35 – إتحاف أهل العصر بمسائل الجمع والقصر
35 – إتحاف أهل العصر بمسائل الجمع والقصر pdf
إتحاف أهل العصر
في مسائل الجمع والقصر
تأليف
أ.د/ عبدالله بن محمد أحمد الطيار
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ([1]).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءلون بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}([2]).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}([3]).
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن جعل التكاليف الشرعية التي أمر بها عباده مناطها نفي الحرج عنهم كي يؤدوها بحب واشتياق وهذا كله من عظيم رحمته ومحبة عدم انقطاع الخلق به، فهو المعبود سبحانه وتعالى وسائر المخلوقات عابدون له.
وإن مما تفضل الله تعالى به على عباده أن جعل التكاليف الشرعية في السفر والمرض والمطر وغيرها مما فيه مشقة عليهم لها وضع خاص فخفف عليهم ما فرض من أمور الطهارة والعبادة في مقام وأحوال خاصة.
ففي السفر خففت الصلاة الرباعية لاثنتين، وشرع الجمع، وأبيح الفطر والتيمم، وغير ذلك من العبادات، وفي الحضر شرع الجمع حال المطر والمرض وكل ما فيه مشقة، وهذا كله كما ذكرناه آنفا من رحمته سبحانه وتعالى بعباده.
وهذه الرسالة مكونة من خمسة مباحث:
المبحث الأول: في محاسن هذه الشريعة وكونها صالحة لكل زمان ومكان.
المبحث الثاني: في بيان الحكمة في مشروعية الجمع والقصر.
المبحث الثالث: الجمع وملحقاته مع ذكر المسائل المتعلقة به.
المبحث الرابع: القصر وملحقاته ومسائله الخاصة به.
المبحث الخامس: في ذكر بعض المسائل الهامة في توابع السفر.
فأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصا صوابا وأن يرزقنا الصدق في القول والعمل إنه سميع مجيب.
وكتبه أبو محمد
عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
المملكة العربية السعودية
الزلفي
المبحث الأول
محاسن الشريعة الإسلامية
وكونها صالحة لكل زمان ومكان
1- من محاسن الشريعة:
إن الناظر إلى شريعة الإسلام بعين البصيرة يجد أنها حوت أعلى المحاسن ليست محاسن الدنيا فحسب بل محاسن الدنيا والآخرة.
فإذا تأملت ما جاءت به الشريعة في العبادات وجدت أنها تحرص كل الحرص على تأديتها على الوجه الأكمل بدون مشقة.. بل إذا كانت هناك مشقة جلبها التيسير فلا تكليف إلا بمقدور في هذه الشريعة وهذا لا شك من أعلى المحاسن التي تشتمل عليها شريعتنا، فلما كان السفر مثلا مظنة المشقة خففت على المسافرين فجعلت الصلاة ركعتين بدلا من أربع، بل أجازت الجمع في ذلك كل ذلك رحمة وشفقة بأهلها، وفي الصوم أباحت الفطر للمسافر بل إذا كان يتضرر من الصوم في سفره ألزمته بالفطر بل جعلته حال صومه الذي يتضرر به آثما، ولذا قال صلى الله عليه وسلم لمن تخلف عن الفطر:”أولئك العصاة، أولئك العصاة”.
وفي الزكاة لم تجعل كل ما يملكه المرء تجب فيه الزكاة، بل قرنت ذلك بأمور محددة فلابد من بلوغ النصاب ولابد من حلول الحول وهكذا، فمن لم يبلغ ما يملكه نصابا فلا تجب فيه زكاة.
وفي الحج قرنته بالاستطاعة فمتى ملك المسلم زادا وراحلة فإنه يجب في حقه الحج ومتى لم يستطع ذلك سقط عنه الحج.
وهكذا سائر العبادات كل ذلك حرصا من الرب تبارك وتعالى على تأدية المأمورات بلا مشقة بل بحب لها ورضاء منه بها، فيا لها من شريعة سمحة سهلة يسرت النفع لأفرادها.
2- شمولية شريعة الإسلام:
وهذه الشريعة ليست محاسنها مقصورة في أمور العبادات بل في المعاملات، فانظر إلى البيع والشراء فإن من محاسنه وصول الإنسان إلى ما يحتاجه في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه فمتى احتاج إلى أنفس الأشياء من متطلباته قطع لذلك الأسفار فلا حرج عليه.
فخلاصة القول: أن شريعة الإسلام هي شريعة شمولية صالحة لكل زمان ومكان.
ومن لطف الله سبحانه وتعالى بعباده أنه ربط الأحكام بعللها لا بحكمها، فالعلة شيء واضح لا يخفى على أحد، وإنما الحكمة قد تكون ظاهرة وقد تكون مخفية فلا يدركها كل أحد.
فحينما أجازت القصر والجمع للصلاة ربطت ذلك بالسفر، ولم تربطه بالحكمة؛ ولذا قالوا: إن الحكمة مظنة المشقة لكن لو أن إنسانا قال: إنني أسافر ولم يحصل لي مشقة فأنا هنا لا أقصر ولا أجمع نقول له: لا، بل العلة كونك مسافرا، وليست المشقة فمتى سافرت كان القصر في حقك هو الأمثل والأصوب، أما الجمع فالأولى لك فعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
3- خلاصة ما ذكر:
وخلاصة القول في هذا المبحث أننا نقول إن فيه:
1- بيان رحمة الله تعالى وشفقته بعبادة.
2- شمولية شريعة الإسلام.
3- حرصها على تأدية العبادة على الوجه الأكمل والأمثل.
4- حرصها على مصالح العباد الدينية والدنيوية.
5- أن المشقة تجلب التيسير.
6- أنه لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه.
المبحث الثاني
بيان الحكمة من مشروعية الجمع والقصر
ذكرنا في المبحث الأول جملة من محاسن هذه الشريعة وحرصها على مصالح أهلها وأنها شريعة يسر وتيسير لمن عرفها حق المعرفة وكل هذا يصلح لبيان الحكمة من مشروعية الجمع والقصر.
فالإنسان المسافر لما كان سفره قد يحصل له فيه مشقة جاءت الشريعة بالتخفيف عليه حرصا منها على سلامة صدره وحرصه على التعلق بها، فمن الحكمة في مشروعية الجمع والقصر:
1- أن الله تعالى تصدق علينا بقصر الصلاة فعلينا أن نقبل صدقته. فقد روى مسلم بن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس، فقال: عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته”([4]).
2- ومن الحكمة في مشروعية الجمع نفي الحرج عن الأمة، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس:”أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء” فقال سعيد: فقلت لابن عباس ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أمته. وكذا جاء عن معاذ بن جبل في مسلم عن واثلة أبو الطفيل قال: فقلت ما حمله على ذلك؟ قال: فقال – يعني معاذ – أراد ألا يحرج أمته”([5]). فقد نفى الله تعالى الحرج عن هذه الأمة المرحومة وهذا مما لا شك فيه دليل واضح على محبة الرب سبحانه لهذه الأمة وشفقته بها، فما أحلمه، وما أعظمه من إله.
المبحث الثالث
الجمع وملحقاته مع ذكر المسائل المتعلقة به
أولا: معنى الجمع وصفته:
الجمع هو: ضم إحدى الصلاتين للأخرى.
وهذا التعريف يشمل جمع التقديم والتأخير، والمراد بضم إحدى الصلاتين ما يصح فيه الجمع بينهما.
فلا يدخل في هذا ضم صلاة العصر مع المغرب وذلك لأن صلاة المغرب ليلية وصلاة العصر نهارية ولا يدخل في هذا الضم صلاة العشاء بصلاة الفجر وذلك لأن وقتها منفصل بعضه عن بعض.
أما صفته: إذا أراد أن يجمع بين الظهر والعصر مثلا أو المغرب والعشاء فهنا أمامه أمران:
إما أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيصليهما جميعا يعني يصلي الظهر ثم العصر أو يقدمهما يصلي الظهر في وقتها فإذا انتهى منها قام فصلى العصر، وكذا بالنسبة للمغرب والعشاء فهو مخير بين جمع التقديم أو التأخير.
دليل ذلك، ما رواه أبو داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك، إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع الظهر والعصر، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل العشاء ثم جمع فيهما”([6]).
ثانيا: حكم الجمع:
الجمع نوعان من حيث الحكم:
– جمع متفق عليه بين أهل العلم.
– وجمع مختلف فيه.
1- أما الجمع المتفق عليه بين أهل العلم فهو الجمع بعرفة ومزدلفة ولكنهم اختلفوا في سببه هل هو من أجل السفر أم لأنه نسك فذهب أبو حنيفة إلى كونه نسكا من مناسك الحج وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه من أجل السفر وهو الصحيح.
2- أما الجمع المختلف فيه فهو الجمع في غير عرفة ومزدلفة هل هو جائز أم لا.فذهب فريق من أهل العلم إلى القول بأنه يجوز الجمع في غير عرفة ومزدلفة فمتى لحق الإنسان مشقة بترك الجمع جاز له الجمع حضرا وسفرا كالمسافر والمريض وحال نزول المطر وكذا البرد الشديد وكذا الاستحاضة وغير ذلك مما فيه مشقة وهذا هو الصحيح إن شاء الله وعليه أكثر أهل العلم للأدلة التي ذكرناها سابقا.
وذهب بعض أهل العلم وهو ما عليه مذهب الحنفية بأن الجمع في غير عرفة ومزدلفة هو جمع صوري بمعنى أنه يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها أي قبيل وقت العصر ثم يصليها ثم يصلي العصر وكذا بالنسبة للعشاء والمغرب.
والصحيح كما ذكرنا ما ذهب إليه الأولون من جواز جمع التقديم أو التأخير.
ثالثا: في شروط الجمع مع ذكر الراجح في ذلك.
1- النية: والمراد بها نية الجمع وموضعها من أول الصلاة الأولى إلى سلامها وقد اختلف أهل العلم في تعيين نية الجمع للصلاتين وأصح الأقوال في ذلك أن النية ليست بشرط عند افتتاح الصلاة الأولى بل يجوز الجمع بعد الفراغ من الأولى إذا وجد شرطه من خوف أو مطر أو مرض ونحوه بكل ما يلحقه به مشقة بتركه للجمع.
2- الترتيب: أي تقديم الأولى على الثانية وذلك لأن الثانية تابعة لها فالترتيب واجب بين الصلوات لكن إن خشي فوات الحاضرة صلاها ثم صلى بعدها الأولى. مثال ذلك: من أخر صلاة الظهر مع العصر جمع تأخير غير أنه لم يبق من وقت العصر إلا وقت يسير لا يسعه فيه الترتيب، فهنا نقول له صلي العصر أولا لإدراك وقتها ثم صلي الظهر. لكن هنا هل يصلي العصر مرة أخرى الصحيح أنه لا يسقط عنه الترتيب وإن صلى العصر بعد الظهر مراعاة للترتيب فأولى ولكن لا يجب.
3- الموالاة: والمراد بها أن لا يفرق بينهما بوقت طويل بل عليه متى انتهى من إحدى الصلاتين فعليه أن يقوم للأخرى.
وهذا الشرط محل خلاف بين أهل العلم والصحيح هنا القول بأن الواجب في جمع التقديم الموالاة بين الصلاتين، ولا بأس بالفصل اليسير عرفا، وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي”.
أما في جمع التأخير فالأمر فيه واسع لأن الثانية تفعل في وقتها ولكن الأفضل هو الموالاة بينهما تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
رابعا: الأسباب المبيحة للجمع:
ربط الأسباب بمسبباتها قاعدة عظيمة في هذا الدين، ولما كان المصلي قد يلحقه مشقة بسبب ما، إما بسبب داخل جزئيات الصلاة كأن يلحقه مشقة بالقيام في الصلاة أباح له الشارع القعود بها أو أن يلحقه مشقة في وقتها أباح له الشارع الجمع لها على الصفة المذكورة سابقا.
والقاعدة العامة في ذلك أنه كلما لحق الإنسان مشقة بترك الجمع جاز له الجمع حضرا وسفرا وسنذكر بعض الأمثلة على ذلك لا على سبيل الحصر وإنما على سبيل البيان.
فمن أسباب الجمع:
1- السفر.
2- المرض.
3- المطر.
4- الاستحاضة.
وسنعرض لهذه الأسباب بشيء من التفصيل لأن غالب الجمع يكون بسببها.
الأسباب المبيحة للجمع:
1- السفر ومسائله المتعلقة به:
المسألة الأولى: في بيان حد السفر المبيح للجمع.
حد السفر المبيح للجمع نوعان:
1- حد للمسافة.
2- حد لطبيعة السفر.
– أما حد المسافة فكل سفر جاز القصر فيه فيجوز الجمع فيه بين الصلاتين وإلا فلا. واختلف أهل العلم في المسافة المبيحة للقصر ومن خلالها يباح الجمع. وقال البعض أنه لا حد للمسافة والمرجع في ذلك إلى العرف فما سماه العرف سفرا صار سفرا وإلا فلا يسمى سفرا، والصحيح أن المسافة التي يقصر ويجمع فيها ما تجاوز ثمانين كيلو متر.
– أما حد طبيعة السفر فالمراد به نوع السفر، هل هو مباح أو معصية فإن كان سفرا مباحا فيجوز له الجمع وإن كان غير مباح فلا يجوز له الجمع عند بعض أهل العلم.
المسألة الثانية: في وقت الجمع بالنسبة للمسافر.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة.- فذهب البعض إلى القول بأن المسافر لا يجمع الصلاة إلا إذا كان سائرا وحجتهم في ذلك حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم وفيه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع إذا جد به السير”([7]). والمراد بجد به السير يعني إذا كان سائرا.
– وذهب آخرون إلى القول بأنه يجوز الجمع للمسافر نازلا أو سائرا.
واحتج من قال بذلك بما رواه أحمد وأبو داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: “أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء”([8]).
فالحاصل أن هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم. والصحيح فيها أن يقال: إن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب وفي حق النازل جائز غير مستحب إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل.
المسألة الثالثة: في حكم جمع صلاة الجمعة مع العصر بالنسبة للمسافر.
لا يجوز جمع صلاة الجمعة مع العصر فمتى نواها جمعة ثم صلى العصر بعدها فإنه لا يصح، بل عليه أن يعيد الصلاة بنية الظهر ثم يصلي العصر.
