خطبة بعنوان: (حقوق الجار) بتاريخ 11-8-1431هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر بالإحسان إلى الجار القريب وغيره، وأشهد ألا إله إلا الله قرن عبادته بالإحسان إلى الجار تعظيماً لحقوقه، وتذكيراً بواجباته، وحثاً على القيام بها على خير وجه، فقال تعالى: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً](النساء الآية 36)، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله عظَّم حق الجار وكرر الوصية به حتى كاد يورثه من جاره، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون وتزودوا من دنياكم لأخراكم وأكثروا من العمل الصالح الذي تجدونه في صحائف حسناتكم وأحسنوا إلى جيرانكم فذلك من خير أعمالكم الصالحة.
عباد الله الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع متماسك، قوي البناء، سدَّاه الأخوة والمحبة، ولحمته التكافل والمودة، وشعاره التراحم والتكاتف، يشعر بعضه بشعور بعض، يتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)(متفق عليه)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعاطفهم مِثْلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)(رواه مسلم).
وتحقيقاً لهذا الأمر النبيل أمر الإسلام بالإحسان إلى الجار، ورعاية حقه، وكف الأذى عنه، ويكفي أن الجار الصالح من أسباب السعادة كما قال صلى الله عليه وسلم: (مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ( (رواه أحمد).
لقد كان العرب في الجاهلية يحمون الذمار، ويتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار، ولما جاء الإسلام حث على هذا الخلق، ورباه في نفوس أتباعه، وجعله أحد دعائم بناء المجتمع، ومن لم يتعلم البر والإحسان مع الأسرة الصغيرة من أهله وذريته وأقاربه فلن يفعل ذلك مع الأسرة الكبيرة من إخوانه المسلمين، ومتى عُمرت الأسرة الصغيرة بمشاعر البر والصلة والإحسان فإنها تتسع بإذن الله للأسرة الكبيرة، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)(رواه الترمذي).
فمن لم يكن فيه خير لأهله فلا خير فيه لغيرهم، ومن لم يمنح أهله الفضل والمعروف والإحسان فلن يكون منه ذلك لمن حوله من غيرهم.
عباد الله لقد اختلف أهل العلم في حد الجار الذي يجب على المسلم بره وصلته فقيل هو من سمع النداء، وقيل من صلى معك صلاة الصبح في المسجد، وقيل حده أربعون داراً من كل جانب.
الجار هو رفيق الدرب، وقرين المسكن، هو محط العناية ومصدر الرعاية، هو الذي يعزى في المصيبة ويؤنس في الوحشة، هو السند المعين والناصح الأمين، هو الساتر للعورة الحافظ للغيبة، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والقدوة في الخير، إن رأى خيراً من جاره أشاعه، وإن رأى غيره ستره واعتذر لجاره، فلله كم هو عزيز اليوم ولاسيما مع ملهيات الحياة وشواغلها.
قال ابن حجر رحمه الله: (واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد).
أيها المؤمنون لقد جاءت النصوص الكثيرة تحث على القيام بحق الجار، ورعاية مكانته، وتأمر بالإحسان إليه، وكف الأذى عنه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في المشكاة)
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)(متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)(رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا)(رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني في الصحيحة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ)(رواه مسلم).
إن حق الجار عظيم ويشمل أموراً عظيمة وكبيرة ومن أهمها وأولاها:
الإحسان إليه بتقديم ما يحب من قول وفعل، وتقديم العون له عند الحاجة، ومن حقه أن تكون له أميناً ولسره حافظاً وعن عرضه ذاباً.
وأن تكون متودداً إليه حريصاً على مصالحه وأسرته كما تكون حريصاً على مصالح نفسك وأسرتك، تقابله ببشاشة، وتسأل عنه، وتتفقد أحواله، تسر لسروره، وتحزن إذا أصابه شيء من أمور الدنيا، لا تسأله عما لا يرغب، ومن أعظم حقوقه النصح له وبذل الخير، ودلالته على العمل الصالح، وتحذيره من المنكر بأدب كبير وأسلوب مناسب لأن كل جار سيتعلق بجاره يوم القيامة.
