أثر فقد العلماء – خطبة الجمعة 4-6-1443هـ
أثر فقد العلماء
الخطبة الأولى:
الحمدُ للِه الذي كَتَبَ الفناءَ على جميعِ الخلائقِ من الإنسِ والجنِّ، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: 185]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، المتفرِّدُ بالبقاءِ والدوامِ، وحدَه دونَ سُواه، القائلُ في محكمِ كتابِه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالَ وَالْإِكْرَامٍ} [الرحمن: 26،27]، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، ذاقَ طَعْمَ الموتِ كغيرِه من البشرِ، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر: 30] صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: الآية 102].
أيُّها المؤمنونَ: مصابُ الأمةِ بفقدِ العالمِ أمرُه عظيمٌ، إذْ لا يفقدهُ أهلُه وذووه فَحَسبْ، بلْ يفقدُه الصغيرُ والكبيرُ، والذَّكرُ والأنثى، والقريبُ والبعيدُ؛ لأنَّ موتَ العلماءِ مصيبةٌ، وأيُّ مصيبةٌ! فهم مصابيحُ الدُّجى، وعلاماتُ الهُدى، هم كالشمسِ في النَّهارِ، والعافيةِ للبدنِ، فعن عبدِاللهِ بنِ عمروٍ رضي اللهُ عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: (إِنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه من الناسِ ولكن يقبِضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ فإذا لم يُبِقِ عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا) رواه ابن ماجة (46) وصححه الألباني.
قال مجاهدُ رحمهُ اللهُ في قولِه تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الرعد: 41]؛ “هو موتُ العلماءِ”.
وكما أنَّ موتَ العلماءِ ثلمةٌ، ومصيبةٌ، فهو غيظٌ لأهلِ الباطلِ؛ لما يرونَ من تبجيلِ العلماءِ، وتوقيرِهم، في الحياةِ وبعدَ المماتِ.
أيُّها المؤمنون: لقد اخْتصَّ اللهُ مِنْ خلقِه مَنْ أَحبَّ فهداهمْ للإيمانِ، ثمَّ اختصَّ مِن سائرِ المؤمنينَ مَنْ أَحبَّ فتفضَّل عليهم، فعلَّمهم الكتابَ والحكمةَ، وفقْههم في دينِ اللهِ، وعلَّمهم التَّأويلَ، وفضَّلهم على سائرِ المؤمنينَ، ورَفَعهَم بالعلمِ، وزيَّّنهم بالحلمِ، بهم يُعرفُ الحلالُ من الحرامِ، والحقُّ من الباطلِ، والنَّافعُ من الضَّارِ، وهم ورثةُ الأنبياءِ، وقُرةُ عينِ الأولياءِ، والحيتانُ في البحرِ تَسْتغفرُ لهم، والملائكةُ تَضعُ أجنحتَها لهم، حياتُهم غنيمةٌ، وموتُهم مصيبةٌ، هم سراجُ البلادِ، ومنارُ العبادِ، هُم غيظُ الشيطانِ، بهم تحيَا القلوبُ، هُم كالنجومِ في السماءِ يُهتدَى بهم في ظلماتِ البرِّ والبحرِ.
عبادَ اللهِ: ليس المهمُّ عندًَ فقدِ العلماءِ أن تكثرَ المقالاتُ، والقصائدُ، وأن يَظهرَ أثرُ فقدِهم على المجتمعِ شكوىً وتوجعًا، ولكنَّ المهمُّ هو تَرسُّمُ الخُطى، والسَّيرُ على المنهجِ، والسَّعيُ في طَلَبِ العلمِ الشرعيِّ والاجتهادُ في تحصيلهِ حتَّى نسدَّ ما يُثْلَمُ من الدينِ؛ فقد كَتَبَ عمرُ بنُ عبدِالعزيزِ رحمهُ اللهُ إلى أبي بكرِ بنِ حزمِ عاملِه في المدينةِ: “انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا”.
فكمْ نحنُ بحاجةٍ إلى سلامةِ القلوبِ، ونفعِ الآخرينَ، ومحبةِ الخيرِ لهم، والبعدِ عن الاحتقارِ والتقليلِ من شأنِ الغيرِ، بل كمْ نحنُ بحاجةٍ إلى العدلِ والإنصافِ في التعاملِ مع الآخرينَ، وكم نحنُ بحاجةٍ إلى التواضعِ للنَّاسِ، وبَسْطِ النَّفسِ لهم، وكم نحنُ بحاجةٍ إلى بَرَكةِ العلمِ، وبذلِه نُصْحًا وتَوجيهًا وتربيةً وتعليمًا للنَّاسِ، كلٌّ حَسَبَ طاقتِه ووُسعِه، وحَسَبَ ما يتناولُه وما يُتاحُ له مِنْ وسائل.