لكن إذا دخل مع الإمام الذي يصلي الجمعة بنية الظهر فهل هذا يصح؟
هذا محل خلاف بين أهل العلم فمن رأى شرط اتفاق نية الإمام والمأمون يرون عدم صحة ذلك. والصحيح أنه يصح له أن يدخل مع الإمام بنية الظهر ولكن هنا يفوت على نفسه أجر صلاة الجمعة فهي لا شك أفضل في الثواب من صلاة الظهر فالأولى في حقه أن يصلي الجمعة ثم يصلي العصر في وقتها دون جمع لإدراك فضيلة صلاة الجمعة. ويحسن هنا أن تذكر مسألة وهي:
المسألة الرابعة: حكم صلاة الجمعة للمسافر؟
يرى أكثر أهل العلم أنه لا جمعة على المسافر وحجتهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني في صحيح الجامع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليس للمسافر جمعة”([9]).
وأيضا هذا هو الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم حيث أنه لم ينقل عنه أنه صلى الجمعة في سفره كما ذكر ذلك ابن قدامة رحمه الله في المغني حيث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره وكان في حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة فصلى الظهر والعصر، جمع فيها ولم يصلي جمعة. والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصلي أحد منهم الجمعة في سفره وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم. وقد قال إبراهيم: كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنتين ولا يجمعون ولا يشرقون “يعني لا يصلون العيد ولا يحتفلون بأيام التشريق بعد عيد الأضحى”([10]).
المسألة الخامسة: أيهما أفضل جمع التقديم أو التأخير للمسافر؟
الأفضل في حقه الأرفق به من تأخير أو تقديم، فإن كان التأخير أرفق أخر، وإن كان التقديم أرفق فليقدم، وذلك لأن الجمع مشروع رفقا بالمكلف فما كان أرفق فهو أفضل.
المسألة السادسة: إذا تساوى الأمران عند الإنسان أي تساوى عنده جمع التقديم والتأخير فأيهما أفضل؟
الأفضل هنا التأخير. لأن التأخير غاية ما فيه تأخير الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها جائزة مجزئة.
أما التقديم ففيه صلاة الثانية قبل دخول وقتها، والصلاة قبل دخول الوقت لا تصح ولو جهلا.
المسألة السابعة: هل تشترط النية في جمع التأخير أو بمعنى آخر، هل تشترط نية الجمع في وقت الأولى إذا جمع في وقت الثانية؟
نعم تشترط نية الجمع في وقت الأولى إذا أراد أن يجمع في وقت الثانية. وذلك لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها إلا لعذر، فلا يجوز تأخير الصلاة إلا بنية الجمع إن وجد سببه. وعلى ذلك فلابد من نية الجمع قبل خروج وقت الأولى.
المسألة الثامنة: رجل ضاق عليه وقت إحدى الصلوات ولم يبق إلا قدر ركعة فقط ويدخل عليه وقت الثانية أو عنده وقت لا يستطيع أن يكمل إحدى الصلوات فيه هل يجوز له أن ينوي الجمع؟
لا يجوز له الجمع ولا نية الجمع لأن الواجب عليه أن يأتي بالصلاة في وقتها الذي حددته نصوص الشريعة وعلى ذلك الواجب عليه أن يصلي الصلاة حسب ما يدركه من وقتها ويستغفر ربه على التأخير فإذا دخل وقت الثانية وهو في الأولى فعليه أن يكملها ثم يصلي الثانية ولكن ليس بنية الجمع ولكن يصليها أداء.
المسالة التاسعة: هل يجب استمرار عذر السفر إلى دخول وقت الثانية، نقول صورة هذه المسألة.
رجل مسافر نوى جمع التأخير ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى فهنا لا يجوز له أن يجمع الصلاتين لانقطاع العذر وزواله فيجب عليه أن يصليها في وقتها أو يصلي الأولى في وقتها فإذا دخل وقت الثانية صلاها لكن هل تصلى هنا أربعا أم اثنين؟.
يصليها أربعا لأن علة القصر السفر وقد انقطع وزال.
المسألة العاشرة: إذا سافر الإنسان ونوى جمع التأخير وخرج وقت الأولى وقدم البلد في وقت الثانية.
هنا يجمع لأنه سوف يصلي الأولى ثم يصلي الثانية ولكنه لا يقصر الصلاة لأن عذر القصر زال وهو السفر المبيح للقصر أما نية الجمع فهي حاصلة.
المسألة الحادية عشرة: هل يشترط موافقة نية الإمام والمأموم؟
الصحيح في هذه المسألة أنه لا تشترط متابعة نية المأموم للإمام، ولا دليل على الاشتراط بل الأدلة تدل على جواز اختلاف نية المأموم لإمامه، فإذا صلى الإمام العصر جاز للمأموم أن يصلي خلفه الظهر، وإذا كان يصلي العشاء جاز للمأموم أن يصلي خلفه المغرب فإذا انتهى الإمام للثالثة وأراد أن يقوم للرابعة جلس المأموم للتشهد، ولكن هل له أن ينعزل عن الإمام ثم يسلم أم يجلس حتى يسلم مع الإمام؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة:
فقال بعضهم إنه يجلس وينتظر حتى يسلم مع الإمام وقال البعض إنه مخير بين أن يجلس وينتظر حتى يسلم مع الإمام وأن ينوي الانفراد ثم يتشهد ويسلم بل يستحب في حقه ذلك إذا كان يمكنه إدراك ما بقى من صلاة العشاء مع الإمام من أجل إدراك صلاة الجماعة وهذا هو الصحيح.
ومن الأسباب المبيحة للجمع: المرض:
ذكرنا فيما سبق أن هناك قاعدة عامة في الجمع ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله
خلاصتها: أنه متى لحق المكلف حرج من ترك الجمع جاز له أن يجمع وقلنا أن هذا من محاسن شريعتنا.
1- أدلة الجمع للمريض:
دليل ذلك قوله سبحانه وتعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}([11])، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}([12]).
فالحاصل أنه متى لحق المريض مشقة بترك الجمع فإنه يجوز له الجمع.
ولكن هل هناك حد للمرض الذي يباح له الجمع؟
الصحيح أنه لا حد له بل على الإنسان متى ألم به المرض وأصبح يلحقه مشقة بالإفراد فإنه يجمع وإن كان المرض صداعا في الرأس وألما في الظهر أو البطن أو الجلد ونحوه.
قال ابن قدامة رحمه الله: “وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز لغير عذر فلم يبق إلا المرض، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة وهو نوع مرض”([13]).
2- صفة صلاة المريض:
أما عن كيفية صلاته ” أي المريض”، فإن استطاع أن يصلي قائما صلى قائما، وإن استطاع أن يصلي جالسا صلى جالسا، وإن استطاع أن يصلي على جنب صلى على جنب، وإن استطاع أن يومئ إيماء صلى.
فالمهم أنه يصلي ولا عذر له بترك الصلاة فإن الكثير ممن يجهلون هذا الدين تراهم في مرضهم يتركون الصلاة مع العلم أنهم في حالة مرضهم الأولى لهم المبادرة بها ولكن للأسف الشيطان حريص على إضلالهم فكم رأينا وسمعنا عن أناس إذا ما أصابهم مرض تركوا الصلاة وجعلوا المرض حجة لهم على تركها وهذا عذر ليس من أعذار شريعتنا المسقطة لها، ولكن من سماحة هذه الشريعة أن جعلت للمرض أحوالا يمكنه بها التخفيف على نفسه رحمة به وشفقة عليه، ولم تجعل المرض عذرا لترك الصلاة، فأجازت له الصلاة على قدر الاستطاعة وأباحت له الجمع.
ومن الأخطاء أيضا التي تقع من بعض المرضى في أثناء مرضهم أنهم يصلون الصلوات الخمس جميعا في وقت واحد فتراهم يؤخرون الصبح والظهر والعصر والمغرب إلى وقت العشاء ثم يصلونها جميعا، وهذا خطأ يستحق منهم التوبة منه، وعليهم أن يأتوا بالصورة الشرعية للجمع وهي جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وأن يصلوا الفجر في وقتها المعروف شرعا، ولا ينبغي فعل ما فعلوه. ولكن هل يلزمهم إعادة هذه الصلوات التي أخطأوا فيها؟
الصحيح أنه لا يلزمهم ذلك ويكفيهم التوبة والاستغفار.
3- ومن الأسباب المبيحة للجمع أيضا: الاستحاضة:
يقال في الاستحاضة ما يقال في المرض إذ هي نوع من المرض الذي من خلاله شرع الجمع. أما دليل الجمع للمستحاضة:
1- حديث حمنة بنت جحش قالت: كنت استحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما تأمرني فيها، قد منعتني الصيام والصلاة؟ قال: أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك؟ قال: فتلجمي، قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فاتخذي ثوبا. قالت: هو أكثر من ذلك: إنما أثج ثجا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سآمرك بأمرين، أيهما صنعت أجزأ عنك، فإن قويت عليها فأنت أعلم، فقال: إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي وصلي، فإن ذلك يجزئك ولذلك فافعلي كما تحيض النساء وكما يطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن، فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، ثم تغتسلين حين تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الصبح وتصلين وكذلك فافعلي، وصومى إن قويت على ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعجب الأمرين إلى([14]).
وأيضا مما جاء في جواز الجمع بين الصلاتين للحائض ما رواه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها أن سهلة بن سهيل استحيضت فأتت النبي صلى الله عليه وسلمفأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل وتغتسل للصبح([15]).
فمن خلال هذين الحديثين يتبين لنا جواز الجمع بين الصلاتين للمستحاضة.
غير أنني أنبه هنا على أمر قد يفهمه البعض من الحديثين وهو أن الغسل في حق المستحاضة مستحب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة في هذين الحديثين إنما هو أمر استحباب لا وجوب. ولكن بجب عليها الوضوء لكل صلاة.
4- ومن الأسباب المبيحة للجمع: المطر:
المسألة الأولى: روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا مطر”.
هذا الحديث يدل بدلالة المفهوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في المطر لقول ابن عباس: “في غير خوف ولا مطر”. ومن هنا يجوز الجمع لمطر ببل الثياب لوجود المشقة من ببل أو برد، وتزداد المشقة مع هذا بوجود ريح شديدة.
المسألة الثانية: في حد المطر المبيح للجمع.
أما حد المطر الذي يباح من خلاله الجمع فهو المطر الذي يبل الثياب لكثرته وغزارته فإن كان قليلا لا يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز لانتفاء المشقة عن المكلف.
المسألة الثالثة: إذا كان هناك وحل ناتج عن المطر ولم يكن في وقت الصلاة مطر هل يباح الجمع للوحل الناتج عن المطر؟
نعم يجوز الجمع لأننا ذكرنا مرارا أن الجمع ما شرع إلا لدفع الحرج عن الناس فمتى كانت هناك مشقة جاز الجمع لوجودها. ولا شك أن الوحل “الزلق والطين” يشق على الناس أن يمشوا عليها لذا شرع الجمع بسبها.
المسألة الرابعة: لا يوجد مطر ولكن هناك ريح شديدة باردة هل يجوز الجمع.
نعم يجوز الجمع مع وجود الريح الشديدة الباردة لحصول المشقة بها ولكن كما ذكرناه هنا أنها مقيدة بقيدين:
1- كون الريح شديدة وهي ما خرج عن العادة أما المعتادة فلا يباح لها الجمع.
2- كون الريح باردة والمراد بها ما تشق على الناس.
المسألة الخامسة: هل يجوز الجمع بحصول البرد دون الريح؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة. فقال بعضهم أنه لا يجمع لان شدة البرد بدون الريح يمكن أن يتوقاه الإنسان بكثرة الثياب لكن إذا كان هناك ريح مع شدة البرد فإنها تدخل مع الثياب، ولو كان هناك ريح شديدة بلا برد فلا جمع لأن الريح الشديدة بدون برد ليس فيها مشقة إلا إذا كانت هذه الريح مصحوبة بأتربة يتأثر بها الناس ويشق عليهم فإنه حسب القواعد الشرعية وهي رفع المشقة عن الناس يجوز في هذه الحالة. وقال البعض: إنه يجوز الجمع للبرد حتى وإن لم يحصل معه ريح. لأن المشقة موجودة بوجود البرد ولأنه ما شرع الجمع إلا لرفع الحرج والرحمة بالعباد. والذي يظهر والله أعلم، أن البرد أمر نسبي يختلف بين الناس منهم من يرى أن هناك بردا ويحس به وبخاصة كبار السن، ومنهم من لا يرى له أثرا، فإن كان السواد الأعظم من الجماعة يرون أنه مع وجود البرد يشق عليهم الذهاب إلى المسجد فإنه يشرع لهم الجمع في هذه الحالة فقط، أما قول بعضهم إن البرد يمكن أن يكثر الإنسان من لبس الملابس لتوقيه فأقول: إن هناك بردا مهما لبس الإنسان له من ثياب لا يمكن التحرز منه وتحصل معه المشقة حتى مع عدم وجود الريح وهذا ما يسوغ الجمع فيه.
المسألة السادسة: هل يجمع بين الظهر والعصر من أجل المطر؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة فذهب البعض إلى القول بعدم جواز جمع الظهرين يعني ” الظهر والعصر” من أجل المطر، لأن النص الوارد في ذلك جاء في المغرب والعشاء وجواز الجمع بين المغرب والعشاء لأجل الظلمة والمضرة وهي غير موجودة في جمع الظهر والعصر. وذهب آخرون إلى القول بجواز الجمع بين الظهر والعصر في المطر لعموم حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولحصول المشقة بسبب المطر وهذا هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله وكذا شيخنا محمد بن صالح العثيمين، وهذا هو الصحيح لأنه متى وجدت المشقة في ليل أو نهار جاز الجمع.
المسألة السابعة: قد يحصل في الجمع بين المغرب والعشاء( بالمطر) أن يحضر بعض الجماعة والإمام يصلي العشاء فيدخلون مع الإمام ظانين أنه يصلي المغرب فما هو المشروع في حقهم؟
عليهم أن يجلسوا بعد الثالثة ويقرءوا التشهد والدعاء ثم يسلموا معه، ثم يصلوا العشاء بعد ذلك تحصيلا لفضل الجماعة وأداء للترتيب الواجب. وإن كان سبقهم الإمام بواحدة صلوا معه الباقي بنية المغرب وأجزأتهم عن المغرب. وإن كان سبقهم بأكثر صلوا معه ما أدركوا ثم قضوا ما بقي عليهم وهكذا لو علموا أنه في العشاء فإنهم يدخلون معه بنية المغرب ويعملون ما ذكرنا، ثم يصلون العشاء بعد ذلك في أصح قولي العلماء.
