61 – الحجر في الفتوى لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان
61 – الحجر في الفتوى لاستصلاح الأديان
أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان pdf
الحجر في الفتوى
لاستصلاح الأديان أولى من الحجر
لاستصلاح الأبدان
وهو بحث مقدم لمؤتمر (الإفتاء في عالم مفتوح)
التابع للمركز العالمي للوسطية والمقام
في الفترة من: 9- 11/ 5/ 1428هـ
الموافق: 26- 28/ 5/ 2077م
في دولة الكويت
إعداد
أ.د عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}([1]) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}([2]).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}([3])، أما بعد:
فإن أمتنا الإسلامية في العصور المتأخرة بدأ يدب فيها مرض فتاك، وداء عضال، يؤثر على الأخضر واليابس، وعلى الصحيح والسقيم، وعلى الكبير والصغير حتى غدا الناس يتقلبون بين أهل الكلام والأهواء، الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فبثوا سموم فتاويهم بين الناس ليهلكوا الحرث والنسل، وما ذاك إلا بسبب تعلقهم بالدنيا، وحبهم لها، وشغفهم بشهواتها، وكم رأينا من يخرج على المسلمين من بعض هؤلاء ليفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال:(إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)([4]).
ولله درُّ ابن القيم رحمه الله حين يقول: “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السِّيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله؛ وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسمواتِ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}([5])، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}([6])، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا وموقوف بين يدي الله “ ([7]).
فما بال أقوام من أمة الإسلام سيقفون هذا الموقف العظيم يتساهلون في الإفتاء والقول على الله بغير علم، حتى ظهر علينا أصناف وأشكال لم نعهدها إلا منذ زمن قريب ضعفت خشيتهم من الله، وحرصوا على المتاع الفاني القليل فراحوا عبر الفضائيات الموجهة ضد الإسلام والمسلمين يفتون بفتاوى لا خطام لها ولا زمام وهنا لابد من وضع حد لمن قام يفتي بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ووجب على من ولاه الله أمر المسلمين أن يقف في وجوه هؤلاء حتى لا يتسببوا في فتنة الناس وإضلالهم، وإبعادهم عن صراط الله المستقيم.
ولذلك ارتأيت أن أكتب عن هذا الموضوع الهام الذي يحتاج إلى معرفته جميع المسلمين، وبخاصة من يتسابقون للتصدر للفتوى ليلاً ونهاراً عبر القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وكذلك من يتلقون عنها في سائر أنحاء العالم الإسلامي وغيره.
فأسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يمن علينا بالثبات على دينه، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتب
أ.د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
12/ 4/ 1428هـ
ملخص البحث:
الهدف من البحث:
هو إيضاح منهج السلف الصالح ومن سار على دربهم في الفتوى والإفتاء، وخطورة الفتوى وكثرة من يتعرض لها من المتأخرين لما له من الأثر على عقيدة المسلم ودينه، وضرورة الحجر على بعض المفتين المتأخرين الذين يناقضون كتاب الله وسنة نبيه بحيث يرى القارئ مدى خشية السلف من التصدي للفتوى، وانصرافهم عنها، وتحويلها لمن يتحمل تبعاتها يوم العرض على الله تعالى، فلما علم الله صدقهم وإخلاصهم أمدهم بعونه وفضله، وأفاض عليهم بإحسانه وتوفيقه، فخرجت فتاواهم صادقة في بيانها، خالصة لربها فوصلت إلى قلوب الخلق وأثرت فيها، ففازوا بالحسنيين، ونالوا رضا الرب جل وعلا، وسكنوا المكان الأعلى.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على السير على نهجهم، والثبات على طريقهم، وأن يبصرنا بأمر ديننا، وأن يكفينا شر أنفسنا، وأن يرحم علماءنا السابقين الذين أفنوا حياتهم في تعليم الناس الخير، وأن يحفظ علينا علماءنا ومشايخنا اللاحقين، وأن يمدهم بعونه وتوفيقه.
خطة البحث:
اشتمل البحث على عدة مباحث ومطالب، ويتفرع عنها بعض المسائل والفروع التي تتعلق بها:
المبحث الأول: أركان الفتوى، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المفتي.
المطلب الثاني: المستفتي.
المطلب الثالث: الفتوى.
المبحث الثاني: أنواع الفتوى، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الفتوى بالرأي.
المطلب الثاني: الفتوى بالتقليد.
المطلب الثالث: الفتوى بالدليل والاجتهاد.
المبحث الثالث: الإفتاء في دين الله بغير علم وضرره على الإسلام والمسلمين، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: خطورة القول على الله بغير علم.
المطلب الثاني: أثر القول على الله بغير علم على المفتي والمستفتي.
المبحث الرابع: الحجر في الفتوى، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الحجر في الفتوى.
المطلب الثاني: أصناف المحجور عليهم.
المطلب الثالث: من يقوم بالحجر في الفتوى.
المطلب الرابع: أثر الحجر في الفتوى.
المبحث الخامس: تغيير الفتوى واختلافها، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: سبيل العلماء المتقدمين في الفتوى واعتمادهم على الدليل.
المطلب الثاني: سبيل العلماء المتأخرين واعتمادهم على الرأي والمذهب.
المطلب الثالث: الفروق بين فتاوى المتقدمين والمتأخرين وأمثلة منها.
الخاتمة.
المبحث الأول: أركـان الفتـــوى
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الفتوى
تعريف الفتوى:
لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوَى والفتاوِي يقال: أفتيته فَتْوى، وفتيا إذا أجبته عن مسألته، والفتيا تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتوا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا، والتفاتي: التخاصم، ويقال: أفتيتُ فلاناً رؤيا رآها، إذا عَبَرْتها له ([8]) ومنه قوله تعالى حاكياً:{يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي}([9]).
والاستفتاء لغة: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى:{وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً}([10]) ، وقد يكون بمعنى مجرد سؤال، ومنـه قولــه تعـــالى : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} ([11]) ، قـال المفسرون: أي اسألهم([12]).
والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه([13])، وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها. فهي إبانة الأمر وإيضاحه، يقال: أفتى فلان فلاناً إذا أبان له، وأوضح له الطريق أو المسألة، أو ما أشكل عليه من الأمور سواء أكان ما أشكل عليه لغوياً أم شرعياً.
قال ابن فارس: “يقال أفتى الفقيه في المسألة إذا بيَّن حكمها، واستفتيت إذا سألتَ عن الحكــم، ويقال منه فَتْــوَى، وفُتْيَــا)([14])، قال الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ([15])، وافتاه في الأمر: أبانه وأوضحه “([16]).
مكانة الفتوى وأثرها:
الفتوى في دين الإسلام لها مكانة عالية، ومنزلة عظيمة، ومهمة جليلة، فهي أمر تولاه الله تعالى بنفسه، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}([17])، وقام بها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تولى هذا المنصب الذي كلفه الله به حيث قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}([18])، ثم علماء الصحابة من بعده، ثم العلماء الربانيون من بعدهم، فهي توقيع عن رب العالمين، فالمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، وقد تولى هذه الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم صحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم.
قال ابن القيم رحمه الله: “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم وَالصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وَكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا وموقوف بين يدي الله “([19]). قال صلى الله عليه وسلم: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)([20]).
ولذلك لما علم السلف ـ رضوان الله عليهم ـ مكانتها كانوا من عظم المسؤولية وخطورة الفتوى يتدافعونها ويحجمون عنها، ويشددون النكير على من استشرف لها، وسارع فيها، وحرص عليها.
وقد نقل عن بعض أهل العلم توجيهاتهم ونصائحهم في هذا الموضوع الخطير، ومن ذلك:
قول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: “لقد أدركتُ في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم أحدٌ يُحَدِّثُ بحديثٍ إلا وَدَّ أن أخاه كفاهُ الحديثَ، ولا يُسألُ عن فُتْيَا إلا وَدَّ أن أخَاهُ كَفَاهُ الفُتْيَا “([21]).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون”([22]).
وعن مالك رحمه الله أنه ربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: “من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها “([23]).
وعن سحنون ” أن رجلاً أتاه فسأله فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله لها ثلاثة أيام فقال: وما أصنع لك يا خليلي مسألتك معضلة، وفيها أقاويل وأنا متحيّر في ذلك، فقال له: وأنت أصلحك الله لكل معضلة، فقال سحنون: هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر ما لا أعرف “([24]).
وبذلك يتضح أن الفتوى هي بيان أحكام الله تعالى، وتطبيقها على أفعال الناس، فهي قول على الله تعالى، لأنه يقول للمستفتي: حق عليك أن تفعل، أو حرام عليك أن تفعل، ولذا شبه القرافي المفتي بالترجمان عن مراد الله تعالى، وجعله ابن القيم بمنزلة الوزير الموقّع عن الملك. وقال ابن المنكدر: ” العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم([25]).
لذلك علم أن الفتوى بغير علم حرام لما يتضمن ذلك من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويتضمن إضلال الناس وهو من كبائر الذنوب لقوله تعالى:{قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}([26])، فقرنه بالفواحش والبغي والشرك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)([27]). من أجل ذلك كثر النقل عن السلف إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل: لا أدري. نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومالك، وغيرهم.
المطلب الثاني: المفتي:
تعريف المفتي:
لغة: اسم فاعل من أفتى، فمن أفتى مرة فهو مفتٍ، ولكنه يحمل في الحكم الشرعي بمعنى أخص من ذلك، قال الصيرفي: هذا الاسم موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعَلِمَ جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن عَلم مسألة وأدرك حقيقتها، فمن بَلَغ هذه الرتبة سمَّوْهُ بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما استفتي فيه([28]).
قال ابن الصلاح: “أما شروطه وصفته فهو: أن يكون مكلفاً مسلماً ثقة، مأموناً، منزهاً من أسباب الفسق، ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط متيقظاً”([29]).
وقال ابن حمدان: “ومن صفته وشروطه: أن يكون مسلماً عدلاً مكلفاً فقيهاً مجتهداً يقظاً صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه وما يتعلق به “([30]).
