خطبة بعنوان: (الشتاء وفضل الصدقة فيه) بتاريخ 2-3-1435هـ
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الجواد الكريم، يداه كريمتان ينفق بهما متى شاء وكيف شاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رحيم كريم، جواد عظيم، {الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد}(الشورى: 28)، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، وسراجاً وهادياً للمؤمنين، ورفيقاً بالبشر أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه هي رأس مال العبد يوم يلقاه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102)
عباد الله: إن من بديع حكمة الله جل وعلا، وعظيم رحمته ومنته على عباده، أن جعل في العام الواحد فصولاً متنوعة، ما بين خريف وربيع، وشتاء وصيف، لتقوم بذلك مصالحهم، ويستقيم لهم معاشهم، وليعلموا أن المتحكم في هذا الكون العظيم رب قدير حكيم؛ فله الحمد دائماً على رحمته وحكمته، وبرِّه وإحسانه، وجوده وإنعامه، ولطفه وامتنانه.
وإن من آيات الله جل وعلا العظيمة التي امتن بها على عباده فصلَ الشتاء، فهو فصلٌ تتغير فيه الأمور عما كانت عليه في باقي فصول العام، تشتد فيه الرياح، وتكثر فيه السحب الركام، ويسمع فيه صوت الرعد والبرق، وتنزل فيه الأمطار، وتنبت الأرض، ويخرج الزرع، ويمتلأ الضرع، وهي آيات عظيمة تدل على عظمة خالقها وبارئها؛ قال جل وعلا:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الروم: 24)، وقال تعالى{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (الرعد: 12، 13).
عباد الله: إن البرد الشديد جُندٌ من جنودِ الله جل وعلا يسلطه على من شاء من عباده، وهو من زمهرير جهنم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربِّها، فقالت يا رب، أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين؛ نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها)(رواه البخاري ومسلم).
فهل منَّا أحد يتحمل هذا البرد الشديد في هذه الدنيا، فكيف لنا ببرد جهنم، و زمهريرها؟! أعاذنا الله وإياكم منها.
إن من منَّة الله جل وعلا علينا أن جعل لنا مساكن تأوينا، وملابس تقينا حر الصيف وبرد الشتاء، وناراً تدفئنا ونطهو بها طعامنا، قال جل وعلا:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}(النحل: 5)، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ}(النجم: 71ـ 73)، فاشكروا ربكم الذي امتن عليكم بتلك النعم في وقت ترون فيه كثيراً من المسلمين وغير المسلمين يصيبهم الجوع والفقر والحاجة، فله الحمد دائماً على عطائه ومنه وجوده وكرمه، ونسأله سبحانه أن يديم علينا نعمه، وأن يرزقنا شكرها، فإن الشكر سبب في المزيد، قال جل وعلا:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم: 7)، وأنتم ترون مصير الأطعمة في بعض المناسبات وأماكن الاجتماعات فإلى المشتكى من هذه الأفعال المشينة، وماذا يضير هؤلاء لو صرفوها للمحتاجين والفقراء أم أنها المباهاة والمفاخرة عياذاً بالله.
عباد الله: إن الشتاء موسم عظيم وغنيمة لمن أحب أن يكثر فيه من الأعمال الصالحة، فهو يختص عن غيره بقصر النهار وطول الليل، وهذا يساعد المسلم على الإكثار فيه من صيام النهار، وقيام الليل، وهما من أفضل الأعمال.
قال صلى الله عليه وسلم (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)(رواه الترمذي وغيره، وحسنه الألباني).
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:”الشتاء غنيمة العابدين” (رواه أحمد في الزهد).
وروي عن الحسن رحمه الله أنه قال:”نِعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله يطول يقومه، ونهاره قصير يصومه”.
فاغتنموا أيامكم هذه في الصيام والقيام، فالصيام فضله عظيم وأجره كبير، ويكفي فيه قول الله جل وعلا في الحديث القدسي:(الصيام لي وأنا أجزي به )(رواه البخاري ومسلم).