المسألة الثامنة: الجمع في المطر هل هو جمع تقديم أم تأخير؟
الجمع المشروع في المطر هو جمع التقديم في وقت الظهر والمغرب ولا يستحب أن يؤخر الناس إلى مغيب الشفق أو إلى وقت العصر بل هذا حرج عظيم على الناس، وإنما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون. وتأخيره إلى وقت العشاء لا شك أنه لم يتحقق فيه قول ابن عباس رضي الله عنهما:” أراد أن لا يحرج أمته”([16]).
المسألة التاسعة: من صلى في بيته من أجل المطر هل يجوز له الجمع؟
أما إن كانوا جماعة فلأولى الجمع لتحقيق فضل الجماعة، أما إن كان يصلي في بيته لمرض وهو لا يحضر المسجد فلا يجوز له أن يجمع إلا للمرض لا للمطر.
خامسا: مسائل هامة يحتاج إليها في الجمع:
المسألة الأولى: إذا أخر المسلم صلاة المغرب ليجمعها مع العشاء ثم حضرت جماعة تصلي العشاء فأراد أن يصلي معهم فماذا يفعل؟
أقول: هذه المسألة لمن أراد الجمع له فيها ستة أمور:
أ – له أن يصلي معهم بنية المغرب وهم يصلون العشاء ثم إذا صلى الإمام ثلاث ركعات جلس حتى يسلم الإمام ويسلم معه ثم صلى بعده العشاء وهذه هي أكمل الصور لتحقق الترتيب فيها ومتابعة الإمام.
ب - له أن يصلى مع الإمام بنية المغرب وهم يصلون العشاء ثم إذا صلى الإمام ثلاث ركعات جلس ونوى الانقطاع عن الإمام ويتشهد ويسلم.
ج_ وله أن يصلى مع الإمام بنية المغرب وهم يصلون العشاء ثم إذا صلى الإمام ثلاث ركعات جلس ونوى الانقطاع عن الإمام وتشهد وسلم ثم يقول ويلحق الإمام في ركعته الأخيرة “يعنى الرابعة” وهى الأولى لهذا الشخص من صلاة العشاء ثم يكمل العشاء بعد أن يسلم الإمام لكن يجب عليه الإتمام ولو كان مسافرا. وهذه الصورة أجازها بعض أهل العلم ومنهم شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.
د – وله أن يصلى معهم العشاء بنية العشاء ثم يصلى بعدها المغرب وهذه الصورة أجازها جمع من أهل العلم ورفضها بعض الحنابلة لأنه لا يتحقق فيها الترتيب بين الصلوات.
ه- وقال بعضهم يصلي المغرب منفردا ثم يصلي مع الجماعة العشاء، ويدخل معهم فيما بقي من صلاتهم ويتم صلاته أربعا.
و- وقال بعضهم: يصلي معهم العشاء بنية النافلة ثم يصلي بعدها المغرب والعشاء مرتبا، وهذا محل نظر لأنه لا ينبغي أن يتنفل وتفوته الجماعة الحاضرة.
المسألة الثانية: إذا أراد أن يصلي العشاء خلف من يصلي المغرب فماذا يفعل؟
أقول:
أ – الأكمل في حقه أن يصلي معهم ويتم العشاء أربعا ليحقق متابعته للإمام في نهاية صلاة الإمام فإذا سلم الإمام من الثالثة يقوم هذا الشخص ويأتي بالركعة الرابعة له ولا يضر هنا جلوسه مع الإمام للتشهد لأن فيه متابعة له وهو مأمور بها.
ب – وقال بعضهم له أن يصلي مع الإمام ركعتين ثم ينوي الانقطاع ويتشهد ويسلم.
ج – وقال بعضهم له أن يصلي مع الإمام ركعتين وينتظر إلى أن يسلم الإمام ويسلم معه. وهذه فيها للإمام حتى نهاية الصلاة.
و- وقال بعضهم لا يدخل معهم إلا في الركعة الثانية ثم يستمر مع الإمام ويسلم معه وهذه فيها متابعة للإمام حتى نهاية الصلاة.
المسألة الثالثة: هل الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في أيام الأمطار رخصة فقط مثل القصر في السفر أم هو من السنة الأولى فعلها؟
نقول: الجمع في السفر والمرض والمطر وغيرها من الأعذار المبيحة له هو رخصة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تؤتى معصيته” وفي رواية: “كما يحب أن تؤتى عزائمه”([17]). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصر الصلاة في السفر: “صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته”([18]).
المسألة الرابعة: هل يجوز الجمع لأجل مشقة العمل؟
أما العمل الناتج عن السفر الذي يجوز قصر الصلاة فيه فيجوز له ذلك، أما العمل الذي في الحضر وفيه مشقة على العامل فهذا لا يجوز الجمع فيه.
المسالة الخامسة: من نام عن بعض الصلوات هل يجوز له أن يعقد نية الجمع لهذه الصلوات؟
لا يجوز له أن يعقد لهذه الصلوات نية الجمع بل عليه أن يجعلها نية قضاء الصلاة الفائتة لأن النوم ليس عذرا للجمع، بل هو عذر رافع للإثم فقط لقوله صلى الله عليه وسلم: “رفع القلم عن ثلاث – وذكر منهم -: النائم حتى يستيقظ” والمراد برفع القلم عنه أي رفع للإثم فيه. ولقوله صلى الله عليه وسلم: “من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها غير ذلك”.
المسألة السادسة: هل يجوز الفصل بين الصلاتين المجموعتين بعمل أو كلام؟
نعم يجوز ذلك ولكن بشرط عدم الكثرة في العمل أو الكلام لأن الكثرة في العمل أو الكلام تجعلهما تفقدان اسم الجمع عليهما لأن الجمع معناه الضم أي ضم وقت هذه إلى هذه. ولذا يرى أهل العلم عدم مشروعية الذكر عقب الصلاة الأولى بل عليه أن يقوم ويصلي الثانية فإذا فرغ منها شرع له الإتيان بالذكر الخاص بالصلاة، فإذا كان هذا في الذكر فغيره من باب أولى.
المسألة السابعة: إذا كانت المسافة المعتبرة للقصر والجمع ثمانين كيلو متر فهل هناك مدة محددة للجمع والقصر بحيث لا يجوز تجاوزها؟
الجواب: نعم، هناك مدة دقيقة لا يجوز تجاوزها وهي أربعة أيام، فإذا كان المسافر إلى بلد ما ووصل إليها وتقرر عنده أنه سيبقى فيها أكثر من أربعة أيام فإنه لا يجوز له الجمع حينئذ أما إن كان غير معروف لديه المدة فإنه يجوز له القصر والأولى في حقه عدم الجمع لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع إذا كان على ظهر سير وهذا هو الغالب من فعله وإن جمع فلا حرج.
لكن هنا تنبيه أحب أن أنبه عليه وهو أن المشروع والواجب عليه إن كان منفردا ووصل إلى المكان المقصود به سفره فإنه يجب عليه حضور الجماعة، لأن الجماعة واجبة فلا يترك فعل الواجب من أجل تحقيق سنة.
المسألة الثامنة: إذا دخل وقت الصلاة على المسافر وهو في البلد ثم ارتحل قبل أن يصلي هل يجوز له الجمع وكذا القصر؟
نعم، يجوز له ذلك في أصح أقوال أهل العلم، فمتى غادر معمور البلد جاز له الجمع والقصر، فالعبرة هنا بوقت الفعل لا بوقت الخروج من البلد.
المسألة التاسعة: في حكم الجمع للوحدات العسكرية المرابطة في الخطوط الأمامية.
هذه المسألة لا تخرج عن حالتين:
الأولى: أن يكون المرابطون من العسكر مقيمين إقامة دائمة في محلهم فهنا يجب عليهم إتمام الصلاة الرباعية وكذا تلزمهم الجمعة.
الثانية: أن يكون المرابطون مسافرين إلى محل المرابطة فهنا لهم القصر والجمع وليس عليهم جمعة لأن مدتهم لا يدرى متى تنتهي.
المسألة العاشرة: جمع الصلاة وقصرها في مشاعر الحج هل هو مقصور على الحجاج فقط أم هو مشروع في حق الباعة وغيرهم من أهل مكة كذلك؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة؟
والصحيح فيها أن الحجاج سواء كانوا من أهل مكة أو غيرهم يشرع لهم الجمع والقصر في الحج بخلاف من قال بأن أهل مكة لا يقصرون ولا يجمعون لأنهم غير مسافرين.
والصحيح ما ذكرناه لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حج معه أهل مكة ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالإتمام.
أما الباعة ونحوهم ممن هو ليس من الحجاج فإنه يتم ولا يجمع كسائر سكان مكة.
المسألة الحادية عشرة: هل يجوز الجمع في منى يوم التروية وأيام التشريق؟
نقول: ليس هناك مانع من جواز الجمع ولأنه إذا جاز القصر فجواز الجمع من باب أولى لكن تركه أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في منى لا في يوم التروية ولا في أيام التشريق ولنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فالحاصل أن الجمع في منى يجوز ولكن تركه أفضل.
المسألة الثانية عشرة: هل هناك تلازم بين الجمع والقصر؟
ليس هناك تلازم بين الجمع والقصر فللمسافر أن يقصر ولا يجمع بل ترك الجمع له أفضل إن كان نازلا غير ظاعن كما فعله صلى الله عليه وسلم في منى حجة الوداع فإنه قصر ولم يجمع، وقد جمع بين القصر والجمع في غزوة تبوك، وهذا يدل على التوسعة في ذلك، وكان يقصر ويجمع إذا كان على ظهر سير غير مستقر في مكان.
أما الجمع فأمره أوسع فإنه يجوز للمريض ويجوز أيضا في المطر بين المغرب والعشاء وبين الظهر والعصر على القول الصحيح وكذا المستحاضة كما بينا ذلك ولا يجوز لهم القصر لأن القصر مختص بالسفر فقط.
المبحث الرابع
القصر وملحقاته ومسائله المتعلقة به
تمهيد:
ذكرنا فيما سبق أن من محاسن هذه الشريعة أنها تخفف عن متبعيها بعض العبادات في بعض الأحوال التي قد يكون بإتيانهم بها نوع من المشقة عليهم([19]).
ومن هذه العبادات التي خفف الله فيها على عباده المؤمنين الصلاة في السفر فإنها تختلف عنها في الحضر لما يترتب على السفر من أحكام كقصر الصلاة وإباحة الفطر في رمضان وامتداد مدة المسح على الخفين وسقوط الجمعة والنوافل ماعدا سنة الفجر والوتر وسقوط العيدين.
ومن خلال هذا المبحث سنعرض بابا مهما من أبواب الفقه اهتم به الفقهاء والعلماء وذلك لأهميته فإنه لا يخلو المرء من سفر يعرض له وعندئذ لابد من معرفة أهم أحكامه المتعلقة به ولا شك أن أهم الأحكام هنا هي الصلاة إذ هي أكثر ما يتعرض له المرء في سفره وترحاله، فما هي طبيعة صلاة المرء في سفره وكيفيتها هذا ما سنعرضه في هذا المبحث مع ذكر أهم المسائل المتعلقة به.
أولا: تعريف السفر:
السفر في اللغة: مفارقة محل الإقامة. سمي بذلك لأن الإنسان يسفر بذلك عن نفسه، فبدلا من أن يكون مكنونا في بيته أصبح ظاهرا بينا بارزا.
وقيل بأن السفر سمي سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الناس أي يوضحها ويبينها فإن كثيرا من الناس لا تعرف أخلاقه ولا حسن سيرته إلا إذا سافرت معه.
ثانيا: أقسام السفر:
يدور حكم السفر مع الأحكام التكليفية الخمسة: أي أنه:
1- سفر حرام: مثاله: السفر إلى فعل محرم كزنا وشرب خمر وغيرها من الأمور المحرمة في شريعتنا ومثاله أيضا .. السفر إلى بلاد الكفار من غير ضرورة ولا حاجة وإنما هو للنزهة والترف والتشبه بهم وأخلاقهم.
2- سفر مكروه: مثاله: سفر الإنسان بدون رفقة معه في سفره فإنه يكره له ذلك لورود النهي عن ذلك.
3- سفر مباح: مثاله: السفر إلى النزهة وما كان في معناها لكن بشرط أن لا تكون إلى بلاد كفر كما بينا ذلك.
4- سفر مستحب: مثاله: السفر إلى مكة بغرض التعبد فيها في المسجد الحرام كتأدية حج وعمرة في غير الفريضة وغيرها من العبادات التي شرعت في ذلك.
وكذلك زيارة الأقارب والأهل وأهل الخير والصلاح كل ذلك إذا ترتب عليه سفر فإنه مستحب.
5- سفر واجب: وهو الذي لا يتم تأدية الواجب إلا به.
مثاله: سفر تأدية الحج والعمرة الواجبين.
ثالثا: ذكر بعض النصائح للمسافرين:
تمهيد: لا شك أن دين الإسلام يحث على العمل والضرب في الأرض لكسب الرزق فهو لا يدعوا إلى الكسل وسؤال الناس بل ديننا يحافظ على العزة الإنسانية والكرامة الشخصية قال تبارك وتعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}([20]) وهذا للمنافقين. وقال في بيان جمع العمل الديني والدنيوي:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا..}([21])، وقال:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ..}([22]) لكنه سبحانه وتعالى حينما أمر بالسعي في الأرض لطلب المعاش وغيره ربط ذلك بمصالحنا الدينية والدنيوية فليس كل سفر مباحا بل منه ما هو فيه معصية، فالمسافر الذي يذهب في سفره للإتيان بما فيه فساد الناس في دينهم ودنياهم فهو محرم كالذي يسافر للإتيان بالمخدرات والمسكرات والدخان فسفره محرم الوسائل لها أحكام مقاصدها وهكذا. ولما كان السفر له مكانته في نفوس أهله جعلت لذلك جملة من النصائح لعل الله أن ينفع بها.
