خطبة بعنوان:(الحج دروس وعِبر) بتاريخ 18-12-1428هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، المتعال عن الشبيه والمثيل، العظيم في جبروته، الحكيم في تدبيره، القائل في كتابه الكريم:[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ](البقرة).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له دعا عباده إلى حج بيته العظيم فلبوا ندائه، وأطاعوا أمره محبة له وشوقاً للقائه، فجاد عليهم بالثواب الجزيل، والعطاء الواسع العميم.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي حج بيت الله تعالى فأدى المناسك انقياداً لأمر ربه، وشكراً له على نعمه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي الوصية الجامعة لكل خير، قال تعالى:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ](آل عمران).
عباد الله: لقد أكرم الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأزمنة فاضلة شرع فيها عبادات جليلة متنوعة، من أتى بها كما أُمِر نال خيري الدنيا والآخرة، ومن فضل الله علينا وعلى المسلمين أن أكرمنا بأداء فريضة الحج في هذا العام بيسر وسهولة، وتوفيق وتسديد، وإعانة وتوجيه، فله الحمد على فضله وكرمه وعلى عطائه ومنِّه.
عباد الله: إن الحج فريضة عظيمة لبى نداءها المسلمون تلبية لأمر ربهم، وانقياداً لسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، وابتغاء المغفرة من ذنوبهم، ونيل جنة ربهم، لذلك فإن الحج لنا فيه دروس وعبر كثيرة نذكر بعضاً منها لنعتبر بهذا الموسم العظيم، ومن ذلك:
بيان مظاهر العظمة لله تعالى، فتجد الحجيج قد تركوا أوطانهم، وأموالهم، وأهليهم وذويهم، وخرجوا متجردين من ثيابهم، لابسين إحرامهم، حاسرين عن رؤوسهم، متواضعين لربهم، متذللين إلى خالقهم، راغبين راهبين إلى مولاهم.
وعند مواقيت الإحرام تجد أشكالهم قد تغيرت وتبدلت، ومظاهر الترف والاختلاف قد اختفت، فقد خلع الجميع لباس العجب، والكبر، والغرور، ولبسوا ثياباً واحدة، فلا فرق بين غني ولا فقير، ولا قوي ولا ضعيف، ولا عربي ولا عجمي، ولا رئيس ولا مرؤوس، فالكل سواسية متواضعين لربهم، متذللين لخالقهم، مبتغين فضل ربهم.
فالكل بلباس واحد، ونداء واحد، وتلبية واحدة، ووجهتهم واحدة، وقبلتهم واحدة، وربهم واحد، وغايتهم واحدة، ونسكهم واحد.
وهذا فيه دليل على عظمة الله تعالى وقدرته وحكمته.
وفي الحج ينادى بنداء التوحيد لله رب العالمين: فبعد إحرام الحجاج تجد نداء الحق قد علا في جنبات الميقات، وعند السير بالسيارات والحافلات، فلا تمر بجوار أحد وأنت في طريقك إلى مكة إلا سمعت نداء التوحيد، نداء الذل والخضوع، والإنابة والخشوع، والانقياد لرب الأرض والسماوات، تسمع منهم النداء العظيم الذي تقشعر له الأبدان من عظمته (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
فتجد الدموع قد انهمرت، والقلوب قد اشتاقت، والأجساد قد انقادت، فتجد الشوق حليف الحجاج، والمحبة قائدهم، والإخلاص سائقهم لأداء هذه الشعائر العظيمة.
وهذا مصداق قول الله تعالى:[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ].
