ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل – خطبة الجمعة 6-11-1444هـ

الجمعة 6 ذو القعدة 1444هـ 26-5-2023م

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدين، أمَّــا بَعْـدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَرَاقِبُوهُ، وَاعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلَاقُوهُ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} البقرة: [281].

أيُّهَا المُؤمنونَ: جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الإِسْلَامِيَّةُ بِصِيَانَةِ الْمَالِ وَحِفْظِهِ بِاعْتِبَارِهِ إِحْدَى الضَّرُورَاتِ الْخَمْسِ، وَمُقَوِّمٌ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْحَيَاةِ، فَحَرمَتْ الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ بِأَيِّ وَجْهٍ، وجَعَلَتْ تَحُرُّكه وانْتِقَاله بينَ النَّاسِ مَرْهُونًا بِالْحَقِّ والْعَدْلِ وطِيبِ النَّفْسِ، فَلا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ فَلَا غِشَّ ولَا اسْتِغْلَالَ ولَا ظُلْمَ وَلَا إِجْبَارَ ولَا تَدْلِيسَ ولَا رِشْوَة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} النساء:[29] وهذه الآيَةُ أَصْلٌ في الْمُعَامَلَاتِ وأَسَاسٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّهَا لَمُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).

عِبَادَ اللهِ: ونُصُوصُ الْوَحْيَيْنِ زَاخِرَةٌ بِالْأَمْرِ بِحِفْظِ الْمَالِ، وتَحْرِيمِ أَكْلِهِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ ﷺ: (كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ) أخرجه البخاري (٦٠٦٤) ومسلم (٢٥٦٤) وقالَ ﷺ لِجَابِرٍ بنِ عبدِ اللهِ: (لوْ بعْتَ مِن أخِيكَ ثَمَرًا فأصابَتْهُ جائِحَةٌ، فلا يَحِلُّ لكَ أنْ تَأْخُذَ منه شيئًا، بمَ تَأْخُذُ مالَ أخِيكَ بغيرِ حَقٍّ؟!)أخرجه مسلم (١٥٥٣) حتَّى صَدَعَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي آَخِرِ وَصَايَاهُ لِأُمَّتِهِ يَوْمَ الْنَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِقَوْلِهِ: (فإنّ دِماءَكُمْ وأَمْوالَكُمْ وأَعْراضَكُمْ حَرامٌ علَيْكُم، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا في شَهْرِكُمْ هذا، وسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عن أعْمالِكُمْ) أخرجه البخاري (105) ومسلم (1679).

أيُّهَا المُؤمنونَ: وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَهُ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ، وأَسَالِيب كثيرةٌ مِنْهَا:

أولًا: تَأْخِيرُ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، وهَضْمُ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ، وقَدْ شَرعَ اللهُ الْفَرَائِضَ وتَكَفَّلَ بِقِسْمَتِهَا، وَحَدَّدَ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ، دَلَالَةً عَلى مَكَانَتِهَا وأَهَمِّيَّتِهَا ثُمَّ يَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ، فَيَعْضلُ الْوَرَثَة حَقَّهُمْ، ويَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ، فَتَضِيعُ الْحُقُوقُ، وتَسُوءُ الْعَاقِبَةُ، ورُبَّمَا كَانَ مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ الْوَرَثَةِ فَقِيرٌ يَأْخُذُ مِنَ الزَّكَاةِ، ومِسْكِينٌ يَتَعَفَّفُ عَن السُّؤَالِ، ومَدِينٌ لَا يَجِدُ الْوَفَاءَ، ومَرِيضٌ لَا يَجِدُ الدَّوَاءَ.

واعْلَمُوا أنَّهُ مَا تَأَخَّرَ قَوْمٌ فِي قِسْمَةِ التَّرِكَةِ إلَّا حَلَّتْ بِهِم الْأَزَمات، وتَتَابَعَتْ عَلَيْهِم الْخِلَافَات، وتَوَالَتْ عَلَيْهِم الْمِحَن، وَأَوْرَثَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِم الضَّغِينَةَ.

ثانيًا: ومِنْ صُوَرِ أَكْلِ أَمْوِالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: أَخْذ أَمْوَال النَّاس عَلى سَبِيلِ الْقَرْضِ، أَو الْمُضَارَبَة أو التِّجَارَة وغيرِهَا، ثُمَّ جَحْدهَا بَعْدَ ذَلِكَ والْمُمَاطَلَةُ فِي أَدَائِهَا، قالَ ﷺ: (مَن أخَذَ أمْوالَ النّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدّى اللَّهُ عنْه، ومَن أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللَّهُ) أخرجه البخاري (2387).

