من كانت الدنيا همه.. – خطبة الجمعة 3-4-1444هـ

الجمعة 3 ربيع الثاني 1444هـ 28-10-2022م

 

الحمدُ للهِ الكريمِ الوَهّابِ، الرَّحِيمِ التوّابِ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شّدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 70].

وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فاتّقُوا اللهَ أيُّهَا المؤمنونَ، فالتَّقْوَى وصيةُ اللهِ للأوَّلِينَ والآَخِرِينَ، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

أيُّهَا المؤمنُونَ: لا يَخْلُو إنسانٌ عَلى وجهِ الأرضِ مِنْ هَمٍّ يَحْمِلُهُ كُلَّ صَبَاحٍ، وَهَدَفٍ يَرْنُو بِبَصَرِهِ إِلَيْهِ، يَنْهَضُ مِنَ النَّوْمِ لأجلِهِ، ويَسْعَى لتحقيقِهِ، ويُجِّدُّ في طلبِهِ، وَيَبْذُلُ في سبيلِ الوُصُولِ إليهِ الغَالِيَ والنَّفِيسَ مِنْ مالٍ ووَقْتٍ وَصِحَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وعلى قدرِ سُمُوِّ الهدفِ، وَنُبْلِ الغَايَةِ، تكونُ قيمةُ الإنسانِ في الدُّنْيَا والآخرةِ.

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَجَّهَ اللهُ عزَّ وجلَّ العبادَ إلى الأهداف السَّامِيَةِ، والمقاصِدِ العَالِيَةِ فأمَرَهُم أنْ يكونُوا مِن طُلَّابِ الأخرةِ، وأنْ يَبْذُلُوا في طلبِهَا أوْقَاتَهُمْ وأعْمَارَهُمْ، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}العنكبوت: [64]، وحذَّرهُمْ مِنَ الافتتانِ بالدُّنْيَا وزُخْرُفِهَا، أو الانشغالِ بملَذَّاتِهَا، قال سبحانَهُ: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} القصص: [60].

عِبَادَ اللهِ: والناسُ في الإقبالِ على الآخرةِ، والانصرافِ عن الدُّنْيَا صِنْفَانِ أخبرَ عنهُمَا اللهُ عزَّ وجلَّ بقولِهِ: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} الشورى: [20].

فالصِّنْفُ الأوَّلُ هُم أُولُوا الألبابِ الَّذينَ وُفِّقُوا للصَّوابِ، فكانتْ الآخرةُ هَمَّهُمْ، والجَنَّةُ غايَتَهُم، جَعَلُوا نَصْبَ أَعْيُنِهِم قولَ اللهِ تعالَى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} الفرقان: [15]، ولمّا تَغَلْغَلَ همُّ الآخرةِ فِي سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِم، هَانَ عليهِمْ مَا ضَاعَ من دُنْيَاهُمْ، فَسَارَعُوا إلى اللهِ بالطَّاعَةِ، وَبَادَرُوا إليهِ بالعبادَةِ، جَعَلُوا أعمَارَهُم مَطِيَّةً للوصولِ إلى ربِّهِمْ؛ ليَقِينِهِمْ أنَّ العيشَ الحقيقيَّ عيشُ الأخرةِ، قالَ تعالى:  {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْر وَأَبْقَى} الأعلى: [16-17].

والصِّنْفُ الثَّانِي هُمُ المفْلِسُونَ الغافلونَ، الَّذِينَ آثَرُوا العاجِلَةَ على الآخرةِ، فقعدُوا عن الفرائِضِ، ووقعُوا في المحارِمِ، وأشغلَهُمُ الدِّينَارُ والدِّرْهَمُ، وقامَ الشُّحُّ عِنْدَهُمْ مَقَامَ الْبَذْلِ، أَلْهَاهُمُ التَّكَاثُرُ، وأَشْغَلَهُمُ التَّفَاخُرُ، فكانوا كالذي أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَبَنَى بيتَهُ عَلى مَوْجٍ جَرَّارٍ، فتقطعتْ بِهِمُ الأسبابُ، وضَلُّوا عن الصَّوَابِ، وأضْحَتْ الدُّنْيَا مُنْتَهَى سَعْيِهِم، وغَاية آمَالِهِم، فكانُوا كالَّذِي أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.

أيُّهَا المؤمنونَ: وقَدْ أخبرَ النبيُّ ﷺ عَنْ هذينِ الصِّنْفَيْنِ بقولِهِ: (مَنْ كَانَتِْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنيَا وَهِيَ راغمةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنيَا إلّا مَا قُدِّرَ لَهُ) أخرجه الترمذي (٢٤٦٥) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2 / 634).

عِبَادَ اللهِ: وفِي هذا الحديثِ  يُعَلِّمنَا نَبِيُّنَا ﷺ أنَّ استشعارَ هَمّ الآخِرةِ، والعملَ لهَا، مِنْ أَهَمِّ مَا يُعِينُ العبدَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَكَدَرِهَا، فَأَيُّ مصيبةٍ مِنْ مصائِبِ الدُّنْيَا تهونُ أَمَامَ المصيبةِ في الدينِ، وأيُّ تقصيرٍ في جنبِ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يَجْبُرهُ كُنُوزُ الدُّنْيَا وَإِنِ اجْتَمَعَتْ، ومتَى عاشَ العبدُ هَمَّ آخِرَتِهِ، قَوِيَ يقينُه، وطارتْ غفلتُه، ودامت خشيتُهُ، وَسَعَى لِلآخِرَةِ سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا.