وفي الحج تظهر معالم الوحدة بين المسلمين: فيتوجهون جميعاً إلى بيت الله تعالى لأداء طواف القدوم، والسعي بين الصفا والمروة، شعارهم (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) ثم ينتقلون إلى عرفات للوقوف به، ثم إلى مزدلفة، ثم إلى منى ليرموا جمرة العقبة، ثم يذبحوا الهدي ويحلقوا رؤوسهم ويقصرون، ثم يتوجهوا إلى بيت الله تعالى ليؤدوا طواف الإفاضة، ثم يرجعوا إلة منى ليرموا الجمرات أيام الحادي عشر والثاني عشر لمن أراد التعجل، والثالث عشر لمن أراد التأخر، ثم يتوجهوا إلى بيت الله الحرام ليؤدوا طواف الوداع، منهين نسكهم، ملبين نداء ربهم، متبعين سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فتجدهم أمة واحدة مجتمعة، مترابطين، متعاونين على الطاعة والخير، الجميع سواسية كأسنان المشط، وهذا مصداق قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ].
وفي الحج يظهر للناس صورة يوم الحشر الأصغر: فيتذكر الناس موقف الحشر بين يدي خالقهم [يوم يقوم الناس لرب العالمين]، فترى القلوب وجلة، والأبصار خاشعة، فلا ماء، ولا غذاء، ولا ظل ولا غطاء، ولا ناصر ولا معين، والناس بين ماشين وراكبين في أفواج كثيرة كموج البحر، يقفون جميعاً ويمشون جميعاً، ويلبون جميعاً، فإذا كان الحجاج في أيام الحج يجدون ظلاً يستظلون تحته فيوم الحشر لا ظل إلا ظل الله، وإذا كان الحجاج يجدون الطعام والشراب والدواء والعناية، فيوم الحشر لا شيء من ذلك إلا من أراد الله له النجاة والإكرام.
فيوم الحج يوم يذكر بيوم الحشر، [يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه، يوم يعرض الخلائق على رب العالمين لا تخفى منهم خافية، [يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم].
فمتى تذكر الحاج ذلك اليوم لم يظلم أحداً، ولم يعتدي على أحد، ولم يسفك دم أحد، ولم يأكل مال أحد، ولم يرتكب فاحشة ولا إثماً، ولم يغش منكراً، ولم يضيع معروفاً.
وفي الحج غذاء روحي كبير تمتلىء فيه جُنبات المسلم خشية وتقى لله عز وجل، وعزماً صادقاً على طاعته، وندماً وبُعداً عن معصيته، وتنمو وتترعرع فيه عاطفة الحب لله ولرسوله وللمؤمنين الصادقين، وتزداد فيه الخشية لرب العالمين.
فلا يكون في قلب مسلم مكاناً لأحد سوى الله، ولا انقياداً إلا لأوامر الله، فيستشعر المسلم ضعفه وحاجته إلى فضل ربه فيبادر إلى طلب المغفرة والعفو من الله، فتتغير نفسه من الأسوأ إلى الأحسن، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، فتتبدل حياته إلى خير، ملبياً نداء ربه بقوله [إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ].
وفي الحج تتلاقى مشاعر المودة والمحبة والإخاء بين المؤمنين المخلصين، وتتحقق الأخوة الإسلامية، فيتعلم الحاج الصفات الكريمة من الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، فيكرم إخوانه، ويبذل لهم الخير والبر، ويؤثرهم على نفسه بقدر استطاعته، ويرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم.
ويتعلم فيه أيضاً الأخلاق الحميدة من الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ، ومحبة الخير للمسلمين، ومعاونة المحتاجين، فيحلم على الجاهل، ويصبر على أذى الناس، ويداري أصحاب القلوب الغافلة بالنصح والتوجيه، ويكظم غيظه عن المعتدين الظالمين، ويحب الخير لمن حوله من المسلمين، ويعاون إخوانه المحتاجين.
وفي الحج يستفيد الحاج من وقته فيما يعود عليه بالخير؛ فإذا سمع قول الله تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ] حرص على ذكر الله تعالى وشكره على نعمه، وتلذذ بتسبيحه، وتكبيره، وتحميده، وتهليله، ودعائه، وتلاوة كتابه، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بقدر استطاعته، مجتهداً في نصح إخوانه.