أولا: ذكر فوائد السفر:
1- فيه تذكير بعظمة الرب سبحانه فالمسافر الذي يرى البحار والمحيطات والأنهار بل هذه الأرض التي يسكن عليها وهذه السماء التي تظله إذا تفكر فيها المسافر عرف حقيقة نفسه بل احتقر نفسه أمام هذه المخلوقات أين هو منها فعندئذ يوقن أنه لا شيء وصدق ربنا حين قال:{خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[غافر: 57].
2- أن في السفر اكتسابا للمعيشة وذلك بالبحث عن أسباب الرزق التي تعينه على طاعة ربه وعلى أمور دنياه فلا كسل ولا سؤال للناس.
3- أن في السفر مفارقة للأوطان التي قد لا يرى فيها الإنسان تأديته للعبادة على الوجه الأكمل والأمثل فقد يكون في وطنه مضايقات له بسبب تدينه أو يجد في وطنه منكرات عظيمة لا يستطيع إنكارها أو لا يجد الاستجابة من ساكنيها بل هناك جفوة وسوء معاملة فهنا شرع السفر له حفاظا على دينه. كما هو الحال في كثير من البلاد الإسلامية.
4- أن في السفر التعرف على الأصحاب والأحباب فكم من أناس لم يتعرفوا على بعضهم إلا من خلال سفرهم ثم تربطهم هذه المعرفة بصلات قوية من نسب وأخوة في الدين ونحوه.
5- في السفر انفراج للهموم وزوال للغموم وراحة للنفوس فكم من أناس كنا نعرفهم أصيبوا ببعض الأمراض النفسية والعصبية فنصحوا بالسفر فسافروا ولله الحمد وكان ذلك سببا لشفائهم.
6- ومن أعظم فوائده حصول العلم وهذا لا شك أعظم مطلوب فبالعلم تتعرف على معبودك ولذا كان السلف يحرصون كل الحرص على السفر في طلب العلم فترى بعضهم يسافر من أجل حديث واحد يطلبه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: “لو أعلم مكان واحد أعلم مني بكتاب الله تناله المطايا لأتيته”([23]).
وقال البخاري في صحيحه: “رحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد”([24]).
وبالجملة فإن للسفر فوائد عديدة يعرفها كل من قام به فنكتفي بما ذكرناه من بعض فوائده غير أنني أجمل هذه الفوائد بما قاله الشافعي رحمه الله في ديوانه.
تغرب عن الأوطان في طلب العلى *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشــة *** وعلم وآداب وصحبة ماجد
ثانياً: ذكر بعض آداب السفر:
بينا فيما سبق فوائد السفر غير أننا حينما نتكلم عن فوائده لا نترك الحبل على غاربه دون تقييد فإننا ولله الحمد أمة الإسلام أحاطنا الله بعنايته فسن لنا سننا في كل شيء إما في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كل ذلك رحمة بنا.
ولما كان السفر له مكانته العظيمة جعل له آدابا ينبغي لمن يقوم به أن يتأدب بها منها آداب قبله وآداب في أثنائه وآداب بعده.
المسألة الأولى: ذكر بعض الآداب التي قبل السفر:
1- أو هذه الآداب تحديد نوعية السفر التي تريده والتحديد هنا تحديد مقرون بالشرع أي هل هو سفر طاعة أم معصية فسفر المعصية بجميع ما يحمله من فساد عقدي وخلقي لا يجوز فالسفر إلى بلاد الكفار بغير حاجة هو سفر معصية فإن كان سفرك من هذا القبيل فلا تفكر فيه إطلاقا بل عليك أن تستغفر الله من ذلك وتتفل عن يسارك ثلاثا ثم تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
أما إن كان سفر طاعة أو سفرا ضروريا تحتاج إليه فهنا لا شك أنه جائز بشروطه كما سنبين ذلك من خلال الآداب. فإذا حددت نوع السفر فعليك بالأدب الثاني.
2- استخارت معبودك جل في علاه في سفرك هل تقدم عليه أم لا فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بسلامة العافية عند حصول ذلك، والاستخارة بمعنى طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.
ولما كان أهل الجاهلية حين سفرهم يزجرون الطير للإقدام على أسفارهم عوض الله تعالى هذه الأمة بصلاة الاستخارة التي حوت أعظم دعاء يدل على افتقار العبد وحاجته إلى معبوده وتوكله عليه وتفويض الأمر إليه([25]).
3- استشارة من تثق باستشارته وبخاصة أهل العلم العاملين وذوي الخبرة من كبار السن فما ندم من استخار الخالق واستشار المخلوقين فلعلهم يرون غير الذي تراه أو ينصحونك بشيء خفي عليك أمره.
4- التوبة إلى الله تعالى من كل ذنب جنته يداك وعيناك ورجلاك وسائر أعضائك. فإن كان في حق الله فبادر بالاستغفار والندم والتوبة وإن كان في حق المخلوقين فبرد حقوقهم ومظالمهم وغيرها من مستحقاتهم وذلك إما بنفسك أو بتوكيل من يقوم مقامك بردها إلى أهلها.
5- اختيار الرفقة الصالحة: فإن من محاسن هذه الشريعة أن حثت المسافرين على أن لا يسافروا وحدهم فقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”الركب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب”([26])، وجاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم – ما سار الركب بليل وحده”([27]).
ففي معنى هذا الحديث: لو يعلم الناس ما أعلم بما في الوحدة من الآفات التي تحصل من ذلك ما سار راكب بليل يعني وحده وخص الليل لأن الخطر بالليل أكثر وانبعاث الشر فيه أكثر، والتحرز منه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل. إذا فإنه ينبغي لك اختيار الرفقة الصالحة الذين يعينوك على دينك.
فإذا علم ذلك فإنه ينبغي لمن أراد سفرا أن يختار الرفقة الصالحة التي تعينه على دينه فتذكره إذا نسي وتعلمه إذا جهل، فالمرء على دين خليله ولا يعرف الرجل إلا برفيقه. قال صلى الله عليه وسلم: “خير الصحابة أربعة؟ وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة”([28]).
6- إذا تم اختيار الرفقة فهنا أمر غفل الكثير عنه وهو اختيار الأمير فينبغي التنبه لذلك فقد جاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم…” ([29]).
والحاجة إلى الأمير لا تخفى وذلك لأن الآراء تختلف في تعيين المنازل والطرق ومصالح السفر ولا نظام إلا في الوحدة ولا فساد إلا في الكثرة.
ويتم اختيار الأمير بما فيه من حسن الخلق وأرفقهم بالأصحاب وأسرعهم إلى الإيثار وطلب الموافقة.
7- إذا تم اختيار الصحبة فهنا يتم اختيار اليوم الذي يتم فيه السفر وكذا تحديد موعد السفر خلال هذا اليوم. وأحب الأيام للسفر يوم الخميس وأحب الأوقات في السفر التبكير فيه أو السير أول الليل. أما دليل استحباب يوم الخميس، ما رواه البخاري عن كعب ابن مالك – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم الخميس. وفي رواية: “لقلما كان رسول الله يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس”([30]).
أما التبكير فلدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهله فقد قال صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لأمتي في بكورها”([31]). والتبكير أي الصباح وأول النهار.
أما السير أول الليل لكونه أسهل على المسافر وليس فيه أوقات وقوف كثيرة كالوقوف للصلوات وغيرها. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل”([32]).
8 – إذا تم تحديد ما ذكر، فهنا ننبه على أمر مهم وهو استحضار النية وهي أنك تريد بسفرك القربة إلى الله تعالى، بذلك فإن العمل وإن كان مباحا فإنه إذا أريد به التقوي على طاعة الله فإنه يؤجر على ذلك.
9- إذا تم العزم على السفر وجاءت الدابة المعدة لذلك فهنا يستحب توديع الأهل والأصحاب والأحباب وتوصيتهم بطاعة الله والدعاء لهم حال سفرك وهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم فقد جاء في سنن الترمذي أنه كان يقول لمن أراد سفرا. “أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك”([33]).
المسألة الثانية: في الآداب التي ينبغي فعلها أثناء السفر:
ذكرنا فيما سبق الآداب التي ينبغي للمسافر أن يتأدب بها قبل سفره وهنا سنذكر جملة من الآداب حال السفر. أول هذه الآداب:
1- دعاء السفر: فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا كبر ثلاثا ثم قال: “سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل”([34]). وهذا الدعاء يكون عند بداية ركوب الدابة وعند وضع رجله في الركوب فإذا نسي ذلك قاله أثناء سفره.
2- ومن الآداب أيضا التكبير والتسبيح إذا علا شرفا أو هبط واديا وذلك لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه رضوان الله عليهم. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:” كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا تصوبنا سبحنا”([35]). وينبغي أن يكون ذلك التسبيح والتهليل والتكبير بصوت منخفض بقدر ما يسمع نفسه أو من بجانبه لتذكيره بذلك أو لتعليمه باستحباب ذلك.
3- ومن هذه الآداب الدعاء في السفر وذلك لك ولإخوانك وغير ذلك، لأن دعوة المسافر مستجابة، قال صلى الله عليه وسلم: “ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده”([36]).
4- ومن الآداب أيضا أثناء السفر، تأدية صلاة التطوع على الدابة فهذا أمر مشروع فينبغي للمسافر أن يستفيد من وقته حال سفر. لكن هذا الحكم مخصوص بغير السائق أما السائق فلا ينبغي له فعل ذلك حال سير السيارة فإن ذلك قد يؤدي إلى ما فيه أذية له ولمن معه. وهنا أيضا ينبغي أن نقول: إن هذا الحكم مخصوص بصلاة التطوع، أما الفريضة فلا لاشتراط القبلة، ففي حديث جابر رضي الله عنه: “فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة”([37]).
ومن أراد أن يصلي على الراحلة تطوعا فإنه يكبر لها حال استقبال القبلة متى أمكنه ذلك، أما مع عدم الإمكان فيكبر على أي جهة كانت، ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلة تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة ثم صلى على راحلته فصلى حيثما توجهت”([38]).
5- ومن الآداب أيضا إعطاء المسافر قدرا من الراحة وبخاصة إذا كان متعبا مرهقا وبه نوم لأن ذلك فيه خطورة عليه فمعظم الحوادث التي نراها ونسمع عنها تكون بسبب عدم أخذ قسط من الراحة حال السفر وإذا نظرنا لهديه صلى الله عليه وسلم نجد فيه الوصية بذلك! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير، وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق فإنها مأوى الهوام بالليل”([39]).
فيستفاد من هذا الحديث أنه ينبغي إعطاء الدابة كالسيارة وغيرها قسطا من الراحة حتى لا يعرضها لتلف وبخاصة إذا كانت المسافات طويلة.
وأيضا ينبغي النزول للراحة لكي يعاود الإنسان نشاطه وإن احتاج للنوم فعل.
وأيضا ينبغي حال الراحة اجتناب الطريق حتى لا يعرض الإنسان نفسه لهوام الأرض وغيرها.
6- ومن الآداب أيضا: تعجيل العودة إلى الأوطان والأهل إذا انتهى المسافر من مطلوبه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله”([40]).
7- ومن الأمور المستحبة للمسافر أن يسلك الطرق التي فيها محطات وقود أو التي عليها منافع كثيرة، لأنه قد يحتاج لذلك وأن يأخذ معه بعض الأشرطة النافعة الهادفة التي تقطع عليه طريقه بالعلم النافع المفيد وإن كانوا مجموعة جعلوا لهم مسابقة هادفة تحتوي على أمور ثقافية وألغاز تحرك الأذهان وغير ذلك مما هو مفيد.
المسألة الثالثة: في الآداب التي ينبغي الحرص عليها عند إرادة الرجوع وبعد القدوم إلى بلده:
هناك آداب مشتركة بين ما ذكر وبين الآداب التي ينبغي الحرص عليها أثناء القدوم وبعد القدوم.
فمن الآداب المشتركة بينهما:
1- دعاء ركوب الدابة مع إضافة عليه ما جاء عن ابن عمر عند البخاري: “آيبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده” مع تكرار ذلك.
2- التكبير والتسبيح والتهليل على كل شرف أو إذا هبط واديا.
3- صلاة التطوع.
4- كذا الدعاء في السفر.
أما الآداب التي ينبغي التنبه لها بعد القدوم:
1- عدم طرق الأهل ليلا ومعنى الطرق الدخول عليهم ليلا فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بل كان صلى الله عليه وسلم لا يفعله، ففي صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله عنه: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق أهله ليلا “([41]). وكان صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله إلا غدوة وعشيا([42]). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك حيث قال: “كي تمتشط الشعسة وتستحد المغيبة”([43]).
لكن هذا الحكم قيد بطول الغيبة عنهم أما الذي يخرج ليلا ويرجع نهارا أو العكس فهنا يجوز له ذلك. ودليل ذلك رواية جابر وفيه: “إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا”([44]).
لكن من الأمور التي ولله الحمد يمكن للمسافر استغلالها وسلوكها عند هذا الأدب الاتصال بهم إما من خلال التليفون أو الجوال لكي يتأهبوا لذلك، أما الدخول عليهم خلة فهذا أمر منهي عنه كما ذكرنا.
2- صلاة ركعتين في المسجد عند القدوم من السفر. وهذا لفعله صلى الله عليه وسلم ولأمره والأمر فيها للاستحباب. أما دليل فعله صلى الله عليه وسلم حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وفيه: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر ضحى، دخل المسجد وصلى ركعتين قبل أن يجلس”([45]).
أما دليل أمره صلى الله عليه وسلم فمن حديث جابر رضي الله عنه قال: “كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما قدمنا المدينة قال لي: ادخل فصل ركعتين”([46]).
وهاتان الركعتان ليستا تحية المسجد وإنما هما مقصودتان للقدوم.
رابعا: أمور لا ينبغي ارتكابها في السفر:
ذكرنا فيما سبق جملة من الآداب التي ينبغي مراعاتها لمن أراد سفرا غير أن البعض هداهم الله حين إرادة السفر تراهم يقعون في أمور محرمة منهي عنها وسنذكر جملة من هذه الأمور، ومنها:
1- السفر من أجل ارتكاب ما حرمه الله تعالى، ونعني به سفر المعصية من أجل شرب خمر وارتكاب فاحشة الزنا واللواط والفجور بشتى أنواعه. وكذا السفر من أجل إسقاط أمر مشروع كمن يسافر من أجل الفطر في رمضان مثلا فكل هذه الأنواع من السفر محرمة فالوسائل لها أحكام مقاصدها.
