خطبة بعنوان: (شرح حديث “الثلاثة نفر الذين آواهم الغار” -1-) بتاريخ 9- 10 -1434هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات: واعلموا أن تقواه هي خير سبيل للنجاة من الشدائد والكربات {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ…}، {..وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}(الطلاق: الآيات 2، 3، 4).
عباد الله: لا ينال المرء السعادة الكاملة، وانشراح الصدر وطيب العيش في هذه الدنيا إلا إذا كان مطيعاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومؤدياً للأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله زلفى، وحياة الصالحين من عباد الله دليل على ذلك فهم أسعد الناس قلوباً، وأكثرهم راحة، وأشدهم انشراحاً وسروراً، لما كانوا عليه من الإخلاص، والصدق، والمتابعة، والطاعة، وعمل الصالحات.
فهم لما صدقوا مع الله صدقهم الله، فلم يضيعهم، ولم يخزهم، ولم يسلمهم إلى ما يعكر صفو حياتهم، بل تولاهم بفضله، وأحاطهم برحمته، وأفاض عليهم من جزيل هباته، فنالوا ولاية الله تعالى وحازوا خيري الدنيا والآخرة.
وإن من سنن الله في خلقه أن جعل المؤمنين في هذه الدنيا هم أكثر الناس عرضة للمحن والابتلاءات، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35)، وقال:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ}(البقرة: 155). وهذه المحن والابتلاءات على الرغم من شدتها وقسوتها إلا أنها تحوي بين جنباتها الخير والرحمة لمن ابتلي بها، يقول صلى الله عليه وسلم:(عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له)(رواه مسلم).
وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يقص علينا قصة من قصص السابقين، حدثت في الزمن الغابر، فيها تربية للنفوس، وإصلاحٌ للقلوب، وتبيَّن لنا أن نجاة المسلم وخلاصه من الكربات والأزمات والمحن بيد علام الغيوب، الذي لا يضيع عباده أبداً مهما أحاطت بهم الضوائق والشدائد.
لقد أصبحوا بعد انطباق الصخرة عليهم في حال أشد من حالهم السابقة حيث كانوا يستطيعون الصبر على المطر والمشي تحت قطراته المتساقطة، أما حالهم بعد انسداد الغار فهي حالة موت محقق، أصبحوا محصورين لا يمكن أن يصلوا إلى أحد، أو يصل إليهم أحد، ليست هناك وسائل للاتصال نهائياً، لا الآثار ولا الصوت، ولا الاتصال، جميع الوسائل مقطوعة.
وهنا علموا أنه لا نجاة لهم إلا بالله الذي يرى مكانهم ويعلم بحالهم ويسمع شكايتهم، فالله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
لقد أصبح هؤلاء الثلاثة في حال كقوم في سفينة لعبت بها الأمواج يمنة ويسرة في يوم عاصف ترفعهم تارة وتخفضهم أخرى وهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً.
بل مثلهم كمثل قوم في طائرة حلقت في السماء وحصل فيها خلل فأخذت تتأرجح بهم في الفضاء بين الصعود والهبوط، ينتظرون الموت في كل لحظة، وقائد الطائرة لا يملك من الأمر شيئاً.
عباد الله: إنها قصة تحكي حال ثلاثة نفر ممن سبقنا، هم أصحاب قلوب مؤمنة بالله، أشخاص لهم رصيد من الأعمال الصالحة؛ أحبوا ربهم، وأطاعوه فيما أمرهم، وبذلوا جهدهم في إرضائه، فابتلوا بقدرٍ من الله، عاشوا لحظاته بين همٍّ وغَمٍّ، وشِدةٍ وكَربٍ، وضِيقٍ وحُزن؛ ولكن كانت قلوبهم متعلقة بالله، متيقنة بأنه لا يكون شيء في هذا الكون إلا بأمره وقدره، فلجئوا إليه، ودعوه بصالح أعمالهم، فلبى دعائهم، واستجاب لهم، وفرج عنهم كربتهم، وكانت تلك كرامة منه تعالى لهم. وفي هذا بيان لأثر العمل الصالح وثماره المباركة التي يجنيها صاحبها، سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة.
روى البخاري ومسلم:(عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “بَيْنَمَا ثَلاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ إِذْ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَآوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ فِي غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَفْرُجُهَا، ….).
