الحكمة في تقسيم الأرزاق – خطبة الجمعة 13-5-1443هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العليمِ بشؤونِ خلقِه، الحكيمِ في قضاءِه وقدرِه، مُقسِّمِ الأرزاقِ بما يَراه في مصالحِ خلقِه، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: تجلَّت عظمةُ الموَّلى جلَّ وعلا في تفاوتِ الأرزاقِ بينَ البشرِ، لتقومَ مصالحُهم الدينيةُ والدنيويةُ، ولو بَسَطَ اللهُ سبحانه الرزقَ لجميعِ عبادِه لَحَصلَ البغيُ والكفرُ والفسادُ والطغيانُ، قال تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}[الشورى:27]، ولو ضيّق الرزقَ عليهم لاختَّلتْ حياتُهم ولفسدتْ معيشتُهم، فالحكمةُ في تفاوتِ الأرزاقِ بينَ الخلقِ كي يُسخِّرَ بعضَهم لبعضٍ، ويخدمَ بعضُهم بعضًا، ويتبادلَ الناسَ المنافعَ فيما بينَهم، وحتى يبتَليَ اللهُ تعالى عبادَه الأغنياءَ والفقراءَ، والكبراءَ والضعفاءَ.
أيُّها المؤمنونَ: اعلموا أنَّ الرزقَ أنواعٌ كثيرةٌ لا تحصى، لم يجعلْها اللهُ تعالى في شيءٍ واحدٍ، بل جَعَلَه مقسَّمًا تقسيمًا حكيمًا بين العبادِ، فالإيمانُ واليقينُ والإخلاصُ والصدقُ والقبولُ والانقيادُ والعلمُ رزقٌ، وحفظُ القرآنِ وتعلَّمُ السنةِ رزقٌ، والهدايةُ والتوفيقُ والسدادُ والنجاحُ رزقٌ، وقوةُ العقلِ والفهمِ والذكاءِ رزقٌ، والمالُ والبنونَ رزقٌ، والعافيةُ في الأبدانِ رزقٌ، والطعامُ والشرابُ رزقٌ، وتعلُّمُ الصَّنعةِ وإتقانُها رزقٌ، والمحافظةُ على الصلواتِ وقيامُ الليلِ وصيامُ النَّهارِ رزقٌ، والإنفاقُ والبذلُ في سبيلِ اللهِ رزقٌ، والسعيُ في حوائجِ الناسِ وقضائُها رزقٌ، والزوجةُ والذريةُ الصالحةُ رزقٌ، وبرُّ الوالدينِ والإحسانُ إلى الأرحامِ رزقٌ، وتحصيلُ الوظيفةِ وكسبُ المالِ رزقٌ، وهكذا في كلِّ ما ينتفعُ به الإنسانُ، في دُنيَاه وآخرتِه رزقٌ من اللهِ تعالى وهو درجاتٌ متفاوتةٌ، إلا أنَّ عامةَ النَّاسِ يظنُّونَ أنَّ المالَ وحدَه هو الرزقُ فقط، وأَنَّ ما دونَه لا يكونُ رزقًا.
عبادَ اللهِ: إنَّ قَصْرَ بعضِ الناسِ مفهومَ الرزقِ على الأمورِ الماديةِ ـ والمالِ بشكلٍ خاصٍ وغفلتَهم عمَّا رَزَقَهم اللهُ تعالى من أرزاقٍ معنويةٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى، وظنُّهم أنَّها لا تَدْخُل في مفهومِ الرزقِ, وأنَّ اللهَ تعالى قد حَرَمَهم المالَ وَمَنحَه لآخرينَ ظنٌ خاطئٌ وهذا الظنُّ جَعَلَهم يتنافسونَ عليها تنافسًا عجيبًا، فطغى سلطانُ المالِ على حياتِهم العامةِ والخاصةِ، ولو أدركوا مفهومَ الرزقِ الشاملِ في حياتِهم لسادتْ القناعةُ وحلَّ الرضا، ولَهَجتْ ألسنتُهم وقلوبُهم بشكرِ مولاهُم على نِعمِه الظاهرةِ والباطنةِ، قال اللهُ تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:32 ].
فلا مجالَ لتَدخُّلِ المخلوقِ في تقسيمِ أرزاقِ العباد، والقسمةُ إذا كانتْ من اللهِ تعالى، فلا تستطيعُ قوةٌ على وجهِ الأرضِ في منْعِها وردِّها، وواقعُ حياةِ النَّاسِ يُؤيِّدُ ذلك، بلْ ويتوقَّفُ عليه، كما قال تعالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} ومعنى تسخيرِ بعضِهم لبعضٍ: خدمةُ بعضِهم بعضًا، وعملُ بعضِهم لبعضٍ، لأنَّ نظامَ مصالحِ العالَمِ في هذهِ الدنيَا يتوقَّفُ قيامُها على ذلك.