2- بعض المسافرين يأخذون معهم الأشرطة التي بها غناء وموسيقى بحجة قطع عناء السفر وهذا لا شك أمر محرم لأن سماع الغناء محرم بنص الكتاب والسنة.
3- وبعضهم يأتي بشراء كمية كبيرة من الدخان ووضعها معه من أجل أنه قد لا يستطيع شراءها في أثناء السفر وكل هذا محرم فالتدخين حرام سواء كان الإنسان مسافرا أو غير مسافر.
4- بعض النساء يسافرن بلا محرم وهذا منهي عنه فقد قال صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذي محرم”([47]).
5- من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها هو أن بعض الناس يقصدون بسفرهم الذهاب إلى الأماكن الأثرية التي جاءت نصوص السنة بالنهي عن الدخول إليها كما نراه فيمن يذهب إلى مدائن صالح مثلا من غير حاجة. فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا ماءها فقالوا: قد عجنا منها وأسقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء”([48]).
ويلحق بذلك الذهاب إلى زيارة الأماكن الوثنية وغيرها كمن يذهب إلى زيارة الفراعنة ودخول الأهرامات التي بمصر بغرض رؤيته التماثيل الموجودة بها فكل هذا منهي عنه. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسع بالسير حتى أجاز الوادي”([49]).
6- من الأمور الملاحظة أيضا الغيبة والنميمة بين المسافرين وهذا منهي عنه في السفر وغيره لكن لما كان السفر العرضة فيه لحصول المكروه أكثر فينبغي للمسافر أن يتجنب ذلك فلربما حصل له حادث مثلا فيموت بسببه فيلقى الله وهو عاص له فعلى المسافر أن يشغل نفسه بطاعة ربه بالذكر والدعاء والاستغفار وبما فيه نفع له في دينه ويبتعد عن هذه الأمور.
7- ومن الملاحظ أيضا كثرة اللغط والانشغال بسفاسف الأمور في السفر وكل هذا لا ينبغي كما ذكرناه.
8- ومن الأمور التي قد تحدث وبخاصة في رحلات السفر خارج المملكة التهاون بشأن الصلاة وبخاصة صلاة الصبح فإن الكثير من المسافرين يؤخرونها إلى وقت الضحى أو بعد شروق الشمس أو يصليها مع الظهر وكل ذلك لا يجوز بل على المسافرين أمر السائق بالوقوف لتأدية صلاة الفجر في وقتها فإن أبى وأصر فعليهم أن يصلوها داخل الحافلة على قدر استطاعتهم ولا يسوغ لهم تأخيرها عن وقتها ثم يجب على من كان حريصا على دينه أن يتصل بالمسؤولين عن هذه الشركات العاملة في هذا المجال وإشعارهم بهذا الأمر وحثهم على مراعاة أوقات الصلوات.
9- ومن الأمور التي تصل بصاحبها إلى الخطأ هو الاعتماد على الأسباب أو عدم الأخذ بها ودين الإسلام وسط بين التفريط والإفراط فعلى الإنسان إذا كان مسافرا أن يأخذ بأسباب السلامة وتفويض الأمر إلى الله تعالى، فيقوم بإعداد السيارة مثلا المعدة للسفر وفحصها فحصا جيدا ثم يتوكل على الله بعد ذلك.
10- ومن الأمور التي قد تصدر من الإنسان التلفظ بالألفاظ التي قد توقعه في الشرك فمن ذلك أنك تسمع من بعض الناس إذا حصل له أمر في سفر فيقول لولا فلان السائق ومهارته لاصطدمت السيارتان أو لحصل كذا، وهذا شرك كما بينه ابن عباس رضي الله عنه. فكون الإنسان يكل الأمر إلى السائق وحداقته فهذا خطأ بل عليه أن يجعل سلامته من قبل ربه ومولاه سبحانه وتعالى والسائق سبب في ذلك.
11- ومن الأمور التي يغفل عنها الكثير من المسافرين في أثناء سيرهم التهاون بأذكار الصباح والمساء وهذا قد شاهدناه ورأيناه، فعلى المسافرين أن لا يفرطوا فيها فإنها سبب شرعي من أسباب السلامة إن شاء الله([50]).
خامسا: حكم القصر:
اختلف أهل العلم في حكم قصر الصلاة هل هو واجب أم رخصة فذهب الحنفية وبعض العلماء إلى أن قصر الصلاة واجب واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها: “إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر”([51]).
واستدلوا أيضا بفعله صلى الله عليه وسلم: “فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر صلى ركعتين ولم يحفظ عنه أنه صلى أربعا في سفر قط بل كان أسفاره الطويلة والقصيرة كان يصلي ركعتين”([52]).
بل إن إجماع المسلمين انعقد على ذلك كما قال ابن عمر: “صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يزيدون على ركعتين في السفر”([53]). وذهب أكثر أهل العلم إلى القول بأن قصر الصلاة رخصة سفر والأصل أن الرخص تفعل عند المناسبة وتفعل عند وجود سببها. فعلى هذا قصر الصلاة ليس واجبا ولكنه أفضل لأدلته وتتأكد الأفضلية مع المشقة ومن أتم في سفره فقد ترك الفضل وصلاته صحيحة ولا إثم عليه.
سادسا: شروط قصر الصلاة:
لم تكن هناك شروط متفق عليها بين الفقهاء لكي يشرع للمسافر قصر الصلاة إلا شرطا واحدا وهو كون المصلي مسافرا مع اختلافهم في المسافة التي يجوز فيها القصر وغيرها من الشروط الأخرى.
ونظرا لأهمية هذا الأمر سأتكلم عن الشروط التي وضعها بعض الفقهاء لإباحة قصر الصلاة مع بيان الراجح عندي.
فأقول: يجوز قصر الصلاة بشروط ستة:
الشرط الأول: أن تكون مسافة القصر مبيحة للقصر: وهذا الشرط اختلف فيه الفقهاء – رحمهم الله ـ: فذهب البعض إلى أن المسافة المبيحة للقصر وكذا الفطر مسيرة ثلاثة أيام. وذهب البعض إلى أن المسافة المبيحة للقصر والفطر مسيرة يوم واحد فقط. وقال البعض: ليس هناك حد للمسافة وللوقت والمرجع في ذلك إلى العرف، فمتى سماه العرف سفرا فيجوز قصر الصلاة فيه، وذهب جمهور أهل العلم وهو الصحيح إن شاء الله إلى أن المسافة التي يجوز فيها القصر والفطر هي مسيرة يومين كاملين فأكثر وتعادل بالكيلو متر (ثمانين كم) تقريبا.
وذلك لأن مسافة يومين تحتاج إلى الاستعداد وفيها مشقة ظاهرة، وبهذا القول أخذ جماعة من الصحابة والتابعين وتبعهم على ذلك الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
سؤال: إذا شك الإنسان في المسافة هل هي ثمانين كيلو أم أقل؟
في هذه الحالة نقول له لا يباح لك القصر لأن الأصل الإتمام فلا يزول بالشك.
الشرط الثاني: كون السفر مباحا: ذكرنا فيما سبق أن الأسفار تنقسم إلى خمسة أقسام، أي تدور مع الأحكام التكليفية الخمسة، وذكرنا أن من أنواع السفر: السفر المباح، والمراد به ما ليس بحرام ولا مكروه، فإذا سافر الإنسان سفر معصية قال جمهور أهل العلم أنه لا يجوز له قصر الصلاة لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها.
قال ابن قدامة رحمه الله: “فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق، والتجارة في الخمر، لم يقصر ولم يترخص بشيء من رخص السفر لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها ولا يرد الشرع بذلك”([54]).
وذهب آخرون منهم أبو حنيفة رحمه الله وشيخ الإسلام وبه قال النووي والأوزاعي وغيرهم أنه لا يشترط الإباحة لجواز القصر بل يقصر وإن كان مسافرا سفر معصية، وحجتهم في ذلك أن القصر ليس برخصة فإن صلاة ركعتين الظهر والعصر والعشاء بدلا من أربعة ركعات ليست تحويلا من الأربع إلى ركعتين، بل هما في الأصل ركعتان.
وقد بحثت في هذه المسألة وتحريت الصواب فيها، ولكنني لم أصل إلى ترجيح، فأنا أتوقف في هذا الحكم.
الشرط الثالث: أن يشرع في السفر ويفارق عامر قريته: هذا الشرط اختلف فيه أهل العلم على قولين: فذهب الأكثر منهم الحنابلة وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق إلى أنه ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته ويجعلها وراء ظهره. واستدلوا بقوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}[النساء:101]، فقالوا: لا يكون ضاربا في الأرض إلا إذا شرع في السفر.
وقال البعض: أن من نوى السفر يقصر ولو في بيته.
والصحيح ما ذهب إليه الأولون من أنه لا يقصر إلا إذا فارق عامر قريته فمتى ما شرع فيه وفارق محل الإقامة في الحضر أو البادية جاز له القصر، وهنا تعرض للإنسان بعض الأسئلة منها:
السؤال الأول: ما معنى مفارقته محل إقامته؟
الجواب: ليس المراد بها أن يغيب عن قريته لأنها المفارقة البدنية أي أن يتجاوز البيوت ولو بمقدار يسير.
السؤال الثاني: ما المراد بعامر القرية؟
من المعلوم أن هناك فرقا بين قولنا عامر القرية وبيوت القرية فإنه قد يكون هناك بيوت متطرفة عن القرية كأن تكون بيوت خربة أو قديمة وتركت فلم تسكن فهنا لا اعتبار لهذه البيوت فالعبرة بمفارقة البيوت العامرة.
السؤال الثالث: لو أن هناك قريتين متجاورتين لم يكن بينهما إلا مسافة ذراع أو أقل لكن لهذه القرية مسمى والأخرى مسمى فمتى يقصر هل يقصر إذا فارق قريته أم القرية الثانية؟
نقول العبرة بمفارقة قريته وإن كانت الأخرى ملاصقة أو مجاورة لها.
السؤال الرابع: جماعة يسكنون في الخيام متى يقصرون؟
نقول: يقصرون إذا فارقوا الخيام ولو بقدر يسير.
السؤال الخامس: إذا كان في القصيم مثلا ثم خرج إلى المطار هل يقصر؟
الجواب: نعم، يقصر لأنه فارق عامر قريته فجميع القرى التي حول المطار منفصلة عنه. أما إن كان من سكان المطار فإنه لا يقصر في المطار.
السؤال السادس: إذا قدر أنه لم يسافر بعد قصره للصلاة لأمر حدث له هل يعيد الصلاة التي قصرها؟
نقول: لا يعيد لأنه أتى بها على الوجه المشروع فتكون صحيحة.
الشرط الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام بالصلاة:
وهذا الشرط محل خلاف بين الفقهاء.
فمنهم من قال: إذا لم ينو القصر قبل الإحرام بالصلاة فإنها تنصرف إلى الإتمام لزمه.
وقال آخرون: إنه لا تشترط نية القصر قبل الشروع فيها، فلو أنه نسي أنه مسافر فلما دخل في الصلاة تذكر أنه مسافر فنوى القصر فلا بأس بذلك فيقلب نية الإتمام إلى القصر ولا شيء عليه حيث أنه لم يعمل ما تختل به صلاته وأنه مسافر يصلح له أن يترخص بالقصر.
والذي أرجحه في هذه المسألة أنه: متى نوى الإتمام لزمه الإتمام، ومتى نوى القصر لزمه القصر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات”. وإذا لم ينو القصر ولا الإتمام فيرى شيخنا رحمه الله محمد الصالح العثيمين أنه يقصر والراجح عندي الإتمام أخذا بالأحوط فمتى نسي نية القصر قبل شروعه في الصلاة، والله أعلم.
الشروط الخامس: أن لا تكون الصلاة وجبت في حضر:اختلف أهل العلم في هذه المسألة. فذهب البعض إلى القول بأنه إذا تذكر الإنسان صلاة حضر في سفر أنه يقصرها لقوله صلى الله عليه وسلم : “من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها” أي فليصلها كما هي. وذهب آخرون إلى أنه يلزمه أن يصليها أربعا لأنها صلاة وجبت عليه في الحضر فلزمه الإتمام، وهو الراجح عندي أخذا بالأحوط كما ذكرت .
سؤال: إذا ذكر صلاة سفر في حضر هل يتمها أم يصليها قصرا؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقصرها لأنها وجبت عليه في سفر وصلاة السفر مقصورة فلا يلزمه الإتمام.
وذهب آخرون وهو الصحيح إلى أنه يلزمه إتمامها لأن القصر رخصة في السفر وقد زال السفر فيلزمه الإتمام وذهب آخرون وهو الصحيح إلى أنه يلزمه إتمامها لأن القصر رخصة في السفر وقد زال السفر فيلزمه الإتمام
الشرط السادس: أن لا يأتم بمقيم: فمتى ائتم بمقيم فلا يجوز له قصر الصلاة ويلزمه الإتمام سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها.
دليل ذلك ما جاء في المسند عن موسى بن سلمة أنه قال: “كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟ قال: تلك سنة أبى القاسم صلى الله عليه وسلم([55]).
الشرط السابع: أن يكون القصر واقعا في مدته: وهذا الشرط اختلف فيه أهل العلم على قولين: منهم من أطلق ولم يقيد مدة جواز القصر فقال أنه لا يشترط لذلك مدة ما دام أنه مسافر. وقال جماهير أهل العلم أنه لا بد من أن يكون القصر واقعا في مدته وهي أربعة أيام فأقل لمن عزم على الإقامة، وهذا هو الصحيح. لكن لو أن إنسانا لم يحدد مدة سفره أي رحيله وعودته إلى مكان إقامته فإن يجوز له القصر في هذه الحالة وإن تجاوزت المدة أربعة أيام.
الشرط الثامن: النية عند إرادة السفر: فالنية شرط في اعتبار السفر المبيح للقصر وذلك لأن السفر قد يكون سفرا مقصودا وقد يكون غير مقصود، فمن خرج من بيته إلى موضع ما طلبا لحاجة معينة ثم تبدو له حاجة أخرى تجعله يقطع مسافة طويلة بدون قصد السفر مع كونه تجاوز مسافة القصر فإنه لا يشرع له القصر لاشتراط النية في السفر، ولكن هناك بعض الأسئلة التي يحسن ذكرها في هذا الشرط.