ثالثًا: ومِنْ صُوَرِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: التَّعَدِّي عَلى الْمَالِ الْعَامِ والْإِضْرَار بالمُمْتَلَكَات ومَرَافِق الناس، وهُوَ خَطَرٌ كَبِيرٌ، وشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ وهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لأنَّهُ ظُلْمٌ لعمومِ النَّاسِ، وخِيَانَةٌ للهِ ورَسُولِهِ وتَخَوُّضٌ فِي مَالِ المْسُلْمِيِنَ بِغَيْرِ حَقٍّ، قالَ ﷺ: (إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النّارُ يَومَ القِيامَةِ)أخرجه البخاري (3118) والتَّعَدِّي عَلى الْمَالِ الْعَامِ يَشْمَلُ الاسْتِئْثَارَ بِالْمَنَافِعِ، وانْتِزَاعِ الْمِلْكِيَّةِ وإِسَاءَةٍ الاسْتِخْدَامِ، والاخْتِلَاسِ، والتّحَايُلِ على الْأَنْظِمَةِ، والْمُمَاطَلَةِ أو التَّهَرُّبِ مِنْ دَفْعِ الْمُسْتَحَقَّاتِ، والتَّرَبُّحِ مِن الْوَظِيفَةِ، وإضَاعَةِ وقتِ الْعَمَلِ دونَ مَنْفَعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وأَخْذِ الرِّشْوَةِ، وغيرِ ذلكَ.

أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} آل عمران: [161].

أقولُ قَوْلِي هَذا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشُّكْرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألّا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، الدَّاعِي إلَى رضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّ مِنَ صُوَرِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ:

رابعًا: اسْتِحْلَال أَمْوَال الْيَتَامَى، وأَكْلِهَا دُونَ وَجْهِ حَقٍّ، قالَ تعالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} الأنعام: [152] وقَدْ عَدَّ النَّبِيُّ ﷺ أَكْل مَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الْمُوبِقَاتِ، فَقَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ) وَذَكَرَ مِنْهَا: (..وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ) أخرجه البخاري (٢٧٦٦) ومسلم (٨٩).

خَامِسًا: وَمِنْ صُوَرِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: أَكْلُ مَالِ الْأَجِيرِ والمُسْتَخْدَمِ وذَلِكَ بِعَدَمِ إِعْطَاءِ الْعُمَّال والأُجَرَاء حُقُوقَهُم بَعْدَ اسْتِيفَائِهِمْ لِأَعْمَالِهِمْ؛ سَواءٌ كانَ ذلكَ بِجَحْدِ حَقِّ الْأَجِيرِ وإِنْكَارِهِ، أَوْ بِبَخْسِهِ فِي حَقِّه فَلا يُعْطِيه إيَّاهُ كاملًا؛ قالَ اللهُ في الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: (ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ) وذكر منهم: (ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفى منه ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ) أخرجه البخاري (2227).

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: اعْلَمُوا أنَّ هَذَا الْمَالَ حَلَالُهُ حِسَابٌ، وحَرَامُهُ عِقَابٌ، واحْذَرُوا التَّسَاهُلَ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، واحْذَرُوا مَغَبَّةَ أَكْلِ الْحَرَامِ.

اللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، واغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، وَارْزُقْنَا حَلَالًا طَيِّبًا، وَقَنِّعْنَا بِمَا رَزَقْتَنَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا لكلِّ خيْرٍ، واصْرِفْ عنهُم كُلَّ شَرٍّ، واجْعَلْهُمْ ذُخْرًا للإسلامِ والمسلمينَ، واجْعَلْهُمْ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ، وَحَرْبًا عَلى أَعْدَائِكَ وارْزُقْهُم البِطَانَةَ النَّاصِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ رجالَ الأمنِ، والمُرَابِطِينَ على الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أيمانِهِمْ وعنْ شمائِلِهِمْ ومِنْ فَوْقِهِمْ، ونعوذُ بعظَمَتِكَ أنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وجيرانَنَا، ومَنْ لهُ حقٌّ علينَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجمعة 1444/10/15هـ