المفلس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم – خطبة الجمعة 28-4-1443هـ
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: حثَّ الإسلامُ على الإكثارِ مِنَ العملِ الصالحِ، وأوصى المسلمَ بلزومِه والحرصِ عليه حتَّى آخرِ لحظةٍ في حياتِه، ليَجدَ تلكَ الأعمالَ الصالحةَ في موازينِ حسناتِه، قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون}[النحل:97]، وقال تعالى:{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [البقرة :110]، ومنَ المصائبِ التي تساهلَ فيها بعضُ الناسِ وقوعُهم في كثيرٍ مِنَ الظُّلمِ التي تَمسُّ حقوقَ الخلقِ، مِنْ قتلٍ، وسلبٍ، وسرقةٍ، وضربٍ، وسبٍّ، وشتّمٍ وقذفٍ ولعنٍ، وغيبةٍ ونميمةٍ، وأخذِ أموالِ النَّاسِ بالباطل، وكذلك الغشُّ في البيوعِ، والمماطلةُ بالدَّينٍ، والقروضِ، وعدمُ الوفاءِ بها، وغيرُها من الأعمالِ التي تَتَرتَّبُ عليها المخاصمةُ بين يديْ اللهِ جلَّ وعلا.
ولقد حذًّر اللهُ جلَّ وعلا عبادَه من الظلمِ ونهَاهُم عنه، قال النبيُّ ﷺ فيما يرويه عن ربِّه تباركَ وتعالى أنَّه قالَ:(يا عِبادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظالَمُوا) رواه مسلم (2577)، وحذَّرَ النبيُّ ﷺ أيضًا من الظلمِ تحذيرًا شديدًا، فقد سَأَلَ يَومًا أصحابَه فقال: (أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) رواه مسلم (2581).
لقد بيَّنَ النَّبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ بعضَ صورِ الظُّلمِ وحذَّر من خطورتِه، وما يَترَتَّبُ عليه من حصولِ إفلاسِ العبدِ يومَ العرضِ على اللهِ، وأنَّ هذه الحياةَ الدنيَا هي مزرعةُ الآخرةِ، وأنَّ كلَّ عملٍ يقومُ بِه العبدُ في الدُّنيَا يَحصلُ ثوابُه أو عقابُه يومَ القيامةِ.
عبادَ اللهِ: حُقوقُ العبادِ أمرُها عظيمٌ، وحسابُها شديدٌ، لا يَضيعُ منها شيءٌ، فعَن عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:(الدَّوَاوِينُ عِندَ اللَّهِ عز وجل ثَلاثَةٌ: دِيوَانٌ لا يَعبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيئًا، وَدِيوَانٌ لا يَترُكُ اللَّهُ مِنهُ شَيئًا، وَدِيوَانٌ لا يَغفِرُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَغفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّركُ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل {إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ} وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَعبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيئًا، فَظُلمُ العَبدِ نَفسَهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ، مِن صَومِ يَومٍ, تَرَكَهُ أَو صَلَاةٍ, تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَغفِرُ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزُ إِن شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَترُكُ اللَّهُ مِنهُ شَيئًا، فَظُلمُ العِبَادِ بَعضِهِم بَعضًا القِصَاصُ لا مَحَالَةَ) رواه أحمد (6/240).
ويقولُ عبدُ اللهِ ابنُ الزبيرِ رضيَّ اللهُ عنهما: لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُم تَختَصِمُونَ}[الزمر:30ـ 31]. قالَ يا رسولَ اللهِ: أيُكرَّرُ علينا ما يكونُ بيننا، مع خواصِّ الذنوبِ، قال: نَعَمْ ليُكرَّرَنَّ عليكم حتى يُرَدَّ إلى كلِّ ذِي حقٍّ, حقَّهُ، قال الزبيرُ: واللهِ إنَّ الأمرَ لشديدٌ. رواه البيهقي (السنن الكبرى 6/155)، وكتبَ رجلٌ إلى ابنِ عمرٍ رضي اللهُ عنهما: أَنْ اكْتُبْ إليَّ بالعلمِ كلِّه، فَكَتبَ إليه: (إنَّ العلمَ كثيرٌ ولكن إنْ اسْتَطَعتَ أَنْ تَلقى اللهَ خفيفَ الظهرِ من دماءِ الناسِ، خميصَ البطنِ من أموالِهِم، كافَّ اللسانِ عن أعراضِهم لازمًا لأمرِ جماعتِهم فافْعلْ) سير أعلام النبلاء (3/222)، لذا فإنَّ حُقوقَ العبادِ مبنيةٌ على المُشاحَّةِ، وحقوقَ اللهِ تعالى مبنيةٌ على المسامحةِ، فيمَا عدَا الإشراكِ بهِ سبحانَه.