وقد بين ابن حمدان سبب تأليف كتابه القيم (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) بقوله: “عظم أمر الفتوى وخطرها، وقل أهلها ومن يخاف إثمها وخطرها وأقدم عليها الحمقى والجهَّال، ورضوا فيه بالقيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال، واكتفوا ـ بزعمهم ـ أنهم من العَدد بلا عُدد، وليس معهم بأهليتهم خط أحد، واحتجوا باستمرار حالهم في المُدد بلا مَدد، وغرّهم في الدنيا كثرةُ الأمنِ والسلامة وقلة الإنكار والملامة”([31]).
فإذا كان هذا حال المفتين في عصره فكيف لو رأى عصرنا الذي تصدى فيه للإفتاء من لم يذق طعم العلم أصلاً، ولم يعرف له فرعاً ولا أصلاً، من هؤلاء الكُتّاب الذين يَدّعُون الفكر، والذين تربوا على ثقافة الغرب وأخلاقهم، فامتلأت الصحف من أقوالهم وآرائهم في الدين، فملأوا الأوراق ضلالاً، والقلوب شكوكاً، والمسلمين فساداً وتفرقاً، حتى أصبح الناس شيعاً وأحزاباً {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}([32])، وما ذكرناه أخبرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم في قوله:(إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)([33]).
لذلك فعمل المفتي من الضرورة بمكان إذا كان لائقاً لمكانته، متحملاً لمسؤوليته، ومعلوم أن عمل المفتي هو الإخبار بالحكم الشرعي عن دليله، فإذا علم ذلك فإنه يستلزم أموراً:
الأول: تحصيل الحكم الشرعي المجرد في ذهن المفتي، فإن كان مما لا مشقة في تحصيله لم يكن تحصيله اجتهاداً، كما لو سأله سائل عن أركان الإسلام ما هي؟ أو عن حكم الإيمان بالقرآن؟ وإن كان الدليل خفياً، كما لو كان آية من القرآن غير واضحة الدلالة على المراد، أو حديثاً نبوياً وارداً بطريق الآحاد، أو غير واضح الدلالة على المراد، أو كان الحكم مما تعارضت فيه الأدلة أو لم يدخل تحت شيء من النصوص أصلاً، احتاج أخذ الحكم إلى اجتهاد في صحة الدليل أو ثبوته أو استنباط الحكم منه أو القياس عليه.
الثاني: معرفة الواقعة المسؤول عنها، بأن يذكرها المستفتي في سؤاله، وعلى المفتي أن يحيط بها إحاطة تامة فيما يتعلق به الجواب، بأن يستفصل السائل عنها، ويسأل غيره إن لزم، وينظر في القرائن.
الثالث: أن يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسؤول عنها، بأن يتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصّل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم، وذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية بخصوصها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعداداً لا تنحصر من الوقائع ولكل واقعة معينة خصوصية ليست في غيرها. وليست الأوصاف التي في الوقائع معتبرة في الحكم كلها، ولا هي طردية كلها، بل منها ما يعلم اعتباره، ومنها ما يعلم عدم اعتباره، وبينهما قسم ثالث متردد بين الطرفين، فلا تبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، وهل يوجد مناط الحكم في الواقعة أم لا؟ فإذا حقق وجوده فيها أجراه عليها، وهذا اجتهاد لابد منه لكل مفت، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها عمومات ومطلقات، منزلة على أفعال مطلقة كذلك، والأفعال التي تقع في الوجود لا تقع مطلقة، وإنما تقع معينة مشخّصة، فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعيّن يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون، وذلك كله اجتهاد.
ومثال هذا: أن يسأله رجل هل يجب عليه أن ينفق على أبيه؟
فينظر أولاً في الأدلة الواردة، فيعلم أن الحكم الشرعي أنه يجب على الابن الغني أن ينفق على أبيه الفقير، ويتعرف ثانياً حال كل من الأب والابن، ومقدار ما يملكه كل منهما، وما عليه من الدين، وما عنده من العيال، إلى غير ذلك مما يظن أن له في الحكم أثراً، ثم ينظر في حال كل منهما ليحقق وجود مناط الحكم ـ وهو الغني والفقر ـ فإن الغنى والفقر اللذين علق بهما الشارع الحكم لكل منهما طرفان وواسطة، فالغنى مثلاً له طرف أعلى لا إشكال في دخوله في حد الغنى، وله طرف أدنى لا إشكال في خروجه عنه، وهناك واسطة يتردد الناظر في دخولها أو خروجها، وكذلك الفقر له أطراف ثلاثة ـ فيجتهد المفتي في إدخال الصورة المسؤول عنها في حكم أو إخراجها بناء على ذلك.
وهذا النوع من الاجتهاد لابد منه في كل واقعة ـ وهو المسمى تحقيق المناط ـ لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها، لم يتقدم لها نظير، وإن فرضنا أنه تقدم مثلها فلابد من النظر في تحقيق كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد([34]).
شروط المفتي:
أولاً: لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية والنطق اتفاقاً، فتصح فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة([35])، وأما السمع، فقد قال بعض الحنفية: “إنه شرط فلا تصح فتيا الأصم وهو من لا يسمع أصلاً”، وقال ابن عابدين: “لا شك أنه إذا كُتب له السؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه، إلا أنه لا ينبغي أن ينصب للفتوى، لأنه لا يمكن كل أحد أن يكتب له”([36])، ولم يذكر هذا الشرط غيرهم، وكذا لم يذكروا في الشروط البصر، فتصح فتيا الأعمى، وصرّح به المالكية([37]).
وأما ما يشترط في المفتي فهي:
(1) الإسلام: فلا تصح فتيا الكافر.
(2) العقل: فلا تصح فتيا المجنون.
(3) البلوغ: فلا تصح فتيا الصغير.
(4) العدالة: فلا تصح فتيا الفاسق عند جمهور العلماء، لأن الإفتاء يتضمن الإخبار عن الحكم الشرعي، وخبر الفاســق لا يقبل، واستثنى بعضهم إفتــاء الفاسق نفسَهُ فإنه يعلم صدق نفسه([38]).
وذهب بعض الحنفية إلى أن الفاسق يصلح مفتيا، لأنه يجتهد لئلا ينسب إلى الخطأ([39]).
وقال ابن القيم: “تصح فتيا الفاسق، إلا أن يكون معلناً بفسقه وداعياً إلى بدعته، وذلك إذا عمّ الفسوق وغلب، لئلا تتعطل الأحكام، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح”([40]).
وأما المبتدعة، فإن كانت بدعتهم مكفِّرة أو مفسقة لم تصح فتاواهم، وإلا صحت فيما لا يدعون فيه إلى بدعتهم، قال الخطيب البغدادي: وتجوز فتاوى أهل الأهواء، ومن لم تخرجه بدعته إلى فسق، وأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ويسبون السلف فإن فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة([41]).
(5) الاجتهاد: وهو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة لقوله تعالى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}([42]).
قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب: “لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام،وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي”.أهـ([43]).
وهذا معنى الاجتهاد. ومفهوم هذا الشرط أن فتيا العامي والمقلد الذي يفتي بقول غيره لا تصح.
قال ابن القيم: “وفي فتيا المقلد ثلاثة أقوال:
الأول: ما تقدم ذكره، وهو أنه لا تجوز الفتيا بالتقليد، لأنه ليس بعلم، ولأن المقلد ليس بعالم والفتوى بغير علم حرام، قال: وهذا قول جمهور الشافعية وأكثر الحنابلة.
الثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا.
الثالث: أنه يجوز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، قال: وهو أصح الأقوال، وعليه العمل”([44]).
وقال ابن عابدين نقلاً عن ابن الهمام: “وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي” أ هـ([45]).
إفتاء القاضي:
لا خلاف في أن للقاضي أن يفتي في العبادات ونحوها مما لا مدخل فيه للقضاء كالذبائح والأضاحي.
واختلف الفقهاء في إفتائه في الأمور التي يدخلها القضاء: فذهب الشافعية في وجه وصححه النووي، والحنابلة في قول وصححه ابن القيم إلى أنه يفتي فيها أيضاً بلا كراهة.
وذهب آخرون من الفريقين إلى أنه لا يجوز، لأنه موضع تهمة، ووجهه أنه إذا أفتى فيها تكون فتياه كالحكم على الخصم،ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة، ولأنه قد يتغير اجتهاده وقت الحكم، أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء، فإن حكم بخلاف ما أفتى به جعل للمحكوم عليه سبيلاً للتشنيع عليه، وقد قال شريح: أنا أقضي لكم ولا أفتي، وقال ابن المنذر: يكره للقاضي الإفتاء في مسائل الأحكام الشرعية([46]).
وذهب الحنفية في الصحيح عندهم إلى أن للقاضي أن يفتي في مجلس القضاء وغيره في العبادات والأحكام وغيرها، ما لم يكن للمستفتي خصومة، فإن كان له خصومة فليس للقاضي أن يفتيه فيها([47]).
وذهب المالكية إلى أنه يكره للقاضي أن يفتي في ما شأنه أن يخاصم فيه، كالبيع والشفعة والجنايات.
قال البرزلي: “وهذا إذا كان فيما يمكن أن يعرض بين يديه، فلو جاءه السؤال من خارج البلد الذي يقضي فيه فلا كراهة”([48]).
صيغة الفتوى:
ينبغي لسلامة الفتيا وصدقها وصحة الانتفاع بها أن يراعي المفتي أموراً منها:
(1) تحرير ألفاظ الفتوى لئلا تفهم على وجه باطل.
(2) أن لا تكون الفتوى بألفاظ مجملة، لئلا يقع السائل في حيرة، كمن سئل عن مسألة في المواريث فقال: تقسم على فرائض الله عز وجل.
(3) يحسن ذكر دليل الحكم في الفتيا سواء كان آية أو حديثاً حيث أمكنه ذلك، ويذكر علته أو حكمته، و لا يلقيه إلى المستفتي مجرداً، فإن الأول أدعى للقبول بانشراح صدر وفهم لمبنى الحكم، وذلك أدعى للطاعة والامتثال، وفي كثير من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحكم([49]).