عبادَ اللهِ: لقد قسَّمَ اللهُ تعالى الرزقَ على عبادِه ليعرفوا أَنَّه المدبِّرُ لجميعِ الأمورِ، وأنَّه سبحانَه بيدِه مقاليدُ السمواتِ والأرضِ ، فيُوسِّعُ على مَنْ شاءَ، ويُضيِّقُ على من شاءَ ولا رادَّ لقضاءِه وقدَرِه ، لا مانعَ لما أعطى ولا مُعطي لما مَنَعَ ، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الشورى: 12]، وكذلكَ ليعتبِروا بهذا التَّفاوتِ في الدُّنيا على تفاوتِ ما بينَهم في درجاتِ الآخرةِ، فكما أنَّهم مُتفَاوتونَ في أمورِ الدُّنيَا كَمَنَ يسكنُ القصورَ، ويركبُ المراكبَ الفخمةَ، ويتقلَّبُ في مالِه وأهلِه وبنيهِ في سرورٍ وحبورٍ، ومن لا مأْوى لهُ ولا مالَ ولا أهلَ ولا بنونَ، ومنهم ما بينَ ذلكَ على درجاتٍ متفاوتةٍ، كذلكَ هم يتفاوتونَ في درجاتِ الآخرةِ، ولذلكَ قال اللهُ تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء:21].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، واعلموا أنَّ الله تعالى قسَّم الأرزاقَ بين عبادِه، فلن تموتَ نفسٌ حتَّى تُستوفيَه، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:(إنَّه لا تَموتُ نفسٌ حتى تسْتكمِلَ رِزْقَهَا وإنْ أبطأَ عليهَا) رواه (البيهقي (9891)، وقال الألباني في صحيح الترغيب حسن صحيح (113915)، وأنَّ الرزقَ بيدِ الرزَّاقِ جلَّ وعلا، فيبسطُه لمن يشاءُ ويقْدرُه على مَنْ يشاءُ، وأَمَرنَا المولى جلَّ في عُلاه أَنْ نسعى ونعملَ بجدٍّ؛ ليكونَ جلبُ هذا الرزقِ موافقًا لمرضاةِ اللهِ تعالى، فليكنْ المسلمُ على يقينٍ أنََّ اللهَ تعالى رازقُه حتى لو تأخَّرَ هذا الرزقُ فإنَّهُ محصلُّه لا محالةَ، فلا يدفعُه إبطاءُ الرزقِ إلى معصيةِ اللهِ، فإنَّ ما عندَ اللهِ يُحصِّلُه بطاعتِه لا بمعصيتِه، وإذا تعلَّق القلبُ بخالقِه ومولاه ورازقِه، وأَدْركَ أنَّ كلَّ ما في السماواتِ والأرضِ تحتَ سُلطانِه وملكِه فسوفَ يهدأُ قلبُه، وتطمئنُّ نفسُه، ويرتاحُ فكرُه، فلا يَحسِدُ أحدًا على ما وَهبَه اللهُ من فضلِه، ويصبرُ على أقدارِ ربِّهِ في سرائِه وضرائِه، وليعلمَ أنََّ القناعةَ كنزٌ لا يفنى .
وإيَّاكَ أيُّها المسلمُ من السعي ونيلِ الرزقِ من أبوابِ الحرامِ، فسوفَ تُسألُ عمَّا استحلْلتُه مما يغضبُ الرحمنِ، وإيَّاكَ واليأسَ والقنوطَ من رحمةِ اللهِ فإنَّ اللهَ تعالى يدُه سحاءُ ملآ لا تغيضُ، وسوف يُفرِّجُ اللهُ همَّك ويُنفِّسُ كربَك ويُرسلُ لكَ الرزقَ حيثمَا كنتَ وأينَما حَلَلتَ.
عبادَ اللهِ: اعلموا أنَّ أعمارَكم محدودةٌ، وآجالَكم محتومةٌ، وأرزاقَكم مكتوبةٌ، ولن ينالَ غيرُنا شيئًا من أرزاقِنا، فكلٌ يموتُ بانقضاءِ أجلِه بعد أن يكونَ قد اسْتكملَ رزقَه الذي كُتب له، وكلُّ إنسانٍ مأمورٌ ببذلِ الأسبابِ لاكتسابِ الرزقِ الذي قدَّره اللهُ له، وعليه أَنْ يعلَم يقينًا أنَّه لن يأتيَه من الرزقِ إلا ما كَتَبَ اللهُ له، مهما بَذَلَ من الأسبابِ، لكونِ هذا الرزقِ مكتوبًا له وهو في بطنِ أمِّه، فعليه أن يطرقَ السبلَ المشروعةَ لتحصيل ِرزقِه، وأن يلزمَ سؤالَ اللهِ، فهو سبحانَه لا يردُّ داعيَه ولا يُخيِّبُ سائلَه ولو بعد حينٍ، وعليه أن يُلزمَ نفسَه بالرضا عن اللهِ فيما يُقدِّره له من هذهِ الأرزاقِ، وأن يأخذَ بيدِها إلى سبيلِ الصالحينَ، كي يصلَ إلى جنَّاتِ الخُلدِ والنَّعيمِ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يرزقَنا قوةً في إيمانٍ ويقينٍ، وأن يعلِّقَ قلوبنَا به جلَّ وعلا، وأن يمنَّ علينا بالرزقِ الحلالِ الطيِّبِ الذي يُعينُنا على أمرِ دُنيَانَا وآَخرتِنا.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 13 / 5 / 1443هـ