الشتاء: آيات وآلاء – خطبة الجمعة 20-6-1444هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الواحدِ القَهَّارِ، مُكَوِّرِ النَّهَارِ على اللَّيْلِ، ومُكَوِّرِ اللَّيْلِ على النَّهَارِ، سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَحْمَدُهُ سبحانَهُ تَجْرِي بحكمتِهِ الأقدارُ، وتَتَنَزَّلُ بأمْرِهِ الأمطَارُ{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ألَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}الزمر:[5].
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ تَعَاقُب َالمواسِمِ والفصولِ، وتوالِي الأعوامِ، وتقلُّب الدهورِ، آيةٌ مِن آياتِ العزيزِ الغفورِ، فليلٌ يَتْبَعُهُ نهارٌ، ويُسْرٌ بعدَ إعْسَارٍ، وحَرُّ الصَّيْفِ اللاذِعِ، يَتْلُوهُ بردُ الشِّتاءِ القَارِس، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ.
سبحانَ ربِّنَا جَعَلَ في شِدَّةِ البردِ مُدَّكَرًا، وفي تَقَلُّبَاتِ الجوِّ عِبَرًا، قالََ تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}آل عمران: [190].
ومِنَ المواعِظِ والآياتِ التي يَحْسُنُ التذكيرُ بهَا في فصلِ الشِّتَاءِ مَا يلي:
أولًا: تَصَرُّم الفصولِ والأعوامِ، علامَةٌ على انقضاءِ الأعمارِ، وتذكيرٌ للمؤمنِ بِقِصَرِ الأجلِ، وتحذيرٌ مِنَ الغفلةِ وطول الأمل، فالصيفُ والشِّتَاءُ، والليلُ والنهارُ، مراحل ومنازل يَنْزِلُهَا الناسُ حتَّى ينتهيَ سفرُهم، والعاقِلُ مَن يُقدُِّمُ في كلِّ مرحلةٍٍ زادًا ينفعُه في ثَنِيِّاتِ الطريقِ، قالَ تعالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} الفرقان (62).
ثانيًا: برد الشِّتَاءِ القَارِسِ تذكيرٌ للمؤمنِ بزمهريرِ جهنَّمَ، جَاءَ فِي الصَّحِيحين مِن حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبيَّ ﷺ قالَ: {اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبِّها فَقالَتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَها بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ} أخرجه البخاري (٣٢٦٠) واللفظ له، ومسلم (٦١٧)
ولذا كانَ من تمامِ نعيمِ أهلِ الجنَّةِ أنْ يَقِيهِم اللهُ من الحرَِّ والبَرْدِ، ومِن عَذَابِ النَّارِ قالَ تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}الإنسان: [13].
ثالثًا: الشتاءُ غنيمةٌ باردةٌ، قالَ ﷺ: (الصَّومُ في الشِّتاءِ الغَنيمةُ الباردةُ) أخرجه الترمذي (797 )، وأحمد (18979 ) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1922) وفي الأثرِ عنْ عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ: (الشِّتَاءُ غَنِيمَةُ العَابِدِينَ) لقد كان سلفُنا الصالحُ ينظرُونَ إلى الشِّتَاءِ على أنَّهُ بستانٌ للطاعاتِ، وموسمٌ للاستكثارِ من العباداتِ، طالَ ليلُهُ للقيامِ وقَصُرَ نَهَارُه للصّيامِ، والمغبونُ من اتَّخَذَ مِنْ ليلِ الشِّتَاءِ مَرْتعًا للدِّفْء والنَّوْمِ، واللهو والعبث.
رابعًا: الحذر من شِدَّةَ البردِ، فقد كان عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه إذَا دخلَ الشِّتَاءُ تَعَاهَدَ رَعِيَّتَهُ، وَوَعَظَهُمْ بقولِهِ: (إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ عَدُوٌّ، فَتَأَهَّبُوا لَهُ أهبته مِنَ الصُّوفِ والخِفَافِ والجَوَارِبِ، واتَّخِذُوا الصُّوفَ شَعَارًا وَدِثَارًا، فَإِنَّ البَرْدَ عَدُوٌّ، سَرِيعٌ دُخُوله، بَعِيدُ خُرُوجه) لطائف المعارف لابن رجب (ص330).
خامسًا: في فصلِ الشِّتَاءِ تَكْثُرُ أمراضُ الزكامِ، والحُمَّى، ونزلاتِ البردِ، وآلامِ العظامِ لدى كبار السن، ويتأَذَّى من ذلك خَلْقٌ كثيرونَ، وبعضهم لا يُدْرِكونَ المِنَحَ والعَطَايَا المترتبة على هذهِ الأمراض، إذا واجهَهَا المسلمُ بالصَّبْرِ، واحْتِسَابِ الأجر، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ علَى أُمِّ السَّائِبِ -أَوْ أُمِّ المُسَيِّبِ- فَقالَ: ما لَكِ يا أُمَّ السَّائِبِ -أَوْ يا أُمَّ المُسَيِّبِ- تُزَفْزِفِينَ؟ قالَتِ: الحُمَّى، لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقالَ ﷺ: لا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فإنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كما يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ) أخرجه مسلم (2575).