(4) لا يقول في الفتيا هذا حكم الله ورسوله إلا بنص قاطع، أما الأمور الاجتهادية فيتجنب فيها ذلك لحديث:(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟)([50]).
(5) ينبغي أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح مستوف لما يحتاج إليه المستفتي مما يتعلق بسؤاله، ويتجنب الإطناب فيما لا أثر له، لأن المقام مقام تحديد، لا مقام وعظ أو تعليم أو تصنيف([51]).
المطلب الثالث: المستفتي
تعريف المستفتي:
هو الذي نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها.
حكم الاستفتاء:
استفتاء العامّي الذي لا يعلم حكم الحادثة واجب عليه، لوجوب العمل حسب حكم الشرع، ولأنه إذا أقدم على العمل من غير علم فقد يرتكب الحرام، أو يترك في العبادة ما لابد منه.
قال الغزالي: “العامي يجب عليه سؤال العلماء، لأن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لأنه يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطل الحرف والصنائع، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء ووجوب اتباعهم”([52]).
وقال النووي: “من نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام”([53]).
وإذا لم يجد المكلف من يفتيه في واقعته فيسقط عنه التكليف بالعمل إذا لم يكن له به علم، لا من اجتهاد معتبر ولا من تقليد، لأنه يكون من باب التكليف بما لا يطاق، ولأن شرط التكليف العلم به، وقياساً على المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة وتكافأت فلم يمكنه الترجيح، ويكون حكمه حكم ما قبل ورود الشرع، وكمن لم تبلغه الدعوة([54]).
ويجب على المستفتي معرفة حال من يفتيه بحيث إذا وقعت له حادثة وجب في حقه أن يسأل من يتصف بالعدل والعدالة، فعن محمد بن سيرين قال: “إن هذا العلم دين فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم”([55]).
قال النووي: “يجب على المستفتي قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته، فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم، وانتصب للتدريس والإقراء، وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى، وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر، والصحيح هو الأول”([56]).
ويتخير المستفتي من يفتيه، فإن وجد المستفتي أكثر من عالم، وكلهم عدل وأهل للفتيا، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المستفتي بالخيار بينهم يسأل منهم من يشاء ويعمل بقوله، ولا يجب عليه أن يجتهد في أعيانهم ليعلم أفضلهم علماً فيسأله، بل له أن يسأل الأفضل إن شاء، وإن شاء سأل المفضول مع وجود الفاضل، واحتجوا لذلك بعموم قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}([57])، وبأن الأولين كانوا يسألون الصحابة مع وجود أفاضلهم وأكابرهم وتمكنهم من سؤالهم.
وعن موسى بن يسار قال: “كان رجاء بن حيوة وعدي بن عدي، ومكحول في المسجد، فسأل رجل مكحولاً عن مسألة فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة”([58]).
ويلزم المستفتي إن اتفقت أجوبة المفتين العمل بذلك إن اطمأن إلى فتواهم، وإن اختلفوا فللفقهاء في ذلك طريقان:
فذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، وبعض الحنابلة، وابن سريج والسمعاني، والغزالي من الشافعية إلى أن العامّي ليس مخيراً بين أقوالهم يأخذ بما شاء ويترك ما شاء، بل عليه العمل بنوع من الترجيح، ثم ذهب الأكثرون منهم إلى أن الترجيح يكون باعتقاد المستفتي في الذين أفتوه أيهم أعلم، فيأخذ بقوله ويترك قول من عداه.
قال الغزالي: “الترجيح بالأعلمية واجب، لأن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع، والغلط أبعد عن الأعلم لا محالة”.
وقال الشاطبي: “لا يتخير، لأن في التخير إسقاط التكليف، ومتى خيرنا المقلدين في اتباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات والهوى في الاختيار”.
وقال ابن القيم: “وصاحب المحصول: عليه الترجيح بالأمارات، فإن الحق والباطل لا يستويان في الفطر السليمة”.
وذهب البعض إلى أن الترجيح يكون بالأخذ بالأشد احتياطاً، وقال الكعبي: يأخذ بالأشد فيما كان في حقوق العباد، أما في حق الله تعالى فيأخذ بالأيسر.
والأصح والأظهر عند الشافعية وبعض الحنابلة: أن تخير العامي بين الأقوال المختلفة للمفتين جائز، لأن فرض العامي التقليد، وهو حاصل بتقليده لأيّ المفتين شاء([59]).
وينبغي على المستفتي التأدب ببعض الآداب مع الذي يستفتيه، ومن ذلك:
أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي، ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجد فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه، وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة، فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: “جاء رجل منا إلى أبي الدرداء أَمَرَتْهُ أُمُّه في امْرَأَتِهِ أن يفارقها فرحل إلى أبي الدرداء يسأله في ذلك، فقال أبو الدرداء: ما أنا بالذي آمرك أن تطلق، وما أنا بالذي آمرك أن تمسك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(الوالد أوسط أبواب الجنة) فأضع ذلك الباب أو احفظه، قال: فرجع الرجل وقد فارقها”([60]).
وينبغي للمستفتي حفظ الأدب مع المفتي، وأن يجلّه ويعظّمه لعلمه ولأنه مرشد له([61])، ولا ينبغي أن يسأله عند همّ أو ضجر أو نحو ذلك مما يشغل القلب([62]).
ويجوز للمستفتي أن يطالب المفتي بالحجة والدليل احتياطاً لنفسه، ويلزم العالم أن يذكر له الدليل، وقال بعض الفقهاء لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالدليل.
ويكره للمستفتي كثرة السؤال، والسؤال عما لا ينفع في الدين، والسؤال عما لم يقع، وأن يسأل عن صعاب المسائل، وعن الحكمة في المسائل التعبدية.
ويكره له أن يبلغ بالسؤال حدَّ التعمق والتكلف، وأن يسأل على سبيل التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام لما في الحديث:(إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ)([63]).
فهذه بعض الآداب التي ينبغي على المستفتي أن يعمل بها من أجل الحصول على إجابة فتواه دون تقصير أو إفراط، فالواجب في طلب الفتوى هو الالتزام بما يوصل إلى صحتها.
حكم المستفتي إن لم يطمئن قلبه إلى الفتيا:
على المستفتي عندما يريد الحصول على حكم مسألة معينة، أو قضية خاصة به، أن يبحث عمن يجيبه، فإذا وجد من يجيبه وحصل على مقصوده ومراده فالأمر راجع له في قبول الفتوى أو لا، لكن يطرأ على بعض المفتين من التقصير في إجابة المستفتي، أو الشعور من جهة المستفتي بأن هذا المفتي لا يرتاح إليه في فتواه.
قال ابن القيم: “المستفتي لا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك، لحديث: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا)([64]). ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه بجهل المفتي أو بمحاباته له في فتواه، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة”([65]).
المبحث الثاني: أنواع الفتوى
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الفتوى بالرأي
الرأي هو:
ما يراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيها الأمارات، ولا يقال لما تختلف فيه الأمارات: إنه رأي([66]) والرأي يشمل القياس والاستحسان وغيرهما([67]).
ولا يجوز الإفتاء بالرأي المخالف للنص أو الإجماع، ولا يجوز المصير إلى الرأي قبل العمل على تحصيل النصوص الواردة في المسألة، أو القول بالرأي غير المستند إلى الكتاب والسنة، بل بمجرد الخرص والتخمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه:(كيف تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم)([68]).
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لشريح: “ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن لك في كتاب الله فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك”([69]).
قال ابن القيم رحمه الله: “وقالت طائفة من أهل العلم: من أَدَّاه اجتهاده إلى رأي رآه ولم تقم عليه حُجَّة فيه بعد فليس مذموما، بل هو معذور، خالفاً كان أو سالفاً، ومن قامت عليه الحُجَّة فعاند وتمادى على الْفُتْيَا برأي إنسان بعينه فهو الذي يلحقه الوعيد؛ وقد روينا في مسند عبد بن حميد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ).
وعن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قَضِيَّة فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السُّنَّة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله”([70]).
ذم الصحابة القول بالرأي:
ذكر ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين أمثلة ونماذج للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في ذمهم للرأي، فقال رحمه الله: “قال أبو بكر رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم”.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السُّنن،أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرّأي، فَضُلُّوا وأضَلُّو”.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “علماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوساً جهالاً يقيسون الأمور برأيهم”.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: “لو كان الدِّين بالرّأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه”.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “من أحدث رأيًا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل”([71]).
ذكر ما روي من رجوع بعض الصحابة عن آرائهم التي رأوها إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوها ووعوها:
عن سعيد بن المسيب قال: “كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: الدِّية للعاقلة لا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها) فرجع عمر عن قوله”([72]).
وعنه أيضاً قال: “قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأصابع بقضاءٍ ثم أُخبِر بكتابٍ كتبهُ النبي صلى الله عليه وسلم لابن حزم (في كل أصبعٍ مما هنالك عشر من الإبل) فأخذ به، وترك أمره الأول”([73]).
وعن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال:(يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ)([74]).
وعن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه عن أبي بن كعب أنه كان يقول: “ليس على من لم ينزل غُسل، ثم نزع عن ذلك ـ أي قبل أن يموت”([75]).
قال الشافعي: “وإنما بدأت بحديث أبي في قوله:(الماءُ من الماء) ونزوعه عنه أنه سمع: (الماء من الماء) من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع خلافه فقال به، ثم لا أحسبه تركه إلا أنه أثبت له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعده ما نسخه. وهذا الذي ظنه الشافعي قد روى سهل بن سعد أن أبي بن كعب وقف عليه توقيفاً مُبَيّنًا.
فعن سهل بن سعد قال: “حدثنا أبي بن كعب: أن الفتيا التي كانوا يفتون (أن الماء من الماء) كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزمان الأول. رواه أبو داود السجستاني عن محمد بن مهران فزاد: (ثم أمر بالاغتسال بعد)”([76]).