سؤال: هل العبرة في التابع نيته أم تجزئ عنه نية المتبوع؟
وصورة هذه المسألة: امرأة خرجت مع زوجها فهي تابعة له فهل تجزئ نية الزوج عنها في إباحة القصر أم يشترط انعقاد نية السفر لها.
نقول: هذه المسألة لها حالتان:
الأولى: أن يكون التابع عالما بمكان السفر فهنا يجوز له القصر بلا خلاف بين الأئمة الأربعة.
الحالة الثانية: أن يجهل التابع جهة السفر.
واختلف فيها على قولين:
القول الأول: وهو قول الحنفية بأنه يجوز له القصر أي يجوز للتابع القصر وعللوا ذلك بأن العبرة بنية الأصل دون التابع وذلك لأن حكم التبع حكم الأصل وهذا أيضا هو ظاهر قول الحنابلة.
القول الثاني: وهو قول الشافعية، فقالوا بالتفصيل في هذا الحكم. فإذا تبع العبد أو الزوجة أو الجندي صاحب أمره كالسيد أو الزوج أو الأمير في السفر ولا يعرف كل واحد مقصده فلا قصر له لأن الشرط لم يتحقق وهذا قبل بلوغهم مسافة القصر، فإن قطعوها قصروا وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم. وإن عرفوا أن مقصدهم مرحلتان وقصدوه قصروا. فإن نووا القصر وكان الجندي غير مثبت في الديوان أي بأن كان متطوعا – قصر هو دونهما لأنه حينئذ ليس تحت يد الأمير وقهره بخلافهما فنيتهما كالعدم، أما المثبت في الديوان فهو مثلهما والصحيح أنه يقصر في كل حال ما دام أنه مسافر.
سؤال: في حكم قصر الأسير والمكره.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على اختلافهم في المسألة التي قبلها فذهب الحنفية والحنابلة والمالكية إلى أنه إن كان سفره بعيدا فله القصر مطلقا وفصل الشافعية في هذه المسألة.
فقالوا: إن كان لا يعلم أين يذهبون به لم يقصره، فلو سار معهم يومين قصر بعد ذلك. أما إذا علم الموضع الذي يذهبون إليه: فإن كان في نيته أنه إن تمكن من الهرب هرب لم يقصر قبل مرحلتين، وإن نوى قصد ذلك البلد أو غير ولا معصية في قصده قصر في الحال إن كان بينهما مرحلتين.
والصحيح كما ذكرته في السؤال الذي قبله أنه يقصر على كل حال ما دام سفر.
سؤال: هل يجب عقد نية قصر الصلاة في أثناء السفر؟
الجواب: لا يلزم عقد نية قصر الصلاة في أثناء السفر أو قبله ولكن يكفي في ذلك نية السفر لأن عقد نية قصر الصلاة يكون قبل فعلها لا عند بدء السفر.
سابعا: في الصلوات التي تقصر مع بيان كيفية القصر:
الصلوات التي تقصر هي الصلوات الرباعية يعني صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما الثلاثية فلا تقصر وذلك لأنه لو قصرت لفات المقصود فيها وهي الوترية وكذا الثنائية لو قصرت لفات المقصود منها لكونها أصبحت وترية.
والحاصل: أننا مأمورون باتباع النصوص الشرعية فإن ظهرت لنا الحكمة فبها ونعمت، وإلا فما علينا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، فالصلوات الرباعية هي التي تقصر وغيرها لا يقصر. ومعنى القصر وكيفيته هو أن يجعل الصلوات الرباعية ركعتين ثم يسلم ويكون ذلك بالشروط التي بيناها سابقا في شروط قصر الصلاة.
ثامنا: ذكر بعض المسائل الهامة المتعلقة بقصر الصلاة:
المسألة الأولى: من أحرم بالصلاة في بلده ثم شرع في سفره هل يشرع له قصر الصلاة. الصحيح من أقوال أهل العلم أنه يلزمه إتمام الصلاة لأنه ابتدأ بالصلاة في حال يلزمه فيها الإتمام.
المسألة الثانية: من أحرم بالصلاة قبل أن يدخل بلده. هذه أخت سابقتها يعني أنه يلزمه الإتمام. وهاتان المسألتان يعني الأولى والثانية قد اجتمع في كل منهما سببان أحدهما يبيح القصر والثاني يمنعه فغلب جانب المنع وذلك لأنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فالحكم للحاظر.
المسألة الثالثة: مسافر ائتم بمقيم في صلاة الظهر ولم يدركه إلا في الركعتين الأخيرتين هل يجلس ويسلم لكونه مسافرا ويحق له القصر أم عليه الإتمام.
الجواب: يجب عليه الإتمام حتى وإن لم يدرك معه إلا التشهد الآخر يجب عليه إتمامها أربعا ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعا لائتمامه بالمقيم.
المسألة الرابعة: إذا ائتم مسافر بمن يظن أنه مقيم أو شك في ذلك هذه الحالة للمسافر فيها أحوال:
الأولى: أن يدخل مع الإمام مترددا في نيته بين الإتمام والقصر فهنا يجب عليه الإتمام وإن قصر إمامه وذلك لأن من شروط القصر كما ذكرنا سابقا النية فمتى تردد فيها فلا يجوز له القصر لأنه لم يكن جازما في نيته.
الحالة الثانية: أن يدخل ناويا القصر فهنا إن قصر إمامه قصر إن أتم إمامه يجب عليه الإتمام لوجوب متابعة الإمام في هذه الحالة كما بينا ذلك في شروط القصر.
الحالة الثالثة: أن يدخل في الصلاة ناويا الإتمام فعليه أن يتم وإن صلاها إمامه قصرا لاشتراط نية القصر.
الحالة الرابعة: أن يعلق نيته: ومعنى تعليقه النية أن يقول: إن قصر إمامي قصرت وإن أتم أتممت فهنا إن قصر إمامه ففرضه القصر، وإن أتم إمامه ففرضه الإتمام.
لكن قد يقول قائل هذا دخل في الصلاة بنية مشكوك فيها، نقول: هذا لا يدخل في الشك، وإنما هو من باب تعليقه الفعل بأسبابه.
المسألة الخامسة: إذا أحرم بالصلاة مع إمام مقيم ثم فسدت صلاة الإمام وأراد إعادتها هل يلزمه الإتمام؟ يرى ابن قدامة وبعض الفقهاء أنه يلزمه الإتمام وإن أعادها لأنها وجبت عليه تامة بتلبسه بها خلف المقيم وفيه الإتمام([56])، والراجح أن المسافر يعود إلى حاله فله أن يقصر إذا صلى وحده أو مع جماعة يقصرون. وذلك لأن صلاته التي شرع فيها إنما يلزمه إتمامها تبعا لإمامه لا من الأصل وبعد أن فسدت زالت التبعية فلا يلزمه إلا صلاة مقصورة.
المسألة السادسة: مسافر دخل وقت الصلاة وهو في السفر، ثم دخل البلد.
هنا يجب عليه الإتمام اعتبارا بحال الصلاة، أما لو دخل وقت الصلاة وهو في البلد ثم سافر فإنه يقصر.
المسألة السابعة: من أحرم بالصلاة ولم ينو القصر ولا الإتمام؟
اختلف فيها أهل العلم، وذلك على حسب حكم القصر. فمنهم من قال: يتم؛ لأنه الأصل فإطلاق النية ينصرف إليه والأحوط عندي الإتمام.
المسالة الثامنة: من شك في نيته هل نوى القصر أم الإتمام؟
قولان لأهل العلم: فمنهم من قال أنه شك في نية القصر لزمه الإتمام، وقال آخرون لا يلزمه الإتمام فإن قصر جاز له ذلك لأن الأصل في صلاة المسافر القصر ولأن من شك في وجود شيء أو عدمه فالأصل العدم فأشبه هنا من لا نية له. والأحوط عندي الإتمام فإنه لو صلاها تامة فلا خلاف في صحتها وإن صلها قصرا وقع في ذلك الخلاف هل تصح أم لا، فهنا أقول بالأحوط والأبرأ للذمة.
المسالة التاسعة: من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام؟
هنا نقول يلزمه الإتمام وهذا هو الصحيح، فمتى نوى إقامة تزيد على الأربعة أيام فإنه يلزمه إتمام الصلاة لأنه يأخذ أحكام المقيم في هذه الحالة سواء كان سفره لتجارة أو دراسة أو غير ذلك من الأمور المباحة.
أما إن نوى إقامة أربعة أيام فأقل أو أقام لقضاء حاجة لا يدري متى ينقضي فله القصر لعدم انقطاع أحكام السفر في حقه حتى وإن طالت المدة كمن سافر للعلاج ولا يدري متى ينتهي.
المسألة العاشرة: إذا كان السفر مباحا فغير نيته إلى معصية والعكس إذا كان السفر معصية فغير نيته إلى مباح.
فعلى قول من اشترط كون السفر مباحا لكي يقصر يقولون: انقطع الترخص لزوال سببه.
ومن قال بعدم اشتراط الإباحة في السفر يقولون بأنه لا يؤثر ذلك في شيء وله القصر بناء على ما ذكرناه في شروط السفر. لكن على قول من قال باشتراط الإباحة من أين تعتبر مسافة القصر.
يقولون: تعتبر مسافة السفر من حيث غير النية. فإن كان سفرا مباحا فنوى المعصية بسفره اعتبرت مسافة القصر من حيث رجوعه إلى نية المباح لأن حكم سفره انقطع بنية المعصية. أما إن كان السفر مباحا لكن قد يعصي الله فيه كنظر إلى محرم أو ارتكاب ما هو محرم كمن يسافر إلى الدراسة على اعتبار أنها رخصة في السفر إلى بلاد الكفر ثم يعصي الله فيها هل نقول له لا تقصر لأن سفرك معصية. نقول: لا، لأن السبب هو السفر المباح وقد وجد فثبت حكمه ولم يمنعه وجود معصية كما أن معصيته في الحضر لا تمنع الترخص فيه.
المسألة الحادية عشر: فيمن اعتقد تحريم القصر هل له أن يقصر؟
من صلى معتقدا تحريم القصر فصلاته فاسدة لفعله ما يعتقد تحريمه.
المسألة الثانية عشر: رجل سافر من أجل أن يترخص فهل يترخص كمن سافر من أجل أن يفطر أو يجمع الصلاة أو يقصر؟
الجواب: لا، لأن السفر هنا حرام ولأنه يعاقب بنقيض قصده فكل من أراد أن يتحايل على إسقاط واجب أو فعل محرم عوقب بنقيض قصده.
المسألة الثالثة عشر: من خرج من بيته غير قاصد للسفر ثم تبين له أنه في مسافة قصر هل يشرع له القصر؟
لا يجوز له القصر لعدم وجود نية السفر كمن خرج من بلده يتمشى أو يتتبع الصيد مثلا أو خرج فضل الطريق كل ذلك بلا نية للقصر فهنا لا يجوز له القصر لأنه لم ينو مسافة القصر وكذا من خرج لطلب إبل شاردة لأنه لم ينو مسافة القصر.
واختار شيخنا رحمه الله محمد الصالح العثيمين أنه يقصر لأنه على سفر.
المسألة الرابعة عشرة: إذا أحرم بالصلاة وهو مقيم ثم سافر.
ذهب بعض أهل العلم إلى القول بأنه يشرع له القصر ما دام أنه مسافر لعدم اشتراط النية في القصر. والصحيح أنه يلزمه الإتمام للآتي:
الأول: اشتراط نية القصر قبل الشروع فيها.
الثاني: انه ابتدأ الصلاة في حال يلزمه إتمامها فلزمه الإتمام.
الثالث: الأخذ بالأحوط.
الرابع: أن القاعدة العامة إذا اجتمع مبيح وحاظر قدم جانب الحظر.
المسألة الخامسة عشرة: أحوال قصر الصلاة مع كل من الملامح – سائقي سيارات الأجرة، وغيرهم؟
الحالة الأولى: أن يكون الملاح أو قائد السيارة ومن في حكمهم له وطن وأهله مقيمون به وهو يجوب خارج الوطن ثم يرجع إليهم. فهنا يجوز له القصر؛ لأنه مسافر وليس معه أهله بل له بلد يأوي إليه.
الحالة الثانية: أن لا ينوون الإقامة ببلد ومعهم أهلهم يعني لا ينوون الإقامة ببلد المغادرة ولا ببلد الدخول. فهنا عليهم الإتمام لأن بلدهم في هذه الحالة السفينة.
الحالة الثالثة: أن لا يكون لهم أهل في بلد لكنهم ينوون الإقامة في بلد يعتبرونه مثواهم ومأواهم، فهنا يجوز لهم القصر لأنهم مسافرون حتى يرجعوا إلى تلك البلد الذي نووا الإقامة بها.
المسألة السادسة عشرة: إذا كان للمسافر طريقان فاختار أبعدها ليأخذ برخصة القصر. معنى هذه المسألة: رجل يريد أن يسافر إلى بلد وهذا البلد له طريقان أحدهما يبلغ المسافة التي يجوز له القصر فيها والطريق الآخر لا يبلغ المسافة فاختار الأبعد فإنه يقصر لأنه يصدق عليه أنه مسافر سفر قصر.
لكن هل يجوز له الفطر إن كان في رمضان.
الصحيح أنه لا يجوز له الفطر لإمكانه أن يسلك الطريق الأقصر بدون فطر وقيل: بل له الفطر كالقصر.
المسألة السابعة عشرة: إذا ذكر صلاة سفر في سفر آخر هل يتمها أم يقصرها؟
الصحيح أنه يقصرها لأنها وجبت في السفر أداء وقضاء.
المسألة الثامنة عشرة: من حبس بأي نوع من أنواع الحبس ولم ينو إقامة.
فإنه يقصر وإن طالت مدة الحبس ما دام لم ينو إقامة فمن حبس ظلما أو حبس بحق أو حبسه عذر أو مرض أو بسبب تغيرات جوية وغيرها من الموانع الأخرى فإنه يقصر لكن يشترط أنه لم ينو الإقامة.