أَيُّهَا المؤمنونَ: ولا يعنِي انشغالُ المرءِ بأمْرِ آخرتِهِ أنْ يَغْفَلَ عن أُمُورِ دُنْيَاهُ، مِنْ مَسْكَنٍ وَدِرَاسةٍ، وزواجٍ، وعَمَلٍ، غيرَ أنَّ هذهِ الهمومَ صغيرةٌ  أمَامَ همِّهِ الأكبرِ، وشُغْلِهِ الشَّاغِلِ وهَدَفِهِ الأَسْمَى، وهُو الإِعْدَادُ لآخِرَتِهِ، والاسْتِعْدَادُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ.

 قالَ ﷺ: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، هَمَّ المعادِ، كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ أَحْوَالَ الدُّنيَا لَمْ يُبالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ) أخرجه ابن ماجه (٢٥٧) وحسّنه الألباني.

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا  وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا  كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:18-21].

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ لَهُ على توفِيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ: وأبشِرُوا بالبِشاراتِ الثَّلاثِ الَّتِي بشّرنَا بِهَا نبيُّنَا ﷺ لمن  كانت الآخرةُ همَّهُ، وهيَ:

-البِشارةُ الأولى: جَعَلَ اللهُ غِنَاه في قلبِهِ، أيْ: رزقَهُ اللهُ الكِفَايَةَ، وَقَنّعَهُ بِمَا فِي يَدِه، وأغْنَاهُ عن النَّاسِ، وهذا هو الغنَى الحقيقيّ، قال ﷺ: (ليسَ الغِنى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنى غِنى النَّفْسِ) أخرجه البخاري (٦٤٤٦)، ومسلم (١٠٥١).

-البِشَارةُ الثانيةُ: جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وهذه نُعْمَى عينِ كُلّ إنسانٍ، أنْ يَجْمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَهُو الاجتماعُ القلبيُّ والبدنيُّ بين أسرَتِهِ، وعائلتِهِ، وَيَجْمَعُ عليهِ فِكْرَهُ بِسَدَادِ الرَّأْيِ، وحُسْنِ الْقَوْلِ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ بِدَوَامِ الطُّمَأْنِينةِ والسَّكِينةِ.

– البِشَارةُ الثَّالثةُ: وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِي رَاغِمَةٌ، أَيْ: رَغْمًا وَجَبْرًا، فَلَمَّا كانتْ الأخرةُ همَّهُ، كفاهُ اللهُ دنياهُ، وضَمِنَ لهُ رِزْقَهُ، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} طه: [132].

عِبَادَ اللهِ: وَمْنْ أعظمِ الأمورِ الَّتِي تُفَرِّقُ بينَ مَنْ يَحْمِلُ هَمَّ دُنْيَاهُ فقط، وبينَ مَنْ يعيشُ بِهَمِّ آخِرَتِهِ، والادِّخَارِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ، صلاةُ الْفَجْرِ، هذهِ الفريضةُ العظيمةُ الَّتِي جَعَلَهَا النبيُّ ﷺ  دلالةً على الإيمانِ، وبراءةً من النفاقِ، قالَ ﷺ: (أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) أخرجه البخاري (٦٥٧)، ومسلم (٦٥١).

فمنْ كانتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ، نَامَ عَنْها عَامِدًا، وَعَجَزَ أنْ يَنْهَضَ لِلِقَاءِ اللهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْجَزْ عن النُّهُوضِ لعملِهِ، لِكَسْبِ الرِّزْقِ، وتحصيلِ المالِ.

فكيف تطيبُ نفسُهُ إذَا تَقَاعَسَ عنِ القيامِ للقاءِ اللهِ، وَنَشِطَ في القيامِ لعملِهِ؟!

كيف تطيبُ نفسُهُ إذَا كانَ رِضَا المخلوقِ أهمَّ عندَهُ مِنْ رِضَا الخالِقِ سبحانَهُ؟!

كيف تطيبُ نفسُهُ إذَا قَدَّمَ مَا هُو فَانٍ عَلَى مَا هُو باقٍ؟!

عِبَادَ اللهِ: أَمَّا أهلُ الإيمانِ، وطُلَّابُ الْجِنَانِ، فَتَجِدهم لِنِدَاءِ اللهِ مُلَبّينَ، وفِي الصَّفِّ الأوَّلِ حاضِرِينَ، وبَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ، يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.

أسألُ اللهَ أَنْ يُجَنَّبنَا الغفلةَ، وَأَنْ يَرْزُقنَا الخَشْيَةَ، وأَنْ يُزَيِّنَ قُلُوبَنَا بالإيمانِ والتَّقْوَى.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].         
الجمعة: 4-3-1444هـ