خطبة بعنوان: (منهج الرسول في التعامل مع الأطفال -3-) بتاريخ 8/ 7 /1432هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم المنان الذي امتن علينا بنعمة الإسلام والإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).
عباد الله: إن الأطفال هم عماد الأمة وقوتها في المستقبل بإذن الله تعالى، وقد تكلمنا في جمعتين ماضيتين عن منهج النبي في التعامل مع الأطفال وبينا بعض الأسس والتوجيهات الهامة في ذلك، ونكمل حديثنا اليوم بذكر بعض الأسس الأخرى التي وجه النبي صلى الله عليه وسلم بها الوالدين عند القيام بذلك، ومن هذه الأسس:
1ـ تلقين كلمة التوحيد للطفل عند بداية نطقه: قال صلى الله عليه وسلم: (افْتَحُوا عَلَى صِبْيَانِكُمْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ بِلا إِلَهَ إِلا اللهُ)(رواه الحاكم).
2ـ غرس محبة الله تعالى في قلوب الأطفال، وخشيته، ومراقبته، والإيمان بقضائه وقدره: كما جاء في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما عندما قال له: (يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ…)(رواه الترمذي). فإذا ما حفظ الطفل هذا الحديث، وفهمه، وعقله، وتمكن من قلبه وعقْله، لم تقف أمامه عثرة، ولم يعقه شيء في مسيرة حياته.
3ـ ترسيخ حب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته وأصحابه في قلب الطفل: لأنه القدوة الثابتة
الراسخة التي لا تتبدل، وهو أفضل رسل الله، وأكمل البشر على الإطلاق، روى أنس رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ(رواه البخاري ومسلم).
4ـ تعليم الطفل القرآن الكريم والسنة النبوية: عن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)(رواه البخاري). وعن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِىُّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ)(رواه مسلم). وعلى الوالدين أن يغرسا فهم القرآن في أذهان أولادهم، وأن يوجهوهم إلى تنفيذ أوامره شيئاً فشيئاً حتى يتربوا التربية الصحيحة، وهكذا تعليمهم السنة، كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ..)(رواه الترمذي).
5ـ تربية الأطفال على العقيدة الصحيحة والتضحية من أجلها: وذلك عن طريق غرس حب العلم الشرعي وآدابه في قلبه وعقله، قال صلى الله عليه وسلم (… وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)(رواه مسلم).
6ـ وعلى الوالدين تنشئة الأولاد على إخلاص النية لله تعالى عند طلبهم للعلم، لأنها الركن الهام الذي يعطي للعلم رائحة زكية تفوح حتى قيام الساعة،
وتضفي على العلم جمالاً ينشره الله تعالى بين الخلائق.
7ـ اختيار المعلم الصالح: لقد اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بمجالس النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان بالنسبة لهم هو المعلم، والمربي، والموجه، ليسمعوا كلام الله من فمه الطاهر، وليتعلموا من معين كلامه وأخلاقه، وكم هي تلك الأحاديث التي حفظها صغار الصحابة، ونقلوها لمن تبعهم، حتى وصلت إلينا غضة طرية. وعلى ذلك فلا بد من البحث عن المعلم الصالح، المتمكن من علمه، المطبق لما حمله من أخلاق وآداب، واجتناب أدعياء العلم وأنصافه.
8ـ إتقان الطفل اللغة العربية: فقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمها، واهتم بنشوء الأطفال وقد أتقنوها، ومن شدة اهتمامه بها يقبل فداء أسارى بدر بتعليم كتابتها وقراءتها لأطفال المسلمين، فكان كل أسير يفدي نفسه بتعليم عشرة من صبيان الصحابة اللغة العربية وإتقانها.
9ـ توجيه الطفل وفق ميوله العلمية: إن توجيه الطفل لما يميل إليه لهو الحافز الجاد على تفوقه، وهذا يعتمد على محبته لهذا الشيء وميله له، والتوجيه لابد أن ينظر فيه لما فيه مصلحة تعود عليه، فالطفل إذا أحب شيئاً مال إليه، وتعلق به، وبذل جهده لتحصيله، ويكون ذلك في حدود الشرع. وهذا ما فعله زيد بن ثابت عندما تعلم اللغة السريانية رغبة فيها، وتنفيذاً لرغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعلمها.