لقد ودَّعنا شَيخَنا العلامةَ فضيلةَ الشيخِ صالحِ بنِ مُحمَّدِ اللحيدانِ، وهذِه سُنّةُ اللهِ في خَلْقِه، فالدَّوامُ والبقاءُ للهِ وحَدْهُ، وشيخُنا أحدُ العلماءِ القلائلِ الذين تفرّغوا للعلمِ والقضاءِ، وَقَضَوا حياتَهم كلَّها في العلمِ والتعليمِ والفُتيَا والتدريسِ والقضاءِ.
صاحبُ ولاءٍ صادق مع ولاة الأمر، قام بعمله في القضاء خير قيامٍ حتى الإجازة لم يتمتع بها خلال عمله الطويل في القضاء بإجازة، ولذا أحبه الناس وكان الشاهد عند جنازته حيث شهدها خلقٌ كثيرٌ.
فرحمه اللهُ رحمةً واسعةً، وجزاهُ عنَّا وعن المسلمينَ خيرَ الجزاءِ.
وصدق الله العظيم: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}[الجمعة:8].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، واعلموا أنَّ المهمَّ عندَ فقدِ العُلماءِ هو تَرسُّمُ منهجهِم، والسَّيرِ على طريقهِم، وهذا المنهجُ الذي سارَ عليه شيخُنا وإخوانِه من أهلِ العلمِ الربَّانيينَ منهم مَنْ قَضى نَحبْه ومنهم مَنْ يَنْتظرْ، له سماتٌ ومعالمُ، ومنها ما يأتي:
1. العلمُ الصَّحيحُ المستمدُّ من الكتابِ والسُّنةِ.
- الفتوى عندهم ليستْ مقصورةً على وقتٍ دونَ وقتِ، بلْ يُفتونَ في كلِّ وقتٍ، في المسجدِ، والشارعِ، والبيتِ، ومكانِ العملِ، وعبرَ الهاتفِ، والصحيفةِ، والإذاعةِ، وسائرِ وسائلِ التواصلِ، وتشملُ فتاواهم شتَّى مجالاتِ الحياةِ من العباداتِ والمعاملاتِ والأخلاقِ والسُّلوكِ وجميعِ النَّوازلِ في عصرِهم.
- لقد تحقَّقتْ فيهم الولايةُ المنشودَةُ؛ لِعمْقِ إيمانِهم، وسلامةِ مقاصدِهم، وثباتِ مبادِئهم، واللهُ جلَّ وعلا يقولُ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[يونس: الآيات62ــ 64].
- وقْتُهم كلُّه عبادةٌ، وجلوسٌ للتعليمِ، وذكرٌ، وقراءةٌ، وقضاءٌ لحوائجِ النَّاسِ.
- إخلاصٌ صادقٌ، ونصحٌ، ومتابعةٌ.
- الزُّهدُ في الدنيا، والبعدُ عن فتنِها.
أيُّها المؤمنونَ: المجتمعُ كلُّه يَتَأثَّرُ بفقدِ العلماءِ، وهذا أمرٌ يلمسُه الجميعُ، وكأنَّ الفردَ منهم فَقَدَ أقْربَ الناسِ إليه، وما ذلكَ إلا لمحبتِهم لأهلِ العلمِ، واللهُ إذا أحبَّ عبدًا حبَّبَ له الخلائقَ، جاءَ في الحديثِ: (إذا أحَبَّ اللهُ عبدًا نادى جِبريلَ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فلانًا فأحِبَّه، فيُحِبُّه جِبريلُ، فيُنادِي جِبريلُ في أهلِ السماءِ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فلانًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماءِ ثمَّ يُوضَعُ لهُ القَبولُ في الأرضِ) رواه البخاري (٦٠٤٠) ومسلم (٢٦٣٧).
وما رواه أنسُ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه أنَّه قال: (مرُّوا على رسولِ اللهِ ﷺ بجنازةٍ فأثنَوْا عليها شرًّا فقال ﷺ: (وجَبَت) ومَرُّوا بأخرى فأثنَوْا عليها خيرًا فقال ﷺ: (وجَبَت) فقال عمرُ: يا رسولَ اللهِ ما وجَبَت؟ قال: (مَرُّوا بتلك فأثنَوْا عليها شرًّا فوجَبَتِ النّارُ ومَرُّوا بهذه فأثنَوْا عليها خيرًا فوجَبَت الجنَّةُ، وأنتم شهداءُ اللهِ في الأرضِ) رواه ابن حبان في صحيحه (3033).
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 4 / 5 / 1443هـ