الغيبة والنميمة وأثرهما على الفرد والمجتمع – خطبة الجمعة 27-6-1444هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ العليِّ الأعلى، يعلمُ السِّرَّ والنَّجْوَى، ويَسْمَعُ الشُّكْرَ والشَّكْوَى، أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ، أحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ أَسْبَغَ علينَا نِعَمَهُ، وَغَمَرَنَا بِوَاسِعِ فَضْلِهِ، وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} النحل: [53].
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أيُّهَا المؤمنونَ: أرْشَدَ اللهُ عزّ وجلّ عبادَهُ إلى مكارِمِ الأخلاقِ، وحذَّرهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ والرِّيَاءِ والنِّفَاقِ، أمَرَهُمْ بالأخلاقِ النَّبِيلَةِ، وَحَذّرهُمْ من آفاتِ اللسانِ الذَّمِيمَةِ، وحَرَّمَ عليهم الكذبَ والغِيبَةَ والنَّمِيمَةَ، وأعْلَمَهُمْ أنَّهُمْ بَيْنَ يديهِ مَوْقُوفُونَ، وعلى جميعِ أعْمَالِهِمْ مُحَاسَبُونَ، وبِمَا لَفَظَتْهُ ألسِنَتُهُمْ مُؤَاخَذُونَ، قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} القمر: [52-53].
عِبَادَ اللهِ: جَاءَ في السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أخبرني بعمَلٍ يُدخِلُني الجنَّةَ ويباعِدُني من النَّارِ، فقالَ ﷺ :(لقد سألتَني عَن عظيمٍ، وإنَّهُ ليسيرٌ على من يسَّرَهُ اللَّهُ علَيهِ) ثم أخذَ النبي ﷺ بلِسانِهِ فقالَ : كُفَّ عليكَ هذا، قال معاذٌ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ ﷺ: (ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم) أخرجه الترمذي (2616) وابن ماجه (3224) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2616).
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ الغيبةَ والنميمةَ دَاءٌ عضالٌ، يُقوِّضُ البنيانَ، ويُمزِّقُ أواصرَ المحبَّةِ، يُوغِرُ الصُّدُورَ، ويَشْحَنُ النُّفُوسَ، ويُفسِدُ المودَّةَ، ويَنْشُرُ الضَّغينةَ، ويُوَلِّدُ الأَحْقَادَ ويُفَرِّقُ الشَّمْلَ، وهي علامَةٌ على فسادِ القلبِ، وضعفِ الدِّينِ، وقِلَّةِ الوَرَعِ، حَذّرَ منها الخالقُ عزّ وجلّ بقوله:{وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}الحجرات:[12]، وإيرادُ هذا التشبيه ممّا يزيدُ النَّهْيَ شِدَّةً وتَغْلِيظًا؛ لأنّ أَكْلَ لَحْمِ الميتةِ تَأْبَاهُ الْفِطَرُ القَوِيمة، وتَأْنَفهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَة.
عِبَادَ اللهِ: والغِيبَةُ تكونُ بالقولِ والفِعْلِ والوصفِ والإشارَةِ والرَّمْزِ، والتَّعْرِيضِ والتَّلْمِيحِ، وكلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ انتقاصُ الغَيْرِ، وتكونُ باليدِ واللِّسَانِ والعينِ والإِصْبَع، غَمْزًا وَهَمْزًا وَلَمْزًا، قالَ تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}الهمزة:[ 1]. وقال ﷺ: (المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ) أخرجه البخاري (10) ومن صورِ الغيبةِ باليدِ: كتابةُ رسالة فيها انتقاصٌ لمسلِمٍ، أو نقلُ خبرٍ دون تـأكّدٍ، أو تمريرُ مقطعٍ دونَ تَرَوٍّ وتَثَبُّتٍ بِضَغْطَةِ زِرٍّ، وَلَمْسَةِ إِصْبَعٍ، فتبلغُ الآفاقَ، وتَصِلُ لجميعِ الأعراقِ، فَيَحْتَدِمُ خَطَرُهَا ويَتَضَاعَفُ وِزْرُهَا وَيَسْتَحِيلُ اسْترْدَادُهَا لتكونَ وَبَالًا على صَاحِبِهَا في الدُّنْيَا والآَخِرَةِ.
أيُّهَا المؤمنونَ: ولبيانِ أَثَرِ الغِيبَةِ على الفردِ والمجتمعِ، أَسُوقُ تَشْبِيهَ النَّبِيِّ ﷺ في الحديثِ الذي رَوَتْهُ عائشةُ رضي الله عنها أنَّها قَالَتْ: (قلتُ للنبيِّ ﷺ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كذا وكذا -تعني أنها قصيرةٌ – فقالَ النبيُّ ﷺ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجتْ بماءِ الْبَحْرِ لَمَزَجتْه) أخرجه أبو داود (٤٨٧٥)، والترمذي (٢٥٠٢) وصححه الألباني في غاية المرام (427).
عِبَادَ اللهِ: وقد فشَا هذا الداءُ العضال في مجالسِ الناسِ وتجمعاتهِم وأسْوَاقِهِم، فَكَمْ هُتِكَتْ من أَسْتَارٍ، وفَشَتْ من أسْرَارٍ، ولُفِّقَتْ من أخْبَارٍ، ومِثْلُ هذه المجالسِ هي مَرْعَى اللِّئَام، ومَأْوَى أَكَلَةِ الجِيَفِ الحرامِ، يَشْترِكُ فيهَا القَائِلُ والسَّامِعُ بَلْ والسَّاكِتُ.