وفي الحج تظهر عبودية المراقبة لله تعالى فتجد المسلم لا يقصر في طواف ولا سعي، ولا يترك ركنا ولا واجب، ولا يأتي محظوراً من محظورات الإحرام عالماً متعمداً لأنه يخشى أن يفسد حجه، ولعلمه بأن الله مطلع عليه ومجازيه عن تقصيره وتفريطه، فيجتهد في إقامة المناسك على الوجه الكامل، ويحرص على عدم التفريط في أي شيء منها، واضعاً أمامه قوله تعالى [وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] (الحج).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل لأمة الإسلام أزمنة فاضلة يتنافس فيها الأخيار ويبادر لها عباد الله الأطهار، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله خير من بادر لاستغلال وقته فيما يعود عليه بالخير له ولأمته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته إلى يوم الدين،
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: فالتقوى مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر.
عباد الله: لقد مرت أيام الحج بفضل الله ميسرة سهلة، ليس فيها شائبة ولا حزن، وأدى الحجاج مناسكهم آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وأهليهم، والكل فرح مسرور لما رأوه من تيسير وتعاون من أبناء هذا البلد.
ولقد رأينا ورأى غيرنا شبابنا في كل مكان من مناسك الحج، تعلوهم البسمة، وتفوح منهم روح التعاون، فالكل يداً واحداً، وأسرة واحدة، والجميع يريدون الخير لزائري بيت الله تعالى.
وقد سمعنا ألسنة الحجاج وهي تدعو لولاة أمورنا وشبابنا على هذا الجهد العظيم والتنظيم الرائع، وما كان ذلك إلا بفضل الله تعالى أولاً وآخراً، ثم بفضل ولاة أمور هذه البلاد المباركة عن طريق الخدمات التي قدمت لهم في كل منسك من مناسك الحج، وذلك بتوسيع مرمى الجمرات، وبناء أدوار جديدة من أجل التيسير على الحجاج، والقيام بتنظيم حركة الحجاج عند الدخول إلى الجمرات والخروج منها، وأيضاً تنظيم عملية تحرك الحجاج من مكة إلى عرفات ومن عرفات إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى، وهكذا في سائر المناسك في تخطيط وتنظيم رائع بديع يدل على المجهود الكبير الذي بذل من أجل خدمة حجاج بيت الله الحرام، ومن أجل راحتهم، ومن أجل أدائهم مناسك الحج بيسر وسهولة.
ولقد ظهر للقاصي والداني الأمن والأمان اللذان اتصف بهما الحج في هذا العام وهذا يدل على عون الله تعالى ويقظة رجال الأمن ومن قبلهم ولاة أمورنا الذين لم يألوا جهداً في بذل الجهد من أجل إنجاح حج هذا العام.
فهنيئاً لهذه البلاد هذا التنظيم الرائع، وهذا التوفيق الكبير، ومزيداً من جهود الخير التي تيسر سبل الطاعة وتخففها على الناس.
وإننا لنرجو الله تعالى أن يكتب لولاة أمورنا ومن ساهم معهم من المسئولين كبيرهم وصغيرهم الأجر في هذا العمل الجليل شريطة حسن النية والمقصد.
عباد الله:
وإن مما أثلج صدورنا واطمأنت له قلوبنا ما تم الإعلان عنه من قبل وزارة الداخلية بالقبض على ثمانية وعشرين من الفئة الضالة والتي أرادات زعزة أمن هذه البلاد، وإدخال الخوف والرعب على حجاج بيت الله تعالى.
وما تم ذلك إلا بتوفيق الله تعالى، ثم يقظة رجال الأمن ومن عاونهم في كشف ستر هذه الفئة.
نسأل الله تعالى أن يتقبل من حجاج بيته حجهم، وأن يكتب لهم المثوبة والأجر، وأن يرد حجاج بيته إلى ديارهم سالمين، ونسأله سبحانه أن يبارك في الجهود، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمورنا وعلمائنا وسائر إخواننا المسلمين من شر الأشرار وكيد الفجار، وأن يجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهم عليك بمن يكيد بالإسلام والمسلمين،
اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم أسق به البلاد والعباد واجعله زاداً للحاضر والباد.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب) 18-12-1428هـ