المسألة التاسعة عشرة: في الإقامة المطلقة والإقامة المقيدة؟
معنى الإقامة المطلقة: هو أن ينوي المسافر إلى بلد ما أنه مقيم بها ما لم يوجد سبب آخر يقتضي مغادرته، كمن يسافر إلى بلد ما بحثا عن الرزق بها أو سفراء الدول وغيرهم فإنهم يأخذون حكم المستوطنين لكون إقامتهم مطلقة.
فلا يجوز هنا لمن كانت إقامته مطلقة أن يقصر الصلاة ويلزمهم الصوم في رمضان ولا يزيدون عن يوم وليلة في المسح .
معنى الإقامة المقيدة : هو أن ينوي المسافر فيها أنه سيرجع إلى بلده بعد مدة معلومة وهذه لا تخلو من أمرين:
الأول: أن يقيد الإقامة بزمن:
فإن كان الزمن أكثر من أربعة أيام فإنه لا يجوز له القصر على القول الصحيح من أقوال أهل العلم كما بينا ذلك سابقا.
الثاني: أن يقيد الإقامة بعمل:
بمعنى أن يقول متى انتهيت من هذا الأمر سأرجع إلى بلدي فهنا لم يقيد الإقامة بوقت وإنما قيدها بعمل فهنا يشرع له القصر وإن طالت المدة ما دام الحامل على الإقامة الحاجة حتى وإن غلب على ظنه أنه سيطول.
المسالة العشرون: أحوال المسافر للعلاج في قصر الصلاة؟
لا يخلو من سافر للعلاج من حالتين:
الأولى: أن يعلم يقينا أنه سيبقي في سفره مدة تتجاوز الأربعة أيام كعشرة أيام مثلا فإنه لا يشرع له القصر ما دامت المدة معلومة لديه ومن المعلوم كما ذكرنا أنه لا يشرع القصر في الزيادة عن أربعة أيام فمتى زاد عليها أتم.
الحالة الثانية: أن لا يدري متى ينتهي من العلاج. فهنا يشرع له القصر وإن طالت المدة لأن إقامته هنا مطلقة أي غير محددة بزمن.
المسألة الحادية والعشرون: من قصد سفرا للنزهة هل يجوز له القصر؟
نعم يجوز لهم القصر إذا كانت المسافة التي قطعوها مسافة قصر وكذا يجوز لهم الجمع بين المغرب والعشاء في وقت أحدهما والجمع بين الظهر والعصر في وقت أحدهما أيضا سواء كان خروجهم للنزهة أو للتجارة أو الجهاد لأن الكل يعد سفرا ولم يأت في الشرع اختصاص سفر عن سفر ما دام أنه سفر مباح فلا خلاف في جواز قصر الصلاة فيه.
المسألة الثانية والعشرون: في حكم من قصر صلاة المغرب إلى ركعتين.
من قصر صلاة المغرب فعليه إعادتها لأن القصر خاص بالصلاة الرباعية فلا تقصر صلاة الصبح إلى ركعة مثلا ولا صلاة المغرب إلى ركعتين وقد ذكرنا طرفا من ذلك، عند بيان كيفية قصر الصلاة.
المسألة الثالثة والعشرون: إذا رست إحدى السفن بركابها في مكان بالبحر لسبب ما هل يشرع لهم القصر. إذا رست السفينة بالركاب في مكان ما بالبحر لسبب يقضي بإقامتهم في هذا المكان أكثر من أربعة أيام صلوا تماما لا قصرا كل صلاة في وقتها، وإذا كان يقضي بإقامتهم به أربعة أيام فأقل أو كان الركاب لا يدرون متى تقلع من مكانها وتسير بركابها صلوا قصرا وجمعا.
المسألة الرابعة والعشرون: هل يجوز قصر الصلاة عند محطة القطار؟
في هذه المسألة تفصيل: فإن كانت محطة القطار خارج المدينة وليست متصلة بها فيجوز للمسافر القصر وكذلك الجمع عندها، إذا كان عزم على السفر. أما إن كانت المحطة داخل أبنية المدينة فلا يجوز القصر وكذا الجمع.
المسألة الخامسة والعشرون: في حكم قصر الصلاة لموزعي البريد.
لا يخلو موزع البريد من حالتين:
الأولى: أن يوزع في البلد الذي هو فيها مع كونه قد يقطع فيها مسافة أكثر من مسافة القصر فهنا لا يشرع له القصر وكذا الجمع.
الثانية: أن يوزع خارج البلد الذي يعمل فيها فهنا يجوز له الجمع والقصر إذا كانت المسافة بين البلدين ثمانين كيلو مترا فأكثر لأنه يعتبر مسافرا.
المسألة السادسة والعشرون: من وصل إلى بلده من السفر وقد نوى الجمع بين الصلاتين هل يقصرهما إذا وصل: في هذه المسألة لا يشرع له الجمع وكذلك القصر بكل حال لانقطاع رخصتهما وهي السفر وعليه الإتمام، ولكن في الجمع تفصيل، فإذا وصل إلى بلده وقد نوى الجمع في وقت الأولى ثم أدركه الوقت يعني وقت الصلاة الأولى فيصليها فإذا حضر وقت الثانية صلاها في جماعة في المسجد ولا يشرع له الجمع، فمن نوى جمع الظهر مع العصر فوصل إلى بلده في وقت الظهر فيصلي الظهر ولا يشرع له جمع العصر معها.
أما إن وصل في وقت الثانية فإنه يصليها إذا أدركها مع الجماعة بناء على ما ذكرنا سابقا في المسألة الأولى من مسائل الجمع وغيرها من المسائل، ولكن هل يدخل معهم بنية الثانية أم الأولى ذكرنا طرفا من الخلاف في هذه المسألة مع بيان الراجح فيها في مبحث الجمع فليراجع.
المسألة السابعة والعشرون: من صلى منفردا قصرا ثم وجد جماعة تصلي هل يشرع له الدخول معها بعد انتهائه.
نعم يشرع له ذلك كي يدرك فضل الجماعة ولكن وقعت الأولى فرضا وصلاته مع الجماعة تصير نفلا له.
المسألة الثامنة والعشرون: رجل مسافر أدركته صلاة العصر مع جماعة في المسجد وقد قصر صلاة الظهر فهل يصلي الظهر قصرا والعصر كاملة مع الجماعة لإدراك فضل الجماعة أم يصلي الظهر والعصر قصرا؟
المشروع في حقه أنه يصلي الظهر ركعتين ثم يصلي العصر مع الجماعة سواء كانوا مسافرين أم مقيمين لثبوت وجوب الجماعة في حقه فإن أتموا أتم وإن قصروا قصر وذلك لحصول فضل الجماعة. ولأن القصر رخصة والجماعة واجبة فيلزم الدخول فيها.
المسألة التاسعة والعشرون: من أيقن أو غلب على ظنه أنه سيصل إلى بلده من سفر قبل خروج وقت الثانية هل يشرع له الجمع والقصر.
الأفضل في حقه أنه يصلي العشاء والصلوات في وقتها فمثلا لو كان في الطريق وأذن المغرب فقام وصلى المغرب وعلم يقينا أنه سيصل إلى بلده قبل خروج وقت العشاء فالأفضل أن لا يصلي العشاء مع المغرب وله جمع المغرب والعشاء مع قصرها ولكن عدم الجمع أفضل.
فإن جمع ووصل قبل العشاء وقد صلاها فلا يلزمه إعادة العشاء؛ لأنه صلاها على صفة شرعية.
المسألة الثلاثون: الطالب الذي يدرس في مسافة تبعد عن بلده مسافة قصر هل يشرع له الجمع والقصر في البلد التي يدرس فيها؟
الصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يشرع له القصر لأنه يقيم إقامة تقطع كلمة السفر ولكنه يقصر الصلاة الرباعية التي يصليها في سفره فيما بين بلده ومحل دراسته إذا كانت المسافة مسافة قصر.
المسألة الحادية والثلاثون: إذا أم المسافرين مسافر فنسي فصلاها تامة؟
ذهب الحنابلة إلى أن صلاته وصلاتهم صحيحة سواء تابعوه أم لم يتابعوه فلا يجب عليهم متابعته وإن سبحوا له ولهم مفارقته إن لم يرجع ولا يلزم الجميع يعني الإمام والمأموم سجود سهو.
وذهب المالكية إلى وجوب إعادة الصلاة في الوقت على الإمام فقط إن سبح له المأموم ولم يرجع فإن رجع سجد للسهو وصحت صلاته أما المأموم فلا إعادة عليه وإن تمادى الإمام ولم يتابعوه عمدا بطلت صلاتهم.
والصحيح في هذه المسألة أن صلاتهم صحيحة وكذا صلاة الإمام ولا يلزمهم شيء لا سجود سهو ولا تسبيح ونحوه.
المسألة الثانية والثلاثون: إذا أم المسافرين مسافر فدخل في صلاته بنية القصر فلما صلى الثانية نسي وقام إلى ركعة ثالثة ثم تذكر بعدما قام وبدأ في قراءة الفاتحة هل يرجع؟
الجواب: ذكرنا فيما سبق أن النية شرط من شروط قصر الصلاة فمن دخل إلى الصلاة بنية القصر فنسي فقام للثالثة فإنه يرجع لأنه دخل بنية أنه مسافر وهذه الركعة الثالثة تعتبر زيادة فهي كالخامسة للمقيم، وهذه المسألة تختلف عن سابقتها فإن التي قبلها دخل في الصلاة بدون نية وهذه عازم على قصرها.
المسألة الثالثة والثلاثون: إذا دخل المسافر بنية القصر مع الإمام المقيم ظنا منه أنه مسافر فقام الإمام للركعة الثالثة فماذا يفعل؟
الجواب: ذكرنا ذلك في المسألة الرابعة من مسائل القصر وخلاصة القول فيها أنه يجب عليه القيام معه حتى وإن دخل بنية القصر فعليه أن يحول نيته إلى الإتمام ويصلي أربع ركعات وذلك لأن المسافر إذا
صلى مع المقيمين صلى أربعا لقول ابن عباس: تلك السنة.
المسألة الرابعة والثلاثون: من صلى بمقيمين وهو مسافر؟
الأفضل في حقه أن يقصر الصلاة لأن هذا هو المشروع له حال سفره فإذا انتهى من صلاته شرع له أن يقول لهم: “أتموا صلاتكم فإنا على سفر”.
وفي قوله هذا: إظهار لهذه الشعيرة. وفيه أيضا: نفي الالتباس الذي قد يحصل للمصلين. فإن أتم فصلاته صحيحة غير أنه ترك الأفضل.
المسألة الخامسة والثلاثون: شخص يصلي المغرب فدخل معه شخص آخر في الركعة الأخيرة ثم سلم الإمام وقام المأمون يتم صلاة المغرب ثم تحول الإمام إلى مأموم مع المأموم الأول وصلى معه الركعتين الباقيتين بنية العشاء لأنه مسافر، فما حكم صلاة من فعل ذلك؟
نقول: ذكرنا في هذه المسألة الأولى والثانية من هذه المسائل وفي الجمع شيء يشبه هذا وخلاصة القول في هذه المسألة:
أنه أجاز بعض أهل العلم هذا العمل ولكن الذي أراه أنه إذا انتهى الإمام من صلاته صلى منفردا العشاء, وإن حصل على جماعة أخرى صلاها جماعة ولا ينبغي له أن يصلي خلف المأموم صلاة العشاء لكونه كان إمامهم من قبل فإن صلى خلفه صلى العشاء أربعا لأن صلاة العشاء لا تصلى قصرا خلف من يصلي المغرب على الصحيح من أقوال أهل العلم.
المبحث الخامس
ذكر بعض المسائل الهامة في توابع السفر
المسألة الأولى: في حكم التنفل في السفر؟
اختلف أقوال الفقهاء في مشروعية التنفل في السفر على خمسة أقوال:
القول الأول: وهو قول الجمهور أنه يجوز التنفل مطلقاً سواء كانت النافلة راتبة أم غير راتبة ليلا أو نهارا قبل الصلاة أو بعدها.
القول الثاني: المنع مطلقا وهذا مروي عن ابن عمر وجماعة.
القول الثالث: أنه لا يجوز التنفل إلا في جوف الليل، وهذا مروي عن ابن عمر كما جاء ذلك في موطأ مالك عنه: “أنه لم يكن يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئا قبلها ولا بعدها، إلا من جوف الليل فإنه كان يصلي على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت”([57]).
القول الرابع: وهو ما ذهب إليه البخاري حيث يرى أنه يجوز التنفل قبل الصلاة ويمنع فيما بعدها. وذلك لأن التطوع قبلها لا يظن أنه منها لأنه سينفصل عنها بالإقامة وانتظار الإمام غالبا ونحو ذلك بخلاف ما بعدها فإنه في الغالب يظن أنه منها([58]).
القول الخامس: الفرق بين الرواتب والنوافل المطلقة فمنعوا الرواتب وأجازوها في النوافل المطلقة وهذا مروي أيضا عن ابن عمر.
قال مجاهد: “صحبت ابن عمر من المدينة إلى مكة وكان يصلي تطوعا على دابته حيثما توجهت به فإذا كانت الفريضة نزل فصلى”.
والذي أرجحه جمعا بين الأدلة أنه يجوز التطوع المطلق كصلاة الضحى وقيام الليل وتحية المسجد وغيرها من الصلوات التي هي غير راتبة، أما الرواتب فالسنة تركها عدا سنة الفجر والوتر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركهما في حضر ولا سفر كما جاءت السنة بذلك، وما عداها من الرواتب الأولى تركها.
المسألة الثانية: بالنسبة للوتر هل تصلى وإذا صلى المسا فر المغرب والعشاء أم يؤخرها.
أما الوتر كما ذكرنا آنفا أن المشروع المواظبة عليها حال السفر والإقامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعها حال سفره وإقامته ولكن متى يصليها إذا جمع المغرب مع العشاء جمع تقديم، نقول اختلف أهل العلم في هذه المسألة والذي أراه أنه يجوز له أن يصلي الوتر بعد انتهائه من العشاء جمع تقديم ولكن ما دام أنه سيصلي الوتر وحده ولا مشقة عليه فالأولى أن يؤخرها إلى دخول وقت العشاء وهذا الذي نختاره ونفضله خروجا من الخلاف.
المسألة الثالثة: إذا كان الأمر كما ذكر أنه الأفضل أن يؤخروها إلى دخول وقت العشاء فهل يجوز له أن يصليها وهو على راحلته إذا كان مسافرا.