10ـ إيجاد المكتبة المنزلية الصالحة: على الوالدين أن يجعلا في بيتهما المكتبة التي تحتوي على ما ينفع أولادهما.
11ـ الحرص على حضورهم مجالس العلم والتلقي عن العلماء: كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على إحضار أطفالهم معهم في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ينهلون منه، ويتربون على يديه، ويأخذون من فيه، ويتعلمون منه الأخلاق، ويستقون من نور نبوته حتى ترعرعوا ونشأوا على المنهج الصافي الصحيح، وساروا على هذا النهج حتى كبروا وبلَّغوا دين الله كما أنزل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(الطور:21). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه، وبعد:
عباد الله: إن العناية بنفسية الطفل بناءً وتهذيباً سيعين الطفل على توازن مزاجه، وزيادة بذله وعطائه، ولن يتم ذلك إلا بربطه بالعقيدة الصحيحة، والعبادة المتوازنة، ومعرفة الحلال والحرام. قَالَ صلى الله عليه وسلم (مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)(رواه أبو داود). فهذا الحديث وغيره يبين أهمية تدريب الطفل على العبادة منذ مراحل طفولته الأولى حتى يشب ويصبح رجلاً صالحاً في نفسه ولمن حوله، ولابد من تدريبه وتعليمه تلك العبادات حسب ما يعرض له، فيبدأ معه بالطهارة، ثم الصلاة وأوقاتها، وكيفيتها، وشروطها، وأركانها، وواجباتها، وسننها، وآدابها، وأهميتها في حياة المسلم، وكذلك تدريبه على الصوم سواء كان ذلك الصوم نافلة أو فريضة، وكذلك الزكاة، والحج، وسائر العبادات الأخرى، مرحلة من بعد مرحلة ليتعود عليها، ولكي يكون مرتبطاً دائماً بخالقه ومولاه، ولابد أيضاً من تعليق قلبه بمالك الكون، ومدبر الأمور والأحوال، وتربيته على حسن الظن به، وبقوة التوكل عليه. ولاشك أن الطفولة هي مرحلة الإعداد والتدريب والتعويد؛ فإذا رُبِّي التربية الصحيحة، خرج نافعاً لنفسه ولغيره، وإن أهملت تربيته خسر نفسه، وعاد ذلك على مجتمعه بالسوء
والعياذ بالله.
عباد الله: إن بناء عاطفة الطفل منذ الصغر، وتأدية حقه النفسي، وربط عاطفته بوالديه وبمن حوله يحتاج إلى جهد عظيم، وتوفيق من الله شديد، وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التعامل مع هؤلاء الأطفال في مرحلة طفولتهم لكي نسير عليها، ونتخذها منسكاً نهتدي به في حياتنا، ومن ذلك: استعمال القبلة، والرأفة، والرحمة، والمداعبة والممازحة، وإعطاءهم الهدايا والعطايا. وأيضاً الرعاية الخاصة بالبنت واليتيم: فعن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الأُولَى ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّىْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا ــ قَالَ ــ وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّى ــ قَالَ ــ فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أَوْ رِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اللهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ)(رواه مسلم).
عباد الله: لقد حرص الإسلام أيضاً على تنشئة الطفل تنشئة سوية متوازنة، بحيث يتكون تكويناً منسجماً مع طبيعته التي خلقها الله، ومع فطرته التي فطره عليها. والدافع الجنسي خلقه الله تعالى في سائر المخلوقات ليكون سبباً في استمرار الكائنات الحية جميعها، ومن بينها الإنسان.
