين الشريعة الإسلامية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة، وما تشتمل عليه من العقائد والقواعد والأحكام وأمور الحلال والحرام باذلين في تصحيحها وتمحيصها غاية جهدهم ونهاية وسعهم، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام.
ولما كانت علوم الأولين والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان مما كتبوه وألفوه غير مبوبة ولا مرتبة قام الجهابذة العدول والأعلام من علماء الإسلام فأفنوا أعمارهم في سبيل الحفاظ على فقه هذا الدين، وعلى صيانة هذا الكنز الثمين، وعلى تهذيبه وترتيبه وتبويبه بحيث يدخل كل طالب علم أو عالم من علماء الأمة على كل قضية من بابها، ويقف على حقيقة العلم بها من وسائلها وأسبابها، فانتفع الناس بما قاموا به أيما انتفاع وخير شاهد على ما بذلوه هذا التراث العلمي المملوء بالمكتبات العامة والخاصة، فهو تراث حافل مملوء بكنوز الحكمة والفقه في دين الله، ولقد مرّ على هذا التراث العظيم أكثر من أربعة عشر قرناً، وكل علماء المذاهب الأربعة متفقون على العمل بأصولها وقواعدها وفرائضها وفضائلها وحلالها وحرامها، وليس فيها مسألة واحدة يمكن حذفها ولا موضوع واحد يحتاج إلى تعديل أو تبديل أو تغييره بغيره أو إزالة شيء من قوانين الشرع عن مكانه أو إلقائه بلا استغناء عنه، فهي باقية ما بقي الدهر، صالحة لكل زمان ومكان لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
وما ذكرته هذا كان ولابد منه لأنه مقدمة للإجابة على السؤال الذي طرحته، فمسألة تقنين الفقه وجعله على شكل مواد ونظام مقنن باب الاجتهاد الذي هو أحد مباني الدين العظام والذي عدّه الفقهاء من فروض الكفايات، ولابد للمسلمين من استخراج الأحكام لما يحدث من الأمور، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى أهل اليمن لم يقنن له قوانين ليسير عليها في القضاء بين المتنازعين بل قال له كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، أي لا أقصر، قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما ير ضي الله ورسوله.
ثم إن مسألة تقنين الأحكام الشرعية أو تقنين الفقه وجعله على شكل مواد أو قانون يتحاكم إليها له آثار سلبية منها:
(1) تهميش الفقه الإسلامي المتمثل في التراث الضخم الذي تعب أسلافنا في استنباطه وتدوينه والتوسع فيه بحيث لا يوجد حادثة أو يتجدد أمر إلا ويوجد له من النظائر والمسائل بأسهل أو إدراجه معه.
(2) أن تقنين الفقه فيه تقييد للأمة بقول دون آخر مع أنه قد يكون القول المتروك هو الذي يعتقده المخالف لكون الدليل والحجة والبرهان معه.
(3) أحوال الناس مختلفة وعادتهم متباينة حسب اختلاف زمانهم ومكانهم، ولكن القضاة سيحكمون بقوانين مقننة لا يمكن الخروج عنها، بل يجب إلزام الناس بها مع أنها مخالفة لعاداتهم وأماكنهم وأحوالهم.
(4) أن وضع هذه القوانين ستحد من نظر القاضي وتحد من علمه إذ ما الفائدة من علمه إذا لم ينتفع به، ومن هنا كيف يحكم القاضي بشيء لا يعتقده، بل قد يكون ما يحكم به فيه جور وظلم للآخرين.
ومن هنا كان تقنين الفقه ليكون ملزماً للقضاة الشرعيين أمر له آثاره على المتخصصين في هذا الشأن، أما تسهيل الفقه وجعله صوراً ميسرة يفهمها الناس، ويتناسب مع الزمان الذي نعيشه فيه فهذا أمر لاشك أنه يخدم الفقه الإسلامي، بل يكون واجباً لأن الحاجة داعية إليه، ولهذا ألف الكثيرون كتباً أسموها الفقه الميسر.