سادِسًا: الشِّتَاءُ تذكيرٌ بتلك النِّعمِ التي نَتَفَيَّؤُ أثرها، فقد مَنّ اللهُ علينَا بالأمن في الأوطانِ، والوفرةِ في الثِّيابِ والمعاطِفِ، والمشالحِ الشِّتْوِيَّةِ والمدافِِئِ، بيوتٌ هادئةٌ، وفُرُشٌ دافئَةٌ، ومِن شكرِ هذه النِّعمة مواساة من آذاهم البردُ، وأعْيَاهم الصَّقِيعُ، وأقَضَّ مضاجِعَهُم الصِرُّ.
أعوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل: 80].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، تعظيمًا لشأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واعلمُوا أنّ في الشِّتَاءِ آياتٍ عظيمةً، منها الصواعق والرَّعد والبرق والبَرَد والرِّيَاح، وكلُّهَا مِنْ جُنْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، يَصِيبُ بهَا مَنْ يشَاءُ، ويَصْرِفُهَا عن من يشاءُ، تأتي تارةً بالرحمةِ، وتارةً بالعذابِ، فعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: (كانَ النبيُّ ﷺ إذا رَأى غَيْمًا، أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذلكَ في وَجْهِهِ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، أَرى النّاسَ إذا رأَوْا الغَيْمَ فَرِحُوا رَجاءَ أَنْ يَكونَ فيه المَطَرُ، وَأَراكَ إذا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ في وَجْهِكَ الكَراهيةَ؟ قالَتْ: فَقالَ: يا عائِشَةُ: ما يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكونَ فيه عَذابٌ، قدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بالرِّيحِ، وَقَدْ رَأى قَوْمٌ العَذابَ، فَقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنا} أخرجه مسلم (899).
والسُّنَّةُ عند حدوثِ هذه الآيات، الْخَوْفُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وصِدْقُ اللجوءِ إليه بالاستغفارِ، والدُّعاءِ، وسؤالُهُ خَيْرَها، والاستعاذةِ بهِ من شَرِّهَا، قال ﷺ: (نُصِرْتُ بالصَّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ) أخرجه البخاري (1035)، ومسلم (900) والصَّبَا: الريحُ التي تَهُبُّ مِنَ الشَّرْقِ، نَصَرَ اللهُ عزّ وجلّ بهَا المؤمنينَ يومَ الخَنْدَقِ، والدَّبُورُ: الريحُ التي تَهُبُّ مِن الغربِ، أَهْلَكَ اللهُ عزّ وجلّ بهَا قومَ عادٍ، قالَ سبحانَهُ: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} الحاقة: [6-7].
أسألُ اللهَ أنْ يُوَفِّقَنَا لِتَدَبُّرِ آيَاتِهِ، وَشُكْر نِعَمِهِ، وأَنْ يَجْعَلَ الشِّتَاءَ عَلَيْنَا بَرْدًا وَسَلامًا.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عامة لِلْحُكْمِ بكتابِكَ، والعملِ بسنَّةِ نبيِّكَ، اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموَّ وليِّ عهدِهِ لما فيه خيرُ البلادِ والعِبَادِ، واحْفَظْهُمْ مِن كلِّ سُوءٍ ومكروهٍ، وَأَعِنْهُمْ عَلى أُمُورِ دِينِهِم وَدُنْيَاهُم، واجْزِهِمْ عمَّا يُقَدِّمُونَ للإسلامِ والمسلمينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ.
اللهمَّ ارْبِطْ على قلوبِ رجالِ الأمنِ في ثُغُورِ بِلَادِنا وغَيْرِهَا، الذين يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ، واحفظهمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمِ ومِنْ خَلْفِهِمِ، وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللهمَّ ارحَمْ هذا الجمعَ من المؤمنينَ، اللهمَّ استر عوراتِهِمْ، وآمِنْ روعاتِهِمْ وارفَعْ درجاتِهِمْ في الجنَّاتِ، واغفرْ لَهُم ولآبَائِهِمْ وأمَّهَاتِهِم، وأَصْلِحْ نيَّاتِهِمْ وذريَّاتِهِم واجمعنَا وإيَّاهُم ووالدِينَا وأزواجَنا وذريَّاتِنَا ومَنْ لَهُ حقٌّ علينَا في جنَّاتِ النعيمِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جَلَّ مِن قَائِلٍ عَلِيمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 1444/6/20هـ