ولكي يسير هذا الدافع في نفس الطفل بشكل هادئ، بلا تهيجات خارجية تغذِّيه نحو الانحراف عن السلوك القويم، راعى الإسلام هذا الجانب في حياة الطفل، وطالبه بأوامر ونواهي، لكي يتهذب، ويبقى متوازناً طاهراً بلا انحراف، نقياً بلا تلوث، وقد وضع لذلك بعض الأركان والقواعد الضابطة لتهذيبه في سن الطفولة، ليحفظ عليه حيائه، وأخلاقه، ولتبقى فطرته نظيفة طاهرة عفيفة، ومن ذلك: تعليمه الاستئذان عند الدخول على والديه، وخاصة في الأوقات التي حددها الشارع الحكيم: من قبل صلاة الفجر، ووقت الظهيرة عند القيلولة، وبعد صلاة العشاء ــ وتعليمه غض البصر، وحفظ العورة ــ التفريق بين الأطفال في المضاجع ــ تدريبه النوم على شقه الأيمن، وإبعاده عن النوم على بطنه ــ إبعاده عن أماكن الاختلاط والمهيجات الجنسية ــ تعليمه فروض الغسل وسننه ـ التحذير من الوقوع في الفاحشة ــ الزواج المبكر.
عباد الله: وإذا أردنا تصحيح سلوك الطفل دائماً فلابد من تصحيح عقليته ونفسيته كما بيَّنَّا، ويكون ذلك مبنياً على ثلاث مرتكزات: بناء أخلاقه، وبناء جسمه، وبناء اجتماعياته.. وكل من هذه الأمور الثلاثة مرتبط بعضها ببعض، فإذا تربت أخلاقه، وتربى جسده، أوصله ذلك إلى البناء الاجتماعي السليم.
وذلك من خلال تعويده على الأخلاق الكريمة، والصفات الحميدة بالأدب مع الوالدين، والعلماء، والجيران، وتعليمه آداب النوم، والطعام، والشراب، والمجالسة.
وتربيته على الصدق، والأمانة، وكتم الأسرار، وسلامة الصدر، وحسن الوفاء، والحياء، والكرم، والمراقبة لله تعالى وخشيته.
وأيضاً مساعدته في بناء جسمه البناء الجيد، من خلال ممارسته للأنشطة الرياضية المفيدة، كالسباحة، والرماية، وركوب الخيل، وغير ذلك من الألعاب والأنشطة الأخرى التي ليس فيها ضرر مادي أو معنوي على الطفل.
وأيضاً بناؤه البناء الاجتماعي السليم، فيبدأ بمشاركة المجتمع المسلم منذ وقت سن الطفولة، ثم سن المراهقة، ثم يتدرج بعد ذلك من خلال مراحل حياته الباقية.
وكذا تعويد الطفل على قضاء حاجات الوالدين والمنزل، فهذا يساعده على تحمل المسؤوليات، ومخالطة الناس، ومعرفة أحوالهم، فيجعله طفلاً فاعلاً في حياته، وتتولد في نفسه المعرفة، والثقة بالنفس.
تعويد الطفل على اختيار أصدقائه، مع توجيهه التوجيه الصحيح في الاختيار، وتذكيره بفضل الصاحب الطيب، وشؤم الصاحب الخبيث.
تعويد الطفل على البيع والشراء، وممارسة التجارة مع وجود والده، ليستطيع التفاعل مع المجتمع من حوله، ويكسبه ذلك الثقة بالنفس، فيتحول بعد ذلك لإنسان سوي ينفع نفسه، وينفع مجتمعه وأمته..
أسأل الله تعالى أن يصلح أولادنا وأولاد المسلمين، وأن يوفقنا جميعا للأخذ بأيديهم لما فيه صلاحهم في العاجل والآجل.
هذا وصلوا وسلموا على الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتاب والعمل بسنة نبيك وولاة أمرنا خاصة لكل خير، اللهم وفقهم لما فيه خير البلاد والعباد، اللهم اجعلهم رحمة
على شعوبهم.
اللهم ادفع عنا الغلا والوباء والربا والزنا والزلازل والفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة.
اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات اللهم استر عوراتهم وأمن روعاتهم وارفع درجاتهم في الجنات. [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (النحل الآية 90). وأقم الصلاة…
الجمعة: 8/ 7 /1432هـ