فهذه الكلمات اليسيرة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على ذمهم للرأي والأمر بتركه، والرجوع إلى الأصل الأصيل والنبع الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما بال أقوام في زماننا اتخذوا رأيهم حجة ودليلاً على صحة فتاويهم، حتى أنهم يجادلون في وجود النصوص التي توضح الحق بدليله، وصدق الله تعالى إذ يقول:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}([77]).
فلابد من مراجعة هؤلاء لحالهم مع الله يوم أن يقفوا بين يديه فيسألهم عما قالوا وأفتوا به، وليعدوا للسؤال جواباً وليكن الجواب صواباً، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}([78]).
وليحذر أولئك النفر من تحملهم لأوزار من يتبعونهم في أقوالهم وفتاويهم، وليعلموا أن كل من أضلوه برأيهم المخالف للكتاب والسنة سوف يتعلق في أعناقهم يوم القيامة، وصدق الله العظيم إذ يقول:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}([79])، وقال صلى الله عليه وسلم : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)([80]).
المطلب الثاني: الفتوى بالتقليد
معنى الفتوى بالتقليد:
هو أن يقلد العالم عالماً آخر في فتواه مصيباً كان أو مخطئاً.
وهنا وقفة: وهي هل يجوز للعالم أن يقلد غيره؟
ينظر في ذلك، فإن كان الوقت واسعاً عليه يمكنه فيه الاجتهاد لم يجز له التقليد، ولزمه طلب الحكم بالاجتهاد. وقيل: يجوز له تقليد العالم([81]).
وروي عن محمد بن الحسن الشيباني أنه قال: “يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله، والدليل على أنه لا يجوز له التقليد أصلاً مع اتساع الوقت: أن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم المطلوب، فلا يجوز له تقليد غيره، وأما إذا كان الوقت قد ضاق، وخشي فوات العبادة إن اشتغل بالاجتهاد، ففي ذلك وجهان: أحدهما: يجوز له أن يقلد، والوجه الثاني: أنه لا يجوز، لأن معه آلة الاجتهاد، فأشبه إذا كان الوقت واسعاً، وقيل: هذا أصح الوجهين، والله أعلم” ([82]).
والتقليد هو:
قبول القول من غير دليل، أي أن العامي يقبل فتوى العالم بدون أن يوضح له الدليل على حكمه، فيعمل به العامي تقليداً لمن أفتاه، حيث أن العامي يصعب عليه البحث والتنقيب في المسائل الشرعية لانشغاله بأمور معاشه وحاجاته.
قال أبو علي الطبري في تقليد العامي: “فرضه اتباع عالمه بشرط أن يكون عالمه مصيباً، كما يتبع عالمه بشرط أن لا يكون مخالفاً للنص، وقد قيل: إن العامي يقلد أوثق المجتهدين في نفسه، ولا يكلف أكثر من ذلك، لأنه لا سبيل له إلى معرفة الحق، والوقوف على طريقه، وكل واحد من المجتهدين يقينه بما أدى إليه اجتهاده، فيؤدي ذلك إلى حيرة العامي، فجعل له أن يقلد أوثقهما في نفسه، ويخالف المجتهد، لأنه يتمكن من موافقته على طريق الحق ومناظرته فيه”([83]).
ومعلوم أن الأحكام تنقسم إلى قسمين:
عقلي، وشرعي:
فأما العقلي: فلا يجوز فيه التقليد، كمعرفة الله تعالى، وصفاته، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، وغير ذلك من الأحكام العقلية.
وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال: يجوز التقليد في أصول الدين، وهذا خطأ ومنافٍ للنصوص الشرعية الواردة، قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}([84])، وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}([85])، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}([86]) فمنعهم الاقتداء بآبائهم من اتباع الأهدى فقالوا:{إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}([87])، وقال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}([88]). فتركوا جواب المسألة لانقطاعهم عنه، وكشفت المسألة عن عوار مذهبهم؛ فذكروا ما يسألهم عنه من فعل آبائهم وتقليدهم إياهم. وعلى ذلك فالعقل مناط التكليف وهو طريق إلى معرفة الأصول، والناس كلهم يشتركون في العقل، فلا معنى للتقليد فيه.
وأما الأحكام الشرعية، فضربان:
أحدهما: يعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلوات الخمس، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج، وتحريم الزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز التقليد فيه، لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه، والعلم به، فلا معنى للتقليد فيه.
وضرب آخر: لا يعلم إلا بالنظر والاستدلال: كفروع العبادات، والمعاملات، والفروج، والمناكحات، وغير ذلك من الأحكام، فهذا يسوغ فيه التقليد، بدليل قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}([89]).
ولأننا لو منعنا التقليد في هذه المسائل التي هي من فروع الدين لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك، وفي إيجاب ذلك قطع عن المعايش، وهلاك الحرث والماشية، فوجب أن يسقط.
فيمن يسوغ له التقليد ومن لا يسوغ:
الذي يسوغ له التقليد هو العامي الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية، فيجوز له أن يقلد عالماً، ويعمل بقوله قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}([90]).
والذي لا يسوغ له التقليد هو العالم، وهل يجوز أن يقلد غيره أم لا؟
قال الخطيب البغدادي: “ينظر فيه؛ فإن كان الوقت واسعاً عليه، ويمكنه فيه الاجتهاد، لم يجز له التقليد، ولزمه طلب الحكم بالاجتهاد، وأما إذا كان الوقت قد ضاق، وخشي فوات العبادة إن اشتغل بالاجتهاد ففي ذلك وجهان: أحدهما: يجوز له أن يقلد.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز لأن معه آلة الاجتهاد، فأشبه إذا كان الوقت واسعاً، وقيل: هذا أصح الوجهين والله أعلم”([91]).
أنواع التقليد:
النوع الأول: الإعراض عما أنزله الله تعالى وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء: فهذا النوع قام به المقلد قبل أن يتمكن من معرفة حكم ما يقلده.
النوع الثاني: تقليد من لا يعلم المُقَلِّد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله:
وهذا ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً أصابه جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني: فاحتلم ـ فَأُمِرَ بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (قتلوه قتلهم الله، إن شفاء العي السؤال)، قال عطاء: فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال:(لو غسل جسده، وترك رأسه حيث أصابه ـ يعني: الجرح)([92]) فالذي أفتاه بالغُسل جرّ على السائل الذي ليس عنده علم أن كان سبباً في وفاته، فنال الدعاء عليه من النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الفتوى بغير علم.
النوع الثالث: التَّقْليد بعد قيام الحُجَّة وظهور الدَّليل:
على خلاف قول المُقَلَّد، وهذا قَلَّد بعد ظُهور الحُجَّة له؛ فهو أولى بالذَّم ومعصية الله ورسوله، وهذا من أشد الأنواع ذماً كونه علم الحق بدليله فتركه وعمل بما أفتاه به المقلَّد.
وهذه الأنواع الثلاثة قد ذمها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}([93])، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}([94])، وهذا كثير فيمن يذم من أعرض عما أنزله الله تعالى وقنع بتقليد الآباء.
النوع الرابع: التقليد بعد الحجة والبيان:
فالذي بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فَقَلَّد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور.
ذم التقليد وأهله:
التقليد المذموم: هو الذي يورد صاحبه طريق الضلال والهلاك، فالمقلد الذي يسلك هذا الطريق يسير كالأعمى الذي لا يبصر، فإنه يمشي وراء كل من يوجهه دون بصر ولا بصيرة، فيسبب الهلاك لنفسه من دون أن يشعر بذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: “قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ}([95]) والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، وقال تعالى:{قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}([96])، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}([97]).
فأمر باتِّباع المنزل خاصة، والمقلِّد ليس له علم أن هذا هو المُنَزَّل وإن كان قد تَبيَّنت له الدلالة في خلاف قول من قلده فقد علم أَن تقليده في خلافه اتِّباع لغير المُنَزَّل، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}([98]) فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يبطل التقليد.
فإن قيل: إنما فيه ذم من قلَّد من أضله السبيل، أما من هداه السبيل فأين ذم الله تقليده؟ قيل: جواب هذا السؤال في نفس السؤال، فإذاً لا يكون العبد مهتدياً حتى يتَّبع ما أنزل الله على رسوله؛ فهذا المقلِّد إن كان يعرف ما أنَّزل الله على رسوله فهو مهتدٍ وليس بِمُقَلِّد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هُدى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم {إن كانوا} إنما يقلدون أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى.
فإن قيل: فأنتم تُقِرُّون أن الأَئِمَّة المقلدين في الدين على هدى، فمقلدوهم على هدى قطعاً؛ لأنهم سالكون خلفهم.
قيل: سلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم قطعاً؛ فإن طريقتهم كانت اتباع الحجَّة والنهي عن تقليدهم، فمن ترك الحجَّة وارتكب ما نهوا عنه ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتَّبع الحجَّة، وانقَاد للدليل، ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول صلى الله عليه وسلم يجعله مختاراً على الكتاب والسُّنَّة يعرضهما على قوله. وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد إتباعاً، وإيهامه وتلبيسه، بل هو مخالف للإتباع. وقد فَرَّق الله ورسوله وأهل العلم بينهما كما فَرَّقت الحقائق بينهما، فإن الاتِّباع سلوك طريق المُتَّبع والإتيان بمثل ما أتى به “([99]).
الفرق بين الاتِّباع والتَّقليد:
هناك فرق بين الإتباع والتقليد كبير لمن كان له بصيرة بالعلم وأهله من حيث أن المتبع يسلك الطريق بالحجة الدامغة والعلم الصحيح الواضح من غير تذبذب ولا شك، أما المقلد فإنه يتبع كل ناعق دون أن يكون عنده علم يهديه ويبصره بصحة تقليده، وضرر التقليد عظيم على من سلك طريقه دون أن يعرف من يأخذ منه، أو الوقوف على ما يأخذه من المقلَّد.
قال ابن القيم رحمه الله: “قال أبو عمر في الجامع: باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بينه وبين الاتِّبَاع، قول أبو عمر: قد ذَمَّ الله تبارك وتعالى التَّقليد في غير موضع من كتابه فقال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} روي عن حذيفة وغيره قال: لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم أحلُّوا لهم وحرَّموا عليهم فاتَّبَعوهم.
وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب، فقال: (يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك)، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا، قال:(بلى، أليس يُحِلُّون لكم ما حُرِّم عليكم فَتحلُّونه ويُحَرِّمُون عليكم ما أُحِلَّ لكم فتحرمونه؟) فقلت: بلى، قال:(فتلك عبادتهم).
قال: فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي الكتاب والسنَّة وما كان في معناهما بدليل جامع، ثم ساق من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إنِّي لا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي إلا مِنْ أَعْمَالِ ثَلَاثَةٍ)، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: (أَخَافُ عَلَيْهِمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ) وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(تَرَكْت فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم) “ ([100]).
المطلب الثالث: الفتوى بالدليل والاجتهاد
المفتي الذي يقوم بإفتاء الناس في أمور دينهم لابد أن يكون على بصيرة بما يبلغه عن ربه، لأنه يوقع عن رب العالمين في تعليم الناس وتوجيههم إلى الحق، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق العلم الشرعي المستخرج من الكتاب والسنة، فلابد من وجود أصول الأحكام التي يقف عليها هذا المفتي كي يكون أهلاً للفتوى، وقد ذكرها الخطيب البغدادي بقوله: “أصول الأحكام في الشرع أربعة:
أحدها: العلم بكتاب الله تعالى على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام: محكماً ومتشابهاً، وعموماً وخصوصاً، ومجملاً ومفسراً، وناسخاً ومنسوخاً.
والثاني: العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله، وأفعاله، وطرق مجيئها في التواتر، والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها على سبب أو إطلاق.
والثالث: العلم بأقوال السلف فيما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه، ليتبع الإجماع، ويجتهد في الرأي مع الاختلاف.
والرابع: العلم بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها، والمجمع عليها، حتى يجد المفتي طريقاً إلى العلم بأحكام النوازل، وتمييز الحقِّ من الباطل.
فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه، ولا يجوز له الإخلال بشيء منه “([101]).
عن الضحاك قال: “لقي ابن عمر جابر بن زيد وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تُفْتِ إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية،فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت “([102]).
وعن أبي نضرة قال: ” قدم أبو سلمة ـ وهو ابن عبد الرحمن ـ فنزل دار أبي بشير، فأتيت الحسن، فقلت: إن أبا سلمة قدم وهو قاضي المدينة وفقيههم انطلق بنا إليه، فأتيناه، فلما رأى الحسن، قال: من أنت؟ قال: أنا الحسن بن أبي الحسن، قال: ما كان بهذا المصر أحد أحب إليّ أن ألقاه منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي الناس، فاتق الله يا حسن وأفت الناس بما أقول لك: أفتهم بشيء من القرآن قد علمته، أو سنة ماضية قد سنها الصالحون والخلفاء، وانظر رأيك الذي هو رأيك فألقه”.
وهذا لن يستطيعه المفتي إلا أن يكون قد أكثر من الإطلاع على كُتبِ الأثر وسماع الحديث.
المبحث الثالث:
الإفتاء في دين الله بغير علم
وضرره على الإسلام والمسلمين
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: خطورة القول على الله بغير علم
إن المفتي الذي يعلم الناس ويوجههم إلى الحلال والحرام، ويبين لهم أمر دينهم يتحمل أمانة عظيمة، وتبعة ثقيلة، فإذا كان تقياً ورعاً، عالماً بضعفه وحاله، واحتياجه إلى عون ربه، وأن فتياه وتعليمه للناس إنما هو توقيع عن ربه تبارك وتعالى، فهو يحذر من أن يقول على الله إلا ما أمر به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك فيجب على من يفتي ألا يعرض نفسه للوعيد الشديد الذي أشار إليه القرآن الكريم في آيات كثيرة كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}([103]) وقوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ..}([104])، وقوله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ..}([105])، وقوله تعالى:{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}([106])، وغير ذلك من الآيات الدالة على شدة خطر القول بأن هذا حلال وهذا حرام، وهذا من أشد الأشياء التي تقال لأن المرء لا يجزم بموافقة حكم الله جل وعلا في المسائل الخلافية أو في المسائل المجتهد فيها.
وقد كان هدي السلف رضوان الله عليهم في هذه المسائل الورع والاحتياط في الدين، فلا يقولون هذا حلال إلا لما اتضح دليله من أدلة الشرع، ولا يقولون هذا حرام إلا إذا اتضح دليله، وكثير منهم كان يعبر بقوله: أكرهه، لا أحبه، أو يقول: لا يجوز هذا، ونحو ذلك، وذلك بعداً منهم وخلوصاً من استعمال لفظ الحلال والحرام، وقد قال الله تعالى في ذلك:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}([107]).
فكفى بهذه الآية زاجراً زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وكفى بها باعثة على وجوب الاحتياط في الأحكام، وأن لا يقول أحدٌ في شيء هذا جائز وهذا غير جائز إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله عز وجل، وهذا يوجب الخوف من الدخول في الفتيا في كل ما يسأل عنه الناس، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)([108])، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)([109])، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه)([110]).
فهذه الآيات والأحاديث تدل دلالة واضحة على خطورة القول على الله بغير علم لما فيها من الضرر العظيم على المفتي والمستفتي، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدافعون الفتوى، حتى أن كل واحد منهم يود لو أن أخاه كفاه إياها، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى”.
وعن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: “ما رأيت أحداً جمع الله فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أَسْكت عن الفتيا منه”.
فينبغي أن يعلم أن هدي السلف الصالح وما كان عليه أئمتنا رحمهم الله تعالى، ومشايخنا ـ رحم الله الميت منهم وحفظ الحي ونفعنا بعلمه ـ هو التشديد في أمر الفتوى، وأن المرء يجب عليه أن يربأ بنفسه أن يعرض دينه وحسناته للخطر بذنب يحدثه في الأمة.
المطلب الثاني:
أثر القول على الله بغير علم
على المفتي والمستفتي
إن الفتوى الصحيحة التي لها أثرها العظيم على المفتي والمستفتي، ما كانت مرتبطة بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة فهذه لها الأثر الفعال في نفع المستفتي وغيره من الناس، وكذا على المفتي حيث يزيد علمه وفقهه وتمسكه بالحق، فالخير كل الخير في اتباع منهج السلف رضوان الله عليهم في التمسك بما جاء في الكتاب والسنة والوقوف عندهما لقول الله تعالى{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}([111]) وقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}([112]).
وأما إن كانت الفتوى غير صحيحة كان أثرها على الناس خطيراً، وعادت على الأمة الإسلامية بالشر المستطير، وخاصة في زماننا الحالي الذي كثر فيه من يفتي الناس بغير علم، حتى غدا لكل قناة فضائية مفتٍ خاص بها يقول ما يشاء، ويفتي الناس بما يشاء، وهذه من المعضلات الخطيرة التي تمر بالأمة.
ومن أسباب القول على الله بغير علم من ناحية المفتي ما يلي:
أولاً: يعرض للمفتي أحياناً انحرافات تنشأ عن ضعف مراقبته لله، وغيبة أمر الآخرة عنه، وعظمة الدنيا وأهلها في عينه، فالطريق المستقيم أن يكون الناس أمامه سواسية، وأن يبين لهم حكم الله تعالى بما يعلم أنه الحق، ولقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}([113])، وقوله تعالى لداود عليه السلام:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ..}([114])، وأمر الله عباده المؤمنين بذلك في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}([115])، فأخبر تعالى أن محبة النفع للقريب ونحوه قد تحمل القائل على أن يحرِّف الحكم عن وجهه الصحيح، وقد يحمل على الإعراض عن الحق بالكلية بأن يحكم بحكم مخالف للحكم الصحيح.
وثانياً: أن لا يكون الناس عنده سواسية في ما يخبرهم به، فإن كان المستفتي رجلاً من عامة الناس لم يبال أنى يعطيه الحكم مهما كان شديداً دون تروٍ أو تمحيص لحاله، فإن جاءه قريبه أو صديقه أو ذو هيئة أو منصب اهتم للتفهم منه، وابتغى له الرخصة والمخرج.
وثالثاً: أن يُعلِّم الناس الحيل التي يتخلصون بها ظاهراً من الحقوق التي تلزمهم لله أو لعباده، كمن يفتي من ستجب عليه الزكاة لقرب انتهاء الحول، بأن يهب ماله لزوجه أو صديقه، ثم يستعيده منه، ليسقط حق الزكاة، وكمن يفتي الرجل بفساد عقد زواجه ليكون طلاقه الثلاث لاغياً، فيستبيح الرجوع إلى مطلقته، أو يعلم المرأة أن ترتد لينفسخ عقد نكاحها، وبعض العلماء يسمي المفتي الذي يفتي على هذه الطريقة ـ المفتي الماجن ـ لأنه يتلاعب بأحكام الله تعالى ويستهزئ بها، فعمله كأنه سخرية وهزأ بالمقاصد التي وضعت لها الأحكام.
ورابعاً: ومن ذلك مجاراة الظروف الواقعة وقبولها والإفتاء بصحتها وشرعيتها، مع مخالفتها للحكم الشرعي، وذلك أن للواقع الجاري سلطاناً على النفوس بتصور صعوبة تغييره.
وخامساً: أن يشدد في ما سهل فيه الشرع، أو فيما له مخرج شرعي صحيح، فيترك الوجه المشروع ويخبر بفتيا أشد مما يجب إظهاراً للتمسك بالدين، وشدة التقوى، وغلبة الورع، والامتثال لظواهر الأحكام وحرفيات الدين، وغمزاً للآخرين بأنهم متساهلون ومنحرفون، وقد نقل عن سفيان الثوري أنه قال: “إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد”([116]).
فكل هذه الأسباب وغيرها لها تأثيرها على المفتي وغيره ممن يتصدرون لتعليم الناس وإفتائهم في أمور الدين، وهذه من أخطر الأشياء عليه حيث تخرجه من النفع إلى الضرر، ومن صرف الناس عن الأوزار إلى إعانتهم على كسبها وتحملها معه يوم القيامة، وصدق الله تعالى إذ يقول:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}([117]).