وقيام الليل أيضاً له مقام عظيم عند الرب جل وعلا، فقد أمر به أشرف الخلق وأكرمهم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}(المزمل: 1، 2)، وقال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}(الإنسان: 26).
فهو شعار المتقين، وسمت الصالحين، قال جل وعلا:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة:16ـ 17).
فاتقوا الله عباد الله في أيامه ولياليه، ولا تضيعوه بسهركم، ولا تقصِّروا ليله بمنامكم، واجعلوه ذخراً لكم بين يدي رب العالمين.
عباد الله: ومع ما نعيشه في تلك الأيام من شدة البرد وقسوته، علينا أن نتذكر إخواننا من الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل ممن يعيشون معنا ممن هم في حاجة إلى العون والمساعدة، فهناك أسرٌ يتعففون عن سؤال الناس فلا يجد أبناؤهم ثياباً تدفئهم من برودة الشتاء عند ذهابهم إلى مدارسهم، وليس عندهم دفايات تدفئ بيوتهم، وليس عندهم ما يسد جوعهم ولا يملأ جوفهم، فهم يحتاجون إلى الرعاية والعناية والدفء بالطعام والملابس والبطانيات.
وهناك عُمال نراهم في طرقاتنا ممن يعملون في الشوارع لا يجدون قفازات وشرابات تدفأ أيديهم وأرجلهم، ولا أكواتاً تدفأ أجسامهم، لأنهم يسعون من أجل لقمة العيش، ويوفرون القليل من المال من أجل أهليهم وذويهم، فلا تحرموا أنفسكم الأجر في كسوتهم بما تجود به أنفسكم.
عباد الله: تفقَّدوا إخوانكم المحتاجين في حيكم والأحياء الأخرى القريبة منكم، وتلمسوا حاجاتهم، وارسموا بسمة الدفء في عيون صغارهم، وأدخلوا السعادة والفرحة في قلوبهم، وابدؤوا بأقاربكم وذوي أرحامكم ثم جيرانكم وأهل بلدكم ثم الأقرب منكم فالأقرب، وقدموا لأنفسكم من الخير ما ينفعكم عند ربكم، ولا تحقروا من المعروف شيئاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(اتقوا النار ولو بشق تمرة)(رواه البخاري ومسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 10، 11).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنكم بين يديه موقوفون، ويوم العرض عليه محاسبون، فاعملوا لهذا اليوم قبل أن تلقوه.
عباد الله: تذكروا بارك فيكم أخوة لكم في الشام وغيرها من بلدان المسلمين ممن يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، وقد أصاب البرد القاسي أجسامَهم، واخترقت شدتُه عظامهم، ولا يجدون ما يدفئهم من الملابس والبطانيات، والدفايات، والخيم، ومنهم من يموت بسبب هذا البرد الشديد، فيجب علينا أن نبادر إلى مساعدتهم، والوقوف بجوارهم، والعطف عليهم كي نرفع عنهم الكرب والحاجة، فتصدقوا يا من وسَّع الله عليهم وأعطاهم من أصناف المال، ولو بشيء يسير؛ وتذكروا قول الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(فاطر: 15)،
وقوله صلى الله عليه وسلم:(ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة }(رواه البخاري ومسلم).
وقوله صلى الله عليه وسلم:(من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)(رواه مسلم).
أحسنوا إلى إخوانكم، وساعدوهم في شدتهم، ونفسوا عنهم ما هم فيه من الكربة بالمال واللباس، واعلموا أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
وليكن تبرعكم عن طريق المؤسسات الرسمية التي تقوم باستقبال تلك المعونات سواء المالية أو العينية وتتولى إرسالها إلى إخوانكم، فبادروا ولا تتأخروا عنهم فهم يعيشون في ظروف صعبة ومأساوية.
وقد تجمع الأعداء وأصبحوا صفاً واحداً ضد الأبرياء العزل فلا أقل من نصرة إخوانكم بالدعاء والكساء.
أسأل جل وعلا أن يكشف الكرب عن إخواننا المسلمين في كل مكان، وأن يصلح أحوالنا وأحوالهم.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:56).
الجمعة: 2-3-1435هـ