وهي مجالِسُ شَرٍّ وَوَبَاءٍ، وفِتْنَةٍ وَبَلاءٍ، تُلاكُ فيهَا لُحُومُ المؤمنينَ، وتُنْتَهَكُ فِيهَا أَعْرَاضُ الغَائِبِينَ، فِيهَا تَتَبُّعٌ للعورَاتِ، وارْتِكَابٌ للمُحَرَّمَاتِ، ومَعَ تطَوُّر وسائلِ التَّواصل الاجتماعي أصبحت هذه المجالس أكثرُ خَطَرًا وأَوْسَعُ نِطَاقًا، وَأَكْبرُ انتشارًا.
والْوَاجِبُ على المسلمِ تجاهَ هذِهِ المجالِسِ، وأمام هذه المقالات والمقاطع، الإنكارُ على أصحابِهَا، ونُصْحُهُمْ، وتَذْكِيرُهُمْ باللهِ عزَّ وجلَّ، وردُّ غيبةِ أخِيهِ المسلم، وتوجِيهُهُم للتحلُّلِ منه، وإماتةِ هذه المقالةِ بحذْفِهَا وعدم نَقْلِهَا، فإنْ أَبَوْا إلا الغِيبَةَ فليَتْرُكْ مَجْلِسَهُمْ، ويُنْكِرُ جِلْسَتَهُمْ، ويَدْعُوا لَهُمْ بالهِدَايَةِ.
أَعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 76].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ له على فضلهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، تعظيمًا لشأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واعلمُوا أنّ الغِِيبَةَ يَتَضَاعَفُ خَطَرُهَا إذَا تَضَاعَفَ أَثَرُهَا بحسب حالِ مَن وَقَعَتْ عليهِ، فغِيبَةُ أهلِ العِلْمِ ليست كغِيبَةِ غيرِهِم، فلحُومُهُمْ مَسْمُومَةٌ، وسُنَّةُ اللهِ في هَتْكِ أستارِ مُنْتَقِصِيهِمْ مَعْلُومَةٌ، وتَنَاوُلُ أعراضِهِم مَرْتَعٌ وَخِيمٌ والافتراءُ عليهِم خُلُقٌ ذَمِيمٌ، يترتبُ عليهِ إِسْقَاطُ هَيْبَتِهِمْ في النُّفُوسِ، وَإِضْعَافُ مَكَانَتِهِمْ في القُلُوبِ، وضَيَاعُ إِرْثِ النُّبُوَّةِ ، وَغِيابُ دَوْرِهِم العِلْمِيّ والتّرْبَوِي، فَإِذا غَابَ دَوْرُ الْعَالِمِ، عَمَّ الجهلُ، واسْتَشْرَى المرضُ، وَضُيِّعَت الأمانةُ.
وغِيبَةُ ولاةِ الأمرِ، أَدْهَى وَأَمَرُّ، وَأَخْطَرُ وَأَشَرُّ؛ لِمَا لَها مِنْ أَثَرٍ فِي شَقِّ الصَّفِّ، وانْتِقَاصِ الْقَدْرِ، وزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ، وتَأْلِيبِ النُّفُوسِ، واضْطِرَابِ الأُمُورِ، وما يجُرُّ إليهِ ذلكَ مِنْ إِضْعَافِ أَمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ فِي النُّفُوسِ، ومِنْ ثَمَّ تَسُودُ الْفَوْضَى، وَتَعُمُّ الْبَلْوَى وَتَقَعُ الْفِتَنُ، وتَحْتَدِمُ المِحَنُ، ولا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ.
أَسْأَلُ اللهَ عزّ وجلّ أَنْ يَحْفَظَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الغِيبَةِ، وَيُطَهِّرَ مَجَالِسَنَا مِنَ النَّمِيمَةِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عامَّةً لِلْحُكْمِ بكتابِكَ، والعملِ بسنَّةِ نبيِّكَ، ووفِّق ولاة أمرِنَا خَاصَّةً لمَا فِيهِ خَيْرُ البِلَادِ والْعِِبَادِ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ ومكروهٍٍ، وَأَعِنْهُمْ عَلى أُمُورِ دِينِهِم وَدُنْيَاهُم، وارْزُقْهُم البِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ التي تَدُلُّهُم عَلى الْخَيْرِ وَتُعِينُهُم عَلَيْهِ، واجْزِهِمْ عمَّا يُقَدِّمُونَ للإسلامِ والمسلمينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ.
اللهمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ المُرَابِطِينَ على الثُّغُورِ، الَّذِينَ يُدَافِعُونَ عَن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ، اللهم احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمِ ومِنْ خَلْفِهِمِ، وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللهمَّ ارْحَمْ هَذا الجمعَ مِن المؤمنينَ، اللهمَّ اسْتُر عوراتِهِمْ، وآمِنْ روعاتِهِمْ وارفَعْ درجاتِهِمْ في الجنَّاتِ، واغفرْ لَهُم ولآبَائِهِمْ وأمَّهَاتِهِم، وأَصْلِحْ نيَّاتِهِمْ وذريَّاتِهِم واجمعنَا وإيَّاهُم ووالدِينَا وأزواجَنا وذريَّاتِنَا ومَنْ لَهُ حقٌّ علينَا في جنَّاتِ النعيمِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جَلَّ مِن قَائِلٍ عَلِيمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 1444/6/27هـ