المبحث الرابع: الحجر في الفتوى
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول:
تعريف الحجر في الفتوى
تعريف الحجر:
في اللغة: المنع، يقال: حجر عليه حجراً منعه من التصرف فهو محجور عليه([118])، ومنه سمي الحطيم حجراً لأنه منع من أن يدخل في بناء الكعبة. وقيل الحطيم جدار الحجر،والحجر ما حواه الجدار. وسمي العقل حجراً لأنه يمنع من القبائح، قال تعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}([119]) أي لذي عقل([120]).
وفي الاصطلاح: منع نفاذ تصرف، قولي لا فعلي، لصغر، ورق، وجنون([121]).
مشروعية الحجر:
ثبتت مشروعية الحجر بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً}([122])، وقوله:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}([123]).
وأما السنة: فعن كعب بن مالك رضي الله عنه “أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ رضي الله عنه ماله وباعه في دين كان عليه”([124]).
وروى الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير “أن عثمان رضي الله عنه حجر على عبد الله بن جعفر رضي الله عنه بسبب تبذيره”.
حكمة تشريع الحجر:
قرر الشارع الحجر على من يصاب بخلل في عقله كجنون وعته حتى تكون الأموال مصونة من الأيدي التي تسلب أموال الناس بالباطل والغش والتدليس، وتكون مصونة أيضاً من سوء تصرف المالك.
كما قرر الحجر أيضاً على من يسترسلون في غلواء الفسق والفجور والخلاعة ويبددون أموالهم ذات اليمين وذات الشمال صوناً لأموالهم، وحرصاً على أرزاق أولادهم، ومن يعولونهم في حياتهم وبعد مماتهم.
وكذلك شمل الحجر أيضاً على من يتعرض للإفتاء وهو جاهل لا يعلم حقيقة الحكم الشرعي فيضل ويضل،وتصبح فتنة بين المسلمين من وراء فتياه.
وهذا يدخل في الحجر للمصلحة العامة، وقد ذهب الحنفية إلى فرض الحجر على ثلاثة ومنهم: المفتي الماجن.
فالمفتي الماجن: هو الذي يعلم الناس الحيل الباطلة، كتعليم الزوجة الردة لتبين من زوجها، أو تعليم الحيل بقصد إسقاط الزكاة، ومثله الذي يفتي عن جهل.
وليس المراد الحجر على هذا المفتي الماجن هو المنع الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف، لأن المفتي لو أفتى بعد الحجر وأصاب جاز، وإنما المقصود المنع الحسي، لأنه مفسد للأديان، فمنع هذا الصنف دفع لضرر لاحق بالخاص والعام، وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([125])
المطلب الثاني:
أصناف المحجور عليهم
لقد ظهر على الساحة الإعلامية كثير من القنوات الفضائية التي تعرض علينا أشكالاً وأنواعاً من فتاوى من ينتسبون إلى العلم الشرعي، فيبيحون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون، ويوقعون الناس في الحرج والضيق، ويضلون ويُضلون، وهؤلاء إلا من شاء الله منهم ليس عندهم وازع من التقوى والورع، ولو كان العلم الذي يحملونه في قلوبهم يردعهم عن القول على الله بغير علم لحفظوا أنفسهم وإخوانهم المسلمين من الوقوع في المصائب والفتن، وصدق الله تعالى إذ يقول:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}([126]).
والمفتون في أي عصر معرضون للخطأ بحكم بشريتهم، وعدم ضمان العصمة لهم، ولكن المؤثرات الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية في عصرنا أشد منها في أي عصر مضى ومن هنا تكثر المزالق التي تزل فيها الأقدام، وتضل الأفهام، وتتعدد أسباب الخطأ إن لم نقل الانحراف.
والضرر المخوف من الخطأ أو الانحراف في فتاوى عصرنا أشد منه في أزمنة سلفت نظراً لسعة الدائرة التي تنتشر فيها الفتوى الخاطئة أو المنحرفة، بواسطة وسائل الإعلام الحديثة من طبع ونشر وإذاعة وتلفزة وقنوات وجوالات وأقمار صناعية ومبتكرات حديثة وغيرها، ولهذا كان لزاماً أن نبين ـ بقدر الاستطاعة ـ بعض أصناف من يتعاملون بالفتوى على غير وجهها الصحيح.
ومن الأصناف التي ينبغي الحجر عليها:
الأول: المفتي الجاهل بالنصوص الشرعية:
وهذا الصنف ممن يقعون في القول على الله بغير علم فيضلون ويضلون، ومثال ذلك ما يفتي به بعضهم من جواز وصل الشعر، أو لبس رأس صناعي كامل من الشعر، تلبسه المرأة فوق شعرها الطبيعي تغطي بها رأسها كله تغش به الناس وتلبس عليهم، وهذا العمل محرم ظاهر التحريم.
فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأختها أسماء وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لعن الواصلة والمستوصلة)، والواصلة هي التي تقوم بوصل الشعر لنفسها أو لغيرها، والمستوصلة التي تطلب ذلك، وغير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على تحريم هذا العمل.
الثاني: المفتي الذي يقع في سوء التأويل للنصوص الشرعية:
من المفتين ـ هداهم الله ـ من يسيء تأويل بعض النصوص الشرعية بسبب سوء فهمه، أو اتباعاً لشهوة، أو إرضاء لنزوة، أو حباً لدنيا، أو تقليداً أعمى للآخرين.
ومعلوم أن سوء الفهم أو سوء التأويل آفة قديمة منيت بها النصوص الشرعية، وهو أحد الوجهين فيما وصم به القرآن أهل الكتاب من (تحريف الكلم عن مواضعه).
وليس المقصود بالتحريف تبديل لفظ مكان لفظ فحسب، بل يشمل تفسير اللفظ بغير المراد منه، فهذا هو التحريف المعنوي، والأول هو التحريف اللفظي.
ومن أمثلة سوء التأويل ما قاله بعضهم حول الآيات التي وردت في سورة المائدة في شأن من لم يحكم بما أنزل الله، وهو قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}([127]).
قال هذا القائل: إن هذه الآيات لم تنزل فينا معشر المسلمين وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، ومقتضى هذا ـ في زعمه ـ أن من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والنصارى فهو كافر أو ظالم أو فاسق، وأما من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين فليس كافراً ولا ظالماً ولا فاسقاً!! وهذا والله مما لا ينقضي منه العجب.
صحيح أن سياق الآيات في أهل الكتاب لأنها جاءت بعد الحديث عن التوراة والإنجيل وأهلهما ولكن يلاحظ أنها جاءت بألفاظ عامة، تشمل كل من اتصف بها من كتابي أو مسلم، ولهذا حقق الأصوليون من علماء المسلمين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن ثم فإن نزول هذه الآيات في شأن أهل الكتاب لا يجعلها مقصورة عليهم لأنها جاءت بألفاظ عامة تشملهم وتشمل كل من شاركهم في الوصف المذكور.
الثالث: المفتي الذي يقع في عدم فهم الواقع على حقيقته:
فبعض المستفتين إذا سأل سؤالاً حول موضوع معين مثل ما نشرته إحدى الصحف على لسان أحد العلماء: أن لبس (الرأس الصناعي) أمر مشروع ولا غبار عليه من الناحية الشرعية بدعوى أنه ليس أكثر من غطاء للرأس، فهو ليس داخلاً في الوصل الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، وإنما هو بمثابة من وضع على رأسه عمامة أو خماراً أو نحو ذلك، وتفريعاً على ذلك يجوز للمرأة أن تخرج به دون أن تغطي رأسها بشيء لأنه هو نفسه غطاء!!.
وهذا فهم أعوج وأعرج لحقيقة موضوع الاستفتاء وهو (الرأس الصناعي فإن اعتباره غطاء أو خمار للرأس أمر لا يقره الشرع، ولا العقل، ولا الفطرة، ولا العرف، ولا اللغة.
ولا يقول أحد من أهل الشرع أن لبس الرأس الصناعي امتثال لقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}([128])، ولا يقول العرف: إن المرأة إذا لبست الرأس الصناعي قد اختمرت أو غطت رأسها، ولا تدعي لابسته نفسها أنها مختمرة، ولا يزعم لغوي أن هذا الرأس يصلح لأن يسمى خماراً.
ومصدر الخطأ الذي وقع فيه المفتي هو إخراج (الرأس الصناعي) من مسمى الوصل الملعون فاعله على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم توهماً منه أنه ليس وصلاً، لأنه شعر كامل يلبس فوق الرأس كله، ولذلك يسمى (الرأس الصناعي).
الرابع: المفتي الذي يخضع للأهواء:
وهذا من أشد المزالق خطراً على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء أصحاب المكانة الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعاً لأهوائهم، وإرضاء لنزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم.
ومثال ذلك اتباع أهواء العامة وإرضائهم بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق.
هذا مع تحذير الله تعالى أشد التحذير من اتباع الهوى، يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}([129]).
وفي سورة المائدة وهي من أواخر ما نزل من القرآن المدني يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}([130]). وغير ذلك كثير في القرآن الكريم، فكل هذا التشديد والتنديد والتحذير والتنفير من الهوى لأنه كما قال بعض السلف شر إله عبد في الأرض.
وكثير من الضلال الذي هلكت به الأفراد والأمم لم يجيء نتيجة الجهل بالحق، بل نتيجة عبادة الهوى من بعد ما تبين لهم الهدى، ولهذا يكمن الخطر في ضعاف النفوس،
ومرضى القلوب من علماء الدنيا الذين يزينون للناس سوء أعمالهم فيرونه حسناً.
وهذا من أشد الأصناف خطراً على الإسلام والمسلمين حيث يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، نسأل الله المعافاة من ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: “فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتحيز وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه، وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر والله المستعان”([131]).
الخامس: المفتي الذي يخضع للواقع المنحرف:
وهذا الواقع إنما صنعه الاستعمار الغربي أيام سطوته وسيطرته على بلاد المسلمين ومقدراتهم الثقافية والاجتماعية وغيرها، ثم استمر بل نما على أيدي عملائه وتلامذته من بعده ممن تخرجوا على يديه، وصنعوا على عينيه.