فلْيَحذَرِ المسلمُ من ظُلمِ العبادِ، فإنَّ الظلمَ ظُلماتٌ يومَ القيامةِ، قال ابنُ الجَوزيُّ رحمَه اللهُ:(الظلمُ يشتملُ على معصيتينِ: أخذِ مالِ الغيرِ بغير حقٍّ,، ومبارزةِ الربِّ بالمخالفةِ، والمعصيةِ فيه ـ أي في الظلمِ ـ أشدُّ من غيرِها، لأنَّهُ لا يقعُ غالباً إلاَّ بالضعيفِ الذي لا يَقدرُ على الانتصارِ، وإنَّما ينشأُ الظلمُ عن ظُلمَةِ القلبِ، لأنَّهُ لو استنارَ بنورِ الهُدى لاعْتبرَ، فإذا سعى المتَّقونَ بنورِهم الذي حَصَلَ لهم بسببِ التَّقوى، اكْتَنفتْ ظلماتُ الظلمِ الظالمَ، حيثُ لا يُغني عنهُ ظُلْمهُ شيئًا ” فتح الباري (5/100).
وصَدَقَ اللهُ العظيمُ: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}[النمل:89، 90].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ، واعلموا أنَّ أعظمَ أسبابِ إفلاسِ العبدِ يومَ القيامةِ هو اعتداؤُه على حقوقِ الخلقِ وظُلْمهِم، ولا تَسْلمُ لهُ حسناتُه إلا إذا سَلِمَ من حقوقِ الخلقِ، كَتَبَ محمدُ بنُ واسعٍ إلى رجلٍ من إخوانِه فقالَ له: ” من محمدِ بنِ واسعٍ إلى فُلانِ بنِ فلانِ، سلامٌ عليكَ، أمَّا بعدُ، فإنْ اسْتَطعتْ أَنْ تَبيتَ حينَ تبيتُ وأَنْتَ نَقيٌّ الكفِّ من الدَّمِ الحرامِ، خميصُ البطنِ من الطعامِ الحرامِ، خفيفُ الظهرِ من المالِ الحرامِ فافْعلْ، فإنْ فَعَلتَ فلا سبيلَ عليكَ؛{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الشورى: 42]. والسلامُ عليكَ “.
وفي هذا تحذيرٌ من العُدْوانِ على الخلقِ، وأنَّه يجبُ على الإنسانِ أن يؤدِّيَ ما للناسِ عنده في حياتِه قبلَ مماتِه، حتى يكونَ القصاصُ في الدنيَا ممَّا يَستطيعُ، أمَّا في الآخرةِ فليسَ هناكَ دِرهمٌ ولا دينارٌ حتَّى يَفدِيَ نَفسَه، وليسَ في هذا اليومِ إلا الحسناتُ والسيئاتُ.
فَمنْ كانتْ عندَه مظلمةٌ أو حقٌّ لغيرِه، فعليه أن يردَّهما، أو يَطْلبَ المسامحةَ والتحلَّلَ مِن صاحبهِما قبلَ أن يلقى اللهَ وهما في ذمتِه فيُجازى عليهمَا من حسناتِه، قال النبيٌّ ﷺ: (مَن كَانَت لَهُ مَظلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِن عِرضِهِ أَو شَيءٍ,، فَليَتَحَلَّلهُ مِنهُ اليَومَ قَبلَ أَن لا يَكُونَ دِينَارٌ ولا دِرهَمٌ، إِن كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنهُ بِقَدرِ مَظلَمَتِهِ، وَإِن لَم تَكُن لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ) رواه البخاري (2449).
أسألُ اللهَ تعالى أَنْ يُجنِّبنَا الظلمَ وأهلَه، وأَنْ يُنْجِينَا من النَّارِ وعذابِها، وأَنْ يُدخلنَا الجنَّةَ برحمتِه وفضلِه.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 4/28/ 1443هـ