خطبة بعنوان: (البيعة الشرعية لولاة الأمر) بتاريخ 10-4-1436هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال جل وعلا:{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ ..}(النساء: الآية 131).
عباد الله: ها هي بلادنا ببالغ الأسى والحزن قد فجعت بوفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، وهذه حكمة الله في خلقه، فلا معقب لأمره ولا راد لقضائه، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف علينا خيراً منها، اللهم إنا نسألك أن ترحم خادم الحرمين الشريفين وأن تجزيه عنا خير الجزاء، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يتغمَّده بواسع رحمته ومغفرته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأن ينور له قبره ويوسع له فيه، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يخلفه في عقبه خيراً، وأن يجزيه عما قدم لبلاده ولأمته خير الجزاء وأحسنه.
وعزاؤنا يا عباد الله في تمسُّك هذه البلاد بدينها القويم، وأنها تنتهج نهج أهل السنة والجماعة في مسألة البيعة الشرعية، وعزاؤنا في خلفه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، نسأل الله تعالى أن يجعله رحمة وبركة على البلاد والعباد، وأن يتمم به مشاريع الخير والنماء التي أرساها مليكنا الراحل، وأن يعينه ويوفقه ويسدده في جميع أمور ولايته، وأن ترى بلادنا على يديه مستقبلاً نيّراً يُجلُّ فيه الشرع وحملته، وأن يعينه على كل خير، وأن يقود سفينة الوطن بحنكة وحكمة وسداد رأي وتوفيق وعون من الله تعالى، وها هي بوادر الخير تتجلى في الأوامر الملكية التي صدرت ليلة البارحة حيث أدخل الفرحة والسرور على كل بيت، بل على كل فرد من رعيته، ذكراً أو أنثى، مدنياً أو عسكرياً، وقد استقبلها الناس بالدعاء الصادق أن يلبسه لباس الصحة والعافية وأن يبارك في أعوانه وبطانته وأن يجعلهم خيراً ورحمة يعينونه على الخير ويدلونه عليه .
عباد الله: إن من نعمته تعالى علينا أن جعل انتقال السلطة في بلادنا بهذه الصورة الرائعة السهلة، وذلك لأن بلادنا تنطلق في مسألة البيعة من الشرع المطهر، وهذه نعمة عظيمة تستوجب الشكر، فالبلاد من حولنا تموج بالصراعات والخلافات لأنها ابتعدت عن الشرع في مسألة البيعة، فنحمد الله ونشكره، ونسأله تعالى أن يزيد بلادنا من الأمن والأمان ورغد العيش والتمسك بالشرع المطهر ووحدة الصف واجتماع الكلمة، وأن يحفظها من كل سوء ومكروه.
ونحن نعلم جميعاً أن بلادنا لا يوهنها فقد القادة، ولا يضرها رحيل الملوك لأن سرَّ قوتِها وبقائها هو منهجها القويم الذي تترسمه وشريعتها التي تتمسك بها وتحكِّمها في كل مناحي الحياة.
ومن بركة الشريعة الغراء وتحكيمها في هذه البلاد توحد الصفوف، واجتماع الكلمة، والتوافق على الأمر، وإذا بايع أهل الحلِّ والعقد حاكماً؛ انعقد له الأمر، ووجبت طاعته في المعروف؛ ويكفي لسائر الناس انعقاد القلب بها والقبول بالحاكم والرضا به؛ وذلك لمن لم تتيسر له البيعة المباشرة، وفي الحديث: (من مات وليست في عنقه بيعة مات مِيتَةً جاهلية)(رواه مسلم).
والبيعة لا تكون إلا لولي أمر المسلمين، يبايعه أهل الحل والعقد، وهم العلماء والفضلاء ووجوه الناس، فإذا بايعوه ثبتت ولايته، ولا يجب على عامة الناس أن يبايعوه بأنفسهم، وإنما الواجب عليهم أن يلتزموا طاعته في المعروف، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)(رواه مسلم).
والبيعة يا عباد الله من هدي الإسلام، وهي من أساسيات أمن الدول واستقرار البلاد والعباد، ومقتضياتُ أمر البيعة ولوازمها على المُبايَع والمُبايِع عظيمةٌ عند الله وعند الناس، وهي إعطاء العهد من الرعية على السمع والطاعة للإمام في غير معصية، في المنشط والمكره والعسر واليسر وعدمُ منازعته الأمر وتفويضُ الأمور إليه بعد الله.