ولا ريب أن كثيراً من الناس ممن يتصدون للحديث عن الإسلام وأحكامه يعانون هزيمة روحية أمام هذا الواقع، ويشعرون بالضعف البالغ أمام ضغطه القوي المتتابع.
فلا عجب أن تأتي أحاديثهم وفتاويهم (تبريراً) لهذا الواقع المنحرف، وتسويغاً لأباطيله بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان ولا قام عليها من برهان.
ولهذا رأينا بعض المشتغلين بالفقه والفتوى في بعض البلاد الإسلامية أيام سطوة الرأسمالية يجهدون أنفسهم في تبرير البنوك الربوية الرأسمالية وبذل المحاولات المستميتة لتحليل الفوائد رغبة في إعطاء سند شرعي لبقاء هذه البنوك واستمرارها مع رضا الناس عنها، وهكذا الحال في البلاد الشيوعية حيث يبرر العملاء المذهب الاشتراكي ويزينونه بكل وسيلة.
السادس: المفتي الذي يبيح ما حرّم الله بالحيل:
وهذا الصنف من أخطر الأصناف التي يراها الناس هذه الأيام بحيث يحاول من يفتي أن يرخص للناس بعض الأمور الشرعية بطريقة الحيل الشيطانية كما كانت بنوا إسرائيل يقع منها ذلك.
ومن أمثلة ما يقع من هذا الصنف تحايلهم على النصوص الشرعية الصريحة لإباحة ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كمن يحلل للزوج الذي طلق امرأته ثلاثاً فبانت منه بينونة كبرى أن يأتي برجل فيزوجه امرأته التي طلقها دون دخول بها، أو يدخل بها ثم يطلقها تحليلاً لهذا الزوج حتى تحل له مرة أخرى، وهذا مناقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لعن الله المحلل والمحلل له)([132]).
وأيضاً كمن يبيح للمرأة أن ترتد عن الإسلام كي تطلق من زوجها، ثم تعود للإسلام مرة أخرى.
ومن يبيح للرجل العقيم أن يسمح لامرأته بمعاشرة رجل أجنبي لتحصيل الولد، وغير ذلك كثير من صور التحايل التي يقع فيها بعض المفتين، وهكذا تجرأ هؤلاء على دين الله حتى عظمت جريرتهم وارتكبوا ما حرم الله بأدنى الحيل.
المطلب الثالث:
من يقوم بالحجر في الفتوى:
ورد عن بعض السلف حجر الفتوى على أقوام دون غيرهم، وقد روي أن عمر قال لابن مسعود: “نبئت أنك تفتي الناس ولست بأمير فولِّ حارَّها من تولى قارَّها”، قال الذهبي رحمه الله: فدل على أن عمر رضي الله عنه يرى منع من أفتى بلا إذن.
عن ابن سيرين أن عمر قال لابن مسعود: “أما بلغني أنك تقضي ولست بأمير؟ قال: بلى! قال: فول حارَّها من تولى قارها”([133]).
وعن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى: “إنه بلغني أنك تقضي ولست بأمير ، قال: بلى، قال: فول حارّها من تولى قارّها”([134]).
وكانوا في زمان بني أمية يأمرون منادياً في الحج يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح.
وأيضاً كانوا ينادون في المدينة: لا يفتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مالك.
وعلى ذلك فالذي يقوم بالحجر على من يفتي بغير علم، أو يتجرأ على تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله هو ولي أمر المسلمين أو من ينوب عنه من أهل العلم المعتبرين إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين، لما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه عندما منع ابن مسعود من الفتيا.
وعلى ذلك فالحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان ولاسيما إذا تجرأ غير المؤهلين وتصدروا وتنمر الأصاغر.
وهذا واضح في البلاد التي يكون فيها الحاكم قائماً بأمر الله، متبعاً لشريعة الله، وأما في البلاد غير المنضبطة التي لا تحكم بشريعة الله وقد يكون الحاكم غير مسلم فهنا الذي يتولى الحجر هم أهل الحل والعقد من العلماء الذين يتولون الفتيا في أمور البلاد العامة، فلهم أن يصدروا بياناً أن فلاناً غير مؤهل للفتوى ولا تقبل فتواه، وهذا كاف في تزهيد الناس فيه، وتنفيرهم عن الأخذ منه، ولو علم ذلك المفتي الذي يفتي بغير علم فيقع في العظائم أن وراءه من سيقف في وجه فتواه وإشاعة هذا للناس لحسب لذلك ألف حساب، ولكان هذا رادعاً له ولأمثاله عن القول على الله بغير علم.
ألسنا إذا مرض فرد من المسلمين بمرض معدٍ هرعنا إلى المشافي لطلب العلاج، والحجر على هذا الشخص الذي يعدي مرضه حرصاً على سلامة أبدان الآخرين من هذا المرض.
أليس الحجر على من يضلل عقول الناس ويفسد عليهم دينهم بأولى من الحجر على من يفسد أبدانهم.
إن هذا أمر يجمع عليه العقلاء في كل زمان ومكان، فلنتعاون جميعاً لتحقيق الخير لبلادنا ومجتمعنا في ظل شرع الله، نسمع ونطيع لحكامنا وعلمائنا الصادقين الناصحين وهم تاج هذا الزمان ولله الحمد والمنّة.
المطلب الرابع:
أثر الحجر في الفتوى:
الحجر أثره عظيم ونفعه عميم إذا كان من يقوم به ينظر لمصلحة المسلمين العامة، وعدم إيقاع الضرر عليهم فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالجرأة على الفتوى وتساهل الكثيرين فيها أدى إلى بلبلة عظيمة، وأوقع الناس في الحرج، وأصبح الكثيرون يتندرون ببعض الفتاوى التي تصدر عن بعض القنوات الفضائية ولا زلت أذكر ذلك الرجل الذي يذكر أنه سأل أربعة من المشائخ كل أسبوع يسأل واحداً منهم، ويجيبه بجواب يختلف عن الآخر، وإذا ناقشه المستفتي قال له إن ما تقوله خطأ وغير صحيح، فيقول المستفتي إنه أفتاه فيه شيخ آخر وهكذا.
وهنا أتمنى من العلماء كافة أن يعملوا على إيجاد لجان متخصصة في كل بلد للإجابة على تساؤلات المسلمين في جميع أنحاء العالم تجمع نخبة كبيرة من العلماء المعروفين بمنهجهم الصحيح النابع من الكتاب والسنة من جميع الدول الإسلامية، لئلا يحصل الشتات بين المسلمين في دينهم، ويحصل الشك والتنازع بسبب ما يمليه بعض من يحسب على أهل العلم، ولعل في المجامع العلمية والهيئات الشرعية واللجان الدائمة ما يحقق شيئاً من هذا.
ولابد أيضاً من إيقاف هذا المد الجارف ممن يفتون الناس بغير علم، على أن يكون المسؤول عن ذلك هم المجمع على فتاويهم، وتخاطب القنوات الفضائية وجميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية من أجل التعاون في ذلك حتى تعم الفائدة لجميع المسلمين، ويرتفع صوت الحق عالياً خفاقاً يحكم بين الناس بالحق والهدى والرشاد.
وعلى ذلك فالحجر أثره عظيم ونفعه عميم إذا كان من يقوم به ينظر لمصلحة المسلمين العامة، وعدم إيقاع الضرر عليهم فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولابد أن تكون هناك جهة تقوم على هذا الأمر على مستوى الدولة داخلياً والعالم الإسلامي خارجياً حتى يتم وقف هذا العبث الذي يذهب بعظمة هذا الدين، وحتى لا يتلاعب به كل من أراد الإفساد والفساد، وخير شاهد على ما نقول قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([135]).
إن من الأمور المسلَّمة عندنا أن الواحد منا إذا احتاج ولده لطبيب بحث عن أمهر الأطباء، وهكذا إذا احتاجت سيارته لإصلاح أو كان في بيته خلل يحتاج إلى بناء بحث عن أمهر المهندسين وأمهر البنائين، فكيف بنا إذا احتاجت عقولنا وأرواحنا إلى ما ينفعها ويقربها إلى خالقها في إصلاح دينها، ألا يجدر بنا أن نبحث عن أفضل العلماء وأتقاهم لنعبد الله على بصيرة، متبعين غير مبتدعين، وصدق الله العظيم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([136]).
المبحث الرابع:
تغير الفتوى واختلافها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول:
سبيل العلماء المتقدمين في الفتوى
واعتمادهم على الدليل:
الناظر في حال السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ يرى شدة تقواهم وخشيتهم لله، وحرصهم على الحق وإظهاره والعمل به، ويتبين له سبيلهم في الأخذ بالدليل والنص، فكانت فتاويهم واجتهاداتهم لا تنافي الشرع ولا تخالف نصاً، إنما كان طريقهم في الفتوى هو الأخذ بالحق الذي لا مرية فيه ومن أجل رفع الحرج ودفع المفاسد.
وإيضاحاً لما كان عليه السلف نأتي ببعض الأمثلة من فتاويهم واجتهاداتهم في هذا السبيل وعلى رأسهم حبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمَّته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
“وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال:(لا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ) وقال:(مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ)، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله ” يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بِكُفْرٍ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء”([137]).
وعلى ذلك سار خلفاؤه الراشدون ومن بعدهم إلا من شذ عن طريقهم من الخوارج الذين خالفوا الإجماع في ذلك فسببوا كثيراً من الفتن إلى يومنا هذا، ولعل ما يحدث اليوم من تكفير وتفجير وإرهاب خير شاهد على ما أقول.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نَهَى أَنْ تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ) رواه أبو داود، فهذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره فقال: لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو، وقد (أتى بشر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنه فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ) لقطعت يدك) رواه أبو داود، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة، روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن عمر أنه “كتب إلى الناس أَن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار”([138]).
وتبين مما سلف أن الصحابة وتابعيهم لم يخالفوا قول الحق في الاتباع، بل كانوا حريصين على النص والإجماع، وهذا دليل حرصهم على التمسك بصراط الله المستقيم.