عباد الله لقد أهمل كثير من الناس حق الجار بسبب ما حصل من الانفتاح وكثرة الشواغل والصوارف حتى أصبح البعض لا يعرف عن جاره شيئاً، بل لو سألته عن اسمه لم يعرف، ولله در الإمام أبي حنيفة فقد روي أنه كان له جار بالكوفة يغني ويطيل الغناء بالليل وأبو حنيفة يضجر من غنائه وهو يشرح لتلاميذه ويملي عليهم، وفي ليلة من الليالي قبض الشرطة على هذا الرجل لإزعاجه الناس وقادوه إلى السجن فلم يسمع أبو حنيفة صوته في الليلة الثانية فسأل عنه فأخبروه، فلبس ثيابه ودخل على أمير الكوفة وقال له إن لي جاراً أخذه الشرطة البارحة ولا أعلم عنه إلا خيراً فأمر الأمير بإطلاق سراح كل من أخذه الشرطة ليلة البارحة إكراماً لأبي حنيفة، فقال هذا الجار لأبي حنيفة اجتهدت في إنقاذي وأنا طالما أزعجتك بغنائي فأجابه أبو حنيفة أرجو أن أكون بذلك قد أديت معك حق الجوار، فكان ذلك سبباً لتوبة هذا الرجل.
إنه التعامل الكريم مع هذه النوعية؛ فكم من إنسان بحسن تعامله كان سبباً لهداية جاره ودلالته على الخير، وصدق الله العظيم: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ](النساء الآية 36).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاعلموا أيها المؤمنون أن أذية الجار محرمة في الإسلام وهي تأخذ صوراً عديدة وأشكالاً مختلفة، قال صلى الله عليه وسلم: (وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ)(رواه البخاري).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)(رواه مسلم).
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ)(رواه أحمد، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب).
وجاء رجل يشكو جاره فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم اصبر ثم جاءه في الثانية أو الثالثة فقال له (اطرح متاعك في الطريق، قال فجعل الناس يمرون به يقولون مالك فيقال أذاه جاره، قال فجعلوا يقولون فعل الله به وفعل فجاءه جاره فقال ارجع فلن ترَّ مني شيئاً). ومن يلوم من باع داره بأبخس الأثمان إذا كان له جار ينغص عليه.
عباد الله إن حق الجوار في شرعنا يدور بين الإحسان إليه، وكف الأذى عنه، وعدم الإساءة إليه، ولعلكم تشاهدون حال كثير من الجيران ممن يتساهلون في أذية جيرانهم، ووقوع الخصومات بينهم حول أمور تافهة، وقد تكون بدايتها لعب الأطفال الذي يتحول إلى صراع بين الناس، ثم إلى مشاكل بين الرجال وخصومات، والأولاد يرجعون ويلعبون مع بعضهم، والخصومة قائمة بين الرجال والنساء.
فكم نحن بحاجة إلى أدب الإسلام، وإلى العقل الذي يحجز عن كثير من التصرفات. فأحسنوا إلى جيرانكم، وأدوا ما أوجب الله عليكم من الحقوق، وابذلوا المعروف لهم، وكفوا الأذى عنهم، واقتدوا بنبيكم الذي بلغ القمة في هذا الخلق الكريم قولاً وفعلاً، وإليكم هذه الحادثة، فقد روي أن أحد التابعين كان مجاوراً لسعيد بن العاص وقد نزلت بهذا الجار نازلة من نوازل الدهر ذهبت بكل ما له فاضطر لأن يبيع داره بأرخص الأثمان وقال المشتري إنها لا تساوي إلا خمسين درهماً فقال صاحبها وبكم تشتري جوار سعيد بن العاص فقال المشتري ما رأيت جواراً يباع فمن يكون سعيد بن العاص هذا قال الجار سعيد هو الذي إذا رآك رحب بك وإذا دخلت عليه أوسع لك وإذا حدثته أقبل عليك وإذا ناديته لباك وإذا مرضت عادك حتى تبرأ وإذا غبت سأل عنك حتى يعلم أين أنت وإذا افتقرت أعطاك حتى أغناك فبلغ هذا الكلام سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة دينار وقال له أمسك عليك دارك يا خير جار.
اللهم اغفر لجيراننا، اللهم اغفر لجيراننا، اللهم جازهم عنا خير الجزاء، اللهم وإن طالهم منَّا أذى اللهم فأكرمهم وتفضل عليهم وأوفي حقوقهم يا ذا الجلال والإكرام .
هذا وصلوا وسلموا على من أوصى بالجار كثيرا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولاة أمورنا لكل خير، اللهم وفقهم لما تحب وترضى.
اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات، اللهم استر عوراتهم، وآمن روعاتهم، وأصلح نياتهم وذرياتهم، وأغفر لهم ولجيرانهم يا ذا الجلال والإكرام.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النحل الآية 90). وأقم الصلاة…
الجمعة: 11-8-1431هـ