والبيعة عقد يترتب عليه التزامات على الطرفين (أولي الأمر والرعية) بالكتاب والسنة، فيحرم نقضها مهما كانت الأسباب، ولا يجوز إعطاؤها لأكثر من واحد، وإذا نازعه فيها أحد بعد بيعته، يجب الذود عنه، وقتال المنازع كائنا من كان؛ حفاظاً على حق الأمة التي اختارته، والنظام العام.
وهذه البيعة تنقسم عند أهل السنة والجماعة إلى بيعتين:
الأولى: بيعة الانعقاد التي بموجبها ينعقد للشخص المبايعَ ـ السلطان ـ ويكون له بها الولاية الكبرى، وهذه البيعة هي التي يقوم بها أهل الحل والعقد، ودلائل هذه البيعة واضحة تماماً في انعقاد البيعة للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فقد كان أهل الاختيار يقومون باختيار الإمام ثم يبايعونه بيعة انعقاد أولية.
والثانية: البيعة العامة أو بيعة الطاعة: وهي بيعة سائر المسلمين للخليفة، وهذا ما تم مع الخلفاء الراشدين جميعا، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن بايعه أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، دُعِي المسلمون للبيعة العامة في المسجد، فصعد المنبر بعد أن أخبرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه باختيارهم له، ومبايعتهم إياه، وأمرهم بمبايعته فبايعه المسلمون، وكذا كانت المبايعة مع الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بعدهم، وهذا ما تسير عليه بلادنا ولله الحمد والمنّة.
ومن صور البيعة عند أهل السنة والجماعة:
الأولى: المصافحة والكلام؛ والتي بايع فيها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم، كما في بيعة الرضوان الشهيرة، والتي قال الله تعالى فيها:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}(الفتح: الآية ).
الثانية: الكلام فقط: وتكون عادة في مبايعة النساء، ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام)(رواه البخاري، ومسلم). وأيضاً من به عاهة لا تمكنه من المصافحة كالمجذوم الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:(ارجع فقد بايعتك)(رواه مسلم).
الثالثة الكتابة: كما فعل النجاشي مع الرسول صلى الله عليه وسلم عند مبايعته له فكتب: “بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى”… إلى أن قال: “وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأصحابك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين”.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }(النساء: الآية 95).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد.
عباد الله: نحمد الله تعالى على ما رأيناه من تعجيل بالدفن لخادم الحرمين الشريفين، لأن ذلك من هدي الإسلام، فلا مظاهر ولا موسيقى ولا حداد، بل دفن رحمه الله كما يدفن الكبير والصغير، والغني والفقير، والأمير والمأمور، الكل يلبس الكفن ويوارى تحت التراب.
وهذه نعمة تستوجب الشكر، لأن هذه البلاد قامت على التوحيد وناصرت الدين، ففي بلاد أخرى إذا مات العظماء والزعماء فعل الناس الأفاعيل وظهرت المنكرات والعياذ بالله.
عباد الله: اعلموا أنه لا يجوز للمسلم نكث البيعة بينه وبين إمامه لأن ذلك فيه مخالفة للعهد، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(المائدة: الآية 2)، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً..} (الإسراء: الآية 34). وما يقع من بعض الشباب المغرر بهم من أعمال إرهابية هو نقضٌ للبيعة، وخروج على ولي الأمر، وهذه البلاد محسودة وليس غريباً على الأعداء والحاقدين بث السموم ورزع الفتنة، لكن الغريب أن تجد آذاناً صاغية من البعض، وتتقبلها، وتتناقلها عن جهل بمآلاتها، والرد العملي على هؤلاء هي اللحمة الواحدة، واجتماع الكلمة، وتوحيد الصف لقطع الطريق على هؤلاء الأعداء، وعلى قدر وعي شبانا بمكانة بلادنا ورسالتها، وحجم مؤامرة الأعداء عليها بقدر ما يكون دفاعهم قوياً، وبنيانهم متماسكاً.
نسأل الله تعالى العون والتوفيق والسداد لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ونسأله تعالى أن يحفظ علينا علمائنا وولاة أمرنا وبلادنا من كيد الكائدين وعبث العابثين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
الجمعة : 10 / 4 / 1436هـ