نقول: اختلف الأحناف وإبراهيم النخعي مع الجمهور في هذه المسألة فذهب الأحناف والنخعي إلى القول بالمنع يعني لا يجوز عندهم صلاة الوتر على الراحلة. وذهب الجمهور إلى القول بالجواز. وسبب الاختلاف بينهم ناشئ عن القول بأن الوتر هل هو واجب أم سنة فمن قال بأنه واجب من الأحناف وغيرهم فإنه يمنعه من الصلاة على الراحلة، ومن قال بأنه سنة وهو قول جمهور أهل العلم فإنه يشرع للمسافر أداءه على راحلته. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من جواز صلاة الوتر على الراحلة.
المسألة الرابعة: في الأذان والإقامة في السفر؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو قول الجمهور، أن الأذان والإقامة سنة للجماعة والمنفرد في السفر حجتهم في ذلك حديث مالك بن الحويرث وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :” إذا سافرتم فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما”([59])، هذا في حق الجماعة، أما في حق المنفرد فاستدلوا بما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه قال لعبد الله بن عبد الرحمن: “إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فأرفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة”قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم”([60])، وغيرها من الأدلة.
القول الثاني: مذهب مالك وهو عدم الاستحباب إلا لمن يجمع إليه الناس واحتج مالك رحمه الله بما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه حيث قال: “إنما الأذان للإمام الذي يجتمع إليه الناس” وجاء عنه أيضا أنه قال: “إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادي بالصلاة ليجتمعوا لها، فأما غيرهم فإنما هي الإقامة([61]).
القول الثالث: وهو قول عطاء ومجاهد وغيرهم الذين قالوا بالوجوب واستدلوا بالأحاديث التي احتج بها الجمهور حيث ورد فيها الأمر بذلك. والراجح عندي ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من القول باستحباب الأذان والإقامة لأن المقصود بها حال السفر نشر ذكر اسم الله ودينه في الأرض وتذكير لبعض المخلوقات يرى شخصهم في القلوب من الجن.
المسألة الخامسة: صلاة المسافر حال سفره بالسفينة.
1- يجوز لراكب السفينة أن يصلي فيها الفرض لعذر شرعي ويصلي فيها على قدر الاستطاعة فإن تمكن من الصلاة قائما صلى وإلا صلى جالسا وإن تمكن من الركوع حال جلوسه لها قام فركع وإلا أومأ برأسه، وإن تمكن من السجود سجد وإلا أومأ برأسه، فإذا أومأ بالركوع والسجود جعل السجود أخفض من الركوع.
2- أما بالنسبة لاستقباله القبلة فإنه يجب استقبالها عند الافتتاح للفريضة وكلما دارت إن تمكن أن يدور معها دار وإلا صلى حسب حاله.
3- لا يجوز لراكب السفينة أن يصلي جالسا إذا كان يقدر على القيام والجلوس تأدية الصلاة على النحو المأمور به شرعا وذلك لأن القيام ركن من أركان الصلاة فلا يسقط إلا بعذر شرعي ولا عذر لمن استطاع القيام فيها.
4- تصلي الصلاة في السفينة على نحو الصلاة في القطار والمواصلات الأخرى وذلك لجواز الجمع والقصر فيها على نحو ما ذكرناه سابقا في هذه الرسالة.
المسألة السادسة: صلاة المسافر حال سفره بالطائرة:
صلاة المسافر حال سفره بالطائرة:
1- الصلاة في الطائرة جائزة إذا خيف خروج الوقت كطلع الشمس قبل صلاة الصبح وغروبها قبل صلاة العصر وذلك قبل أن تهبط الطائرة في المطار فإنه يصلي فيها ولا يؤخر الصلاة عن وقتها.
2- يصلي راكب الطائرة على حسب قدرته ولا ينتقل إلى غيرها في الفجر فإن وجد موضعا يصلي فيه قائما صلاها قائما وإن لم يجد صلى على كرسيه ولو بالإيماء.
3- إن كانت هذه الصلاة مما تجمع كصلاة الظهر والعصر أو المغرب والعشاء أخر الجمع إلى وقت الثانية إن كان سيصل قبل خروج وقتها يعني وقت الثانية، فإن خشي خروج وقت الثانية صلاهما على حسب حاله.
المسالة السابعة: في أذكار الصلوات حال الجمع:
إذا جمع بين الصلاتين فهل يكفي ذكر واحد عن كل منهما؟
الظاهر أنه يكفي ذكر واحد لأن هذه العبادة اجتمعت وهما من جنس واحد فيكتفى بأحدها عن الآخر، وان سبح لهذا تسبيحه العادي، ولهذا تسبيحه العادي فهو أحسن.
المسألة الثامنة: من كانت له مزرعة مسافتها مسافة قصر فهل يجوز أن يقصر الصلاة فيها؟
نقول حال صاحبها لا يخلو من أمرين:
الأول: إما أن يكون مقيما فيها إقامة تامة هو وأسرته فهنا لا يجوز له أن يقصر الصلاة لأنها تكون مثل البلد.
الأمر الثاني: أن يكون مسافرا إليها أي بعيدة عن بلده فهنا يجوز له القصر ومن أهل العلم من لا يرى أنه لا يقصر فيها.
المسألة التاسعة: رجل مسافر جاء إلى صلاة الجمعة في المسجد فأدرك معهم التشهد الأخير هل يصلي أربعا أم يصلي كصلاتهم ركعتين.
الجواب: لا تلزمه الظهر إلا مقصورة فإن أدرك من الجمعة أقل من ركعة صلاها ركعتين لأنه غير مقيم وقيل يلزمه الإتمام لأنه ائتم بمقيم أما لو أنه أدرك ركعة فإنه يأتي بركعة واحدة وتكون له جمعة. والفرق بين الأمرين: أنه إذا أدرك التشهد فقط فإنه يدخل بنية الظهر وعليه يجوز له جمع العصر في هذه الحالة لكونها ظهرا. أما إذا أدرك ركعة واحدة فإنها تكون جمعة ولا يجوز له في هذه الحالة أن يجمع معها صلاة العصر لما ذكرناه سابقا.
المسألة العاشرة: في تعدد الجماعات في المسجد الواحد.
إن مما يؤسف له أنك ترى حال سفرك إلى بلد (ما) وأردت أن تصلي في بعض المساجد المعدة في طرق السفر تجد أمرا يلاحظه الكبير والصغير وهو تعدد الجماعات في بعض المساجد وهذا أمر لا ينبغي فعله لأن في ذلك محظورات شرعية أعظمها خطرا هو افترق الناس الذي يؤدي بالطبع إلى افترق الأمة ونهينا عن ذلك بلا شك كما جاءت نصوص القرآن بذلك, وأيضا من محظوراته التشويش الحاصل بين كل جماعة مقامة، وإذا فكرت في أسباب هذه الفرقة الحاصلة وجدت أن أعظم أسبابها الجهل بهذه الشريعة أو العصبية العمياء التي ابتلينا بها.
والذي أحب أن أنبه عليه في هذه المسألة أنه لا ينبغي أن تقام أكثر من جماعة في مسجد إلا أن يكون المسجد كبيرا أو بشرط أن لا يحصل فيه نوع من التشويش وبأن تكون الصلاة المراد إقامتها ليست من جنس الصلاة المقامة.
مثال ذلك: أن تكون الجماعة المقامة لا قصر فيها لكون أهلها مقيمين والجماعة الداخلة مسافرون فهنا يشرع لهم الدخول في الجماعة المقامة على نحو ما ذكرنا سابقا، لكن إن أرادوا عدم الدخول معهم
فإنهم ينتظرون حتى فراغ الجماعة المقامة ثم يصلون صلاتهم الحاضرة جمعا وقصرا.
أو كأن تكون الصلاة المقامة رباعية كصلاة العشاء مثلا وهم يريدون أن يصلوا المغرب فهنا يشرع لهم إقامة جماعة أخرى ولكن بشرط عدم التشويش فإن كان هناك نوع من التشويش على المصلين فإنه لا ينبغي لهم أن يصلوا إلا بعد فراغ الجماعة المقامة من صلاتها، وإن كان الأولى لهم أن يدخلوا مع الجماعة المقامة وينووها المغرب لهم كما سبق أن بيناه.
فهرس الموضوعات
الموضوع | الصفحة |
المقدمة | |
سبب تأليف الرسالة | |
مباحث الرسالة | |
المبحث الأول: محاسن الشريعة الإسلامية وكونها صالحة لكل زمان ومكان. | |
المبحث الثاني: الحكمة من مشروعية الجمع والقصر. | |
المبحث الثالث: الجمع وملحقاته مع ذكر المسائل المتعلقة به. | |
أولا: معنى الجمع وصفته. | |
ثانيا: حكم الجمع. | |
ثالثا: شروط الجمع مع ذكر الراجح. | |
رابعا: الأسباب المبيحة للجمع. | |
خامسا: مسائل هامة يحتاج إليها في الجمع. | |
المبحث الرابع: القصر وملحقاته ومسائله الخاصة به. | |
أولا: تعريف السفر. | |
ثانيا: أقسام السفر. | |
ثالثا: ذكر بعض النصائح للمسافرين مع بيان الآداب في السفر. | |
رابعا: أمور لا ينبغي ارتكابها في السفر. | |
خامسا: حكم القصر. | |
سادسا: شروط قصر الصلاة مع ذكر الراجح. | |
سابعا: في الصلوات التي تقصر مع بيان كيفية القصر. | |
ثامنا: ذكر بعض المسائل الهامة المتعلقة بقصر الصلاة. | |
المبحث الخامس: في ذكر بعض المسائل الهامة في توابع السفر. | |
فهرس الموضوعات: |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([4]) رواه مسلم – كتاب الصلاة – باب صلاة المسافرين وقصرها (1/487).
([5]) رواه مسلم – كتاب الصلاة – باب صلاة المسافرين وقصرها (1/490-491).
([6]) رواه أبو داود (3/12)، وصححه الألباني برقم (07 16).
([7]) رواه البخاري، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء (1106)، ورواه مسلم في صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ( 703/43).
([8]) أخرجه أحمد ( 5/237)، وصحيح سنن أبي داود للألباني برقم: (1607).
([9]) صحيح الجامع برقم: ( 5281).
([13]) الكافي لابن قدامة (1/204).
([14]) الحديث رواه أبو داود (287)، والترمذي (1/221-225)، وقال: هذا حديث حسن صحيح وسألت محمدا (يعني البخاري) عن هذا الحديث فقال: هو حسن صحيح، والحديث حسنه الألباني في الإرواء برقم (188)، وكذا صحيح سنن ابن ماجه (1/103).
([15]) عون المعبود بشرح سنن أبي داود (1/488) برقم: ( 292).
([17]) أخرجه أحمد (2/108)، وعبد الرزاق في مصنفه (11/291)، وابن حبان (2/69).
([19]) انظر في ذلك المبحث الأول من هذه الرسالة.
([23]) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة – باب فضل عبد الله بن مسعود وأمه (16/17).
([24]) رواه البخاري معلقا في كتاب العلم، باب الخروج في طلب العلم (1/173).
([25]) انظر: صفة صلاة الاستخارة في صحيح البخاري (3/489)، كتاب التهجد – باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى.
([26]) صحيح سنن الترمذي – للألباني (2/135) رقم الحديث: (1368) باب كراهية أن يسافر الرجل وحده.
([27]) رواه البخاري في( 5/317) – كتاب الجهاد – باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده.
([28]) رواه الترمذي في كتاب الجهاد (7/268)، وصحيح الألباني برقم: (1613).
([29]) رواه أبو داود في كتاب الجهاد – باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم (7/267) وصححه الألباني.
([30]) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب من أراد غزوة فورى بغيرها (6/113).
([31]) صحيح سنن أبي داود – للألباني (2/494) برقم: (2270).
([32]) رواه أبو داود في كتاب الجهاد – باب في الدلجة (3/61) وصححه الألباني.
([33]) رواه الترمذي – كتاب الدعوات – باب ما يقول إذا ودع إنسانا (9/404) وصححه الترمذي.
([35]) انظر: البخاري مع الفتح (6/635).
([36]) رواه الترمذي في كتاب الدعوات – باب ما ذكره في المسافر (9/407) وصححه الألباني.
([37]) رواه البخاري في كتاب تقصير الصلاة باب ينزل للمكتوبة (2/575).
([38]) رواه الإمام أحمد في المسند (3/123)، الفتح الرباني.
([39]) رواه مسلم – كتاب الإمارة – باب مراعاة مصلحة الدواب في السير (3/68).
([40]) رواه البخاري – كتاب العمرة – باب السفر قطعة من العذاب (3/622)، ومسلم كتاب الإمارة – باب السفر قطعة من العذاب (3/70).
([41]) رواه البخاري – كتاب العمرة – باب لا يطرق إذا بلغ المدينة (3/620).
([42]) رواه البخاري من حديث أنس – كتاب العمرة – باب الدخول بالعشي ( 3/619).
([43]) رواه البخاري في كتاب النكاح – باب جلب الولد (9/341).
([44]) رواه البخاري كتاب النكاح – باب لا يطرق أهله ليلا (9/339).
([45]) رواه البخاري في كتاب الجهاد – باب إذا قدم من سفر(6/193).
([46]) وكذا رواه مسلم – كتاب صلاة المسافر – باب استحباب ركعتين في المسجد لمن قدم من سفر (5/87).
([47]) رواه البخاري – كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة (2/566)، ومسلم – كتاب الحج – باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره (9/107).
([48]) أخرجه البخاري (6/378) في كتاب الأنبياء – باب قول الله تعالى:{وإلى ثمود أخاهم صالحا}.
([49]) أخرجه البخاري في (8/125) في كتاب المغازي – باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر.
([50]) ومن أجود من ألف ذلك “حصن المسلم من أذكار الكتاب والسنة” لسعيد بن على القحطاني حفظه الله.
([51]) رواه البخاري (2/470)، ومسلم: (685).
([52]) رواه البخاري في تقصير الصلاة – باب الصلاة بمنى (1084)، ومسلم برقم: ( 695).
([53]) البخاري برقم (1082)، ومسلم (689).
([54]) الكافي لابن قدامة (1/197).
([55]) رواه أحمد (1/216)، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وصححه أحمد شاكر في حاشيته على المسند (3/260).
([56]) المغني لابن قدامة الجزء الثاني ص53.
([58]) انظر: كلام ابن حجر في الفتح (2/578).