عباد الله: في هذا الحديث العظيم بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم توسل هؤلاء النفر الذين آوى بهم الغار، وتعرضوا لمحنة انسداد بابه بعد لجوئهم إليه ليحميهم من المطر الذي قدَّر الله نزوله، ووجدوا أنفسهم أمام محنة لا يستطيعون لها حلاً سوى اللجوء إلى الله تعالى لعلمهم بأنه وحده بيده مقاليد السماوات والأرض، وتشاوروا فيما بينهم ماذا يفعلون في هذا الموقف العصيب، فقال أحدهم: ادعوا ربكم بصالح أعمالكم عسى الله أن يفرج عنا ما نحن فيه، وهذا يدل على قوة إيمانهم وتوكلهم، وعلمهم بفضل الدعاء الذي قال الله تعالى فيه {..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..}(غافر: 60).
(فَقَالَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ! إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِي صُبَيَّةٌ صِغَارٌ، فَكُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ، وَكُنْتُ أَبْدَأُ بِالْوَالِدَيْنِ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ، فَلَمْ آتِهِمَا حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبُهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ، …)
فهذا الرجل بدأ بدعاء ربه لعلمه بقربه وسعة رحمته، وتوسل إليه بأفضل الأعمال التي يحبها الله تعالى، وأن الأمر لم يكن سهلاً عليه، فهو يرعى الغنم، وقد أرهقه السير وأجهده، وها هو لم يتناول عشاءه، وذهب ليحلب اللبن كما كان متعوداً، ولكنه تأخر في هذه الليلة عن والديه فوجدهما قد ناما، فوقف عند رأسهما حاملاً لإناء اللبن وهو يكره إيقاظهما، وصغاره يبكون من شدة الجوع، حتى طلع الفجر وهو على حاله فاستيقظا وسقاهما، ثم سقى صغاره وأهله بعدهما، إنها صورة عظيمة لما يصنعه الإيمان بالعبد، وقد علم الله إخلاصه وصدق نيته وأنه قدَّم والديه على أهله وأولاده ابتغاء وجهه الكريم وطلب المثوبة منه، فاستجاب دعائه لعظيم فضل البرّ، فتحركت شيئاً قليلاً لا يستطيعون الخروج منه.
وصدق الله العظيم: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:29، 30).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات اتقوا الله تعالى: واعلموا أن تقواه طوق النجاة من النار، والفوز بدار النعيم.
عباد الله: ومن الدروس المستفادة من أول هذه القصة:
1ـ مشروعية التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، حيث هدى الله هؤلاء النفر الثلاثة أن يتوسلوا إليه بأعظم أعمالهم الصالحة، فكان في ذلك نجاتهم بتوفيق الله وفضله ورحمته.
2ـ أثر التقوى في تخليص العباد من الضوائق والمصائب والابتلاءات، وصدق الله العظيم { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}(الطلاق: 2).
3ـ مشروعية الدعاء عند حلول الكرب والبلاء، وقد أمر الله بدعائه، ووعد بالاستجابة، قال تعالى:{ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }(غافر: 60).
4ـ برّ الوالدين من أعظم الأعمال الصالحة التي يتقرب بها العباد إلى الله، وهو سبب لتخليصهم من كرب الدنيا وكرب يوم القيامة.
5ـ رغم معاناة هذا الرجل البار الذي كان طيلة يومه يرعى الغنم وقف على رأس والديه وواصل تعب النهار بسهر الليل براً بوالديه، ولم يثنه بكاء الأطفال وصياحهم فكان جزاؤه عظيماً حيث فرج الله عنهم بسبب دعائه وتوسله بهذا العمل الصالح.
عباد الله: وأنتم تتابعون ما يعيشه الناس في مصر في هذه الأيام الجأوا إلى الله بالدعاء أن يحفظها ويحميها ويرزق أهلها الائتلاف وعدم الاختلاف، فالخلاف شرٌ يؤدي إلى نتائج خطيرة، لكن الذي يجمع عليه الناس أن إراقة الدماء جريمة بكل المقاييس ولا يزيد الأمر إلا شراً.
فاللهم الطف بأهل مصر، وأخرجهم من محنتهم سالمين، وادفع عنهم كيد الأعداء، وتآمر الأشرار، وأتم عليهم الأمن والأمان في ظل شريعة الإسلام.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).
الجمعة: 9- 10 -1434هـ