ومثال آخر: أن المُطَلِّق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدرٍ من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة، كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس؛ فروى مسلم في صحيحه عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: “كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم”([139])، وما قام به عمر فيه عين المصلحة فلم يقع في خلاف النص، بل استند في ذلك إلى النصوص الأخرى الدالة على التشديد على المتهاونين بالدين، الذين قلّ إيمانهم، وبعدت طريقتهم عن نهج السلف الصالح في عملهم بما وصل إليهم من النصوص الشرعية.
المطلب الثاني:
سبيل العلماء المتأخرين
واعتمادهم على الرأي والمذهب:
في الأزمنة المتأخرة خرج على المسلمين من يتعصب للمذهب والرأي، ويقدم ذلك على ما عنده من علم الكتاب والسنة، وقد تكلم السلف في هذا النوع من أجل تبصرة المسلمين به لتجنبه والحذر منه.
قال ابن القيم رحمه الله: “عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام؛ فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس”.
فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض، فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان؟، فالله المستعان.
قال أبو عمر: وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لِكميل بن زياد النخعي ـ وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم ـ: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. ثم قال: آه إن ههنا علماً ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حملة، بل قد أصبت لقنا غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر،مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه”([140]).
وذكر أبو عمر عن أبي البختري عن علي قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لابدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء.
وقال ابن مسعود: “لا يُقَلّدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشَّر. قال أبو عمر: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يَذْهَبُ الْعُلَمَـاءُ، ثُمَّ يَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالا، يُسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ) قال أبو عمر: وهذا كله نفي للتقليد، وإبطال له لمن فهمه وهدي لرشده.
ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى حدثنا سفيان بن عيينة قال: اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم: ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروا به ائتمروا.
وقال عبد الله بن المعتمر: لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد.
ثم ساق من حديث جامع بن وهب: أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمر عن عمرو بن أبي نعيمة عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدِهِ فَقَدْ خَانَهُ، وَمَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا بِغَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه إفتاء بغير ثبت؛ فإن الثبت الحجة التي يثبت بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر([141]).
المطلب الثالث:
الفروق بين فتاوى
المتقدمين والمتأخرين وأمثلة منها:
هناك فرق كبير وبون شاسع بين المتقدمين والمتأخرين في سلوك سبيل الفتوى والاجتهاد، فالمتقدمون كان اعتمادهم على النصوص وهو الأساس في الحكم والفتوى، وكانوا لا يألون جهداً في سبيل الوصول إلى الحق بدليله، والسنة مليئة بأكثر مما ذكرنا، وأما المتأخرون فغلب على فتاواهم الرأي والمذهب، حيث جعلوا المذهب إمامهم، ورأيهم تبعاً لهواهم فضل الكثير منهم بسبب ذلك، وتشتت القلوب وتباغضت بسبب هذا السلوك المشين الذي سبب بعد الناس عن حقيقة شريعة رب العالمين التي جعلها الله خيراً للعباد في العاجل والآجل. وانظروا لهذا المثل العجيب لورع السلف وحرصهم على إيصال الحق بدليله، وخشيتهم من الوقوع في خطأ يعود أثره عليهم وعلى من يفتيهم:
قال ابن القيم رحمه الله: “ذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عنه قال: كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم، فتعرض له ابن دينار يوما فقال له: يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي، وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا؟ فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم، قال: إني قد كبرت سني ودق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني،ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان،إذا سمعا مني حقا قبلاه،وإن سمعا خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه.
قال ابن حارث: هذا والله الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزل قوله من العقاب منزلة القرآن”([142]).
وقد ورد من أقوال أئمة المذاهب المشهورة في عدم التقيد بمذهبهم على حساب النصوص الصحيحة ليبينوا للناس كافة أن الأساس هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك ما دون ذلك لكي لا يضل الناس بتركهم إياه.
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”([143]).
وقال: “لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه”. وفي رواية: “حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي”. زاد في رواية: “فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا”. وفي أخرى: “ويحك يا يعقوب ـ هو أبو يوسف ـ لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد”([144]). وقال: “إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي”([145]).
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”([146]).
وقد روي مثل ذلك عن مجاهد وقال: “ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك”([147]).
قال ابن وهب: “سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع”([148]).
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر، وأتباعه أكثر عملاً بها فمنها: “ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي”([149]).
وقال: “أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد”([150]).
وقال أيضاً: “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت”.
وفي رواية: “فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد”([151]). وقال: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”([152]).
وقال: “أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا”([153]).
وقال: “كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي”([154]). وقال: “إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب”([155]). وقال: “كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني”([156]).
وقال: “كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني”([157]).
وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة وتمسكاً بها حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، لذلك قال: “لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخُذ من حيث أخذوا”([158]). وفي رواية: “لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين وما بعد فالرجل فيه مخير”.
وقال مُرَّة: “الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير”([159]). وقال: “رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار”([160]). وقال: “من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة”([161]).
تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}([162]).
وقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([163]).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: “فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه”.
قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها أو أخذ بخلافها ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث فيها انفراداً واجتماعاً في مجلد ضخم قال في أوله: “إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم”.
لقد ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعاً للسنة ولذلك كله كان أتباع الأئمة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها بل قد تركوا كثيراً منها لما ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة (في نحو ثلث المذهب) وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك.
ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز فلنقتصر على مثالين اثنين: قال الإمام محمد في ـ موطئه، ص 158ـ: “قال محمد: أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه” إلخ .
وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبي يوسف كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيراً لأنه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به ” ولذلك (كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه) كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم.
قال الشافعي: “مثل الذي يطلب العلم بلا حُجَّة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري” ذكره البيهقي.
وقال إسماعيل بن يحيى المُزَنِيّ في أول مختصره: “اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه”.
وقال أبو داود: “قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعي ثم بعد فالرجل فيه مُخيَّر”.
وقد فَرَّق أحمد بين التَّقليد والاتِّباع فقال أبو داود: سمعته يقول: الاتِّباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخير، وقال أيضا: “لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثَّوري ولا الأَوْزَاعي، وخذ من حيث أخذوا”.
وقال: “من قلة فقه الرجل أن يُقَلِّد دينه الرِّجال”.
وقال بشر بن الوليد: “قال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا”.
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطَّاب لقول إبراهيم النَّخَعيِّ أنه يُسْتَتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟، وقال جعفر الفِريَابِيُّ: حدَّثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقي حدّثني الهيثم بن جميل قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخَطَّاب بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم.
قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون، والله أعلم”([164]).
الخاتمة
الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناُ على عونه وتوفيقه، والصلاة والسلام على قدوة الأنام، ورسول الإسلام الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:
فهذا البحث الذي بين أيديكم والذي أردت فيه بيان طريق الحق لمن أراد التمسك به، وسلوك طريقه، والعمل بما جاء به، والتحذير من فتاوى بعض المفتين في زماننا ـ إلا من رحم الله منهم ـ الذين ضلوا وأضلوا وصرفوا الناس عن المصدرين الأساسيين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الرأي والهوى والتعصب للمذاهب، وأملي في الله تعالى أن يتعاون أهل الحق على منع من تسول له نفسه الإفتاء في دين الله بغير علم، وأن تكون هناك مرجعية للمسلمين لتكون مناراً لمن أراد التبصر بدينه والنأي به عن أهل البدع والأهواء، وعلى كل مسلم أن يتحرى من يفتيه، وأن يتعلم من دينه ما يعينه على معرفة الطريق الصحيح الذي يوصله إلى صراط الله المستقيم.
وهذا ما تم تقييده فما كان فيه من صواب فبتوفيق من الكريم المنان، وما كان فيه من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأسأل الله جل في علاه أن يجعله خالصاً لوجهه، مقبولاً عند خلقه، وأن ينفع به المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وأن يكون في موازين الحسنات يوم نلقى ربنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الفهرس
الموضوع |
المقدمة: |
المبحث الأول: أركان الفتوى، وفيه ثلاثة مطالب: |
المطلب الأول: الفتوى: |
تعريف الفتوى: |
الاستفتاء لغة: |
مكانة الفتوى وأثرها |
المطلب الثاني: المفتي: |
تعريف المفتي: |
شروط المفتي: |
إفتاء القاضي: |
صيغة الفتوى: |
المطلب الثالث: المستفتي: |
تعريف المستفتي: |
حكم الاستفتاء: |
بعض الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المستفتي مع من يستفتيه: |
حكم المستفتي إن لم يطمئن قلبه إلى الفتيا: |
المبحث الثاني: أنواع الفتوى، وفيه أربعة مطالب: |
المطلب الأول: الفتوى بالرأي: |
الرأي هو: |
ذم الصحابة القول بالرأي: |
أمثلة في رجوع بعض الصحابة عن آرائهم: |
المطلب الثاني: الفتوى بالتقليد: |
معنى الفتوى بالتقليد: |
أقسام الأحكام الشرعية: |
فيمن يسوغ له التقليد ومن لا يسوغ له: |
أنواع التقليد: |
ذم التقليد وأهله: |
الفرق بين الاتباع والتقليد: |
المطلب الثالث: الفتوى بالدليل والاجتهاد: |
المبحث الثالث: الإفتاء في دين الله بغير علم وضرره على الإسلام والمسلمين، وفيه مطلبان: |
المطلب الأول: خطورة القول على الله بغير علم: |
المطلب الثاني: أثر القول على الله بغير علم على المفتي والمستفتي: |
من أسباب القول على الله بغير علم من ناحية المفتي: |
المبحث الرابع: الحجر في الفتوى، وفيه أربعة مطالب: |
المطلب الأول: تعريف الحجر في الفتوى: |
تعريف الحجر: |
مشروعية الحجر: |
حكمة تشريع الحجر: |
المطلب الثاني: أصناف المحجور عليهم: |
أصناف المحجور عليهم: |
الأول: المفتي الجاهل بالنصوص الشرعية |
الثاني: المفتي الذي يقع في سوء التأويل للنصوص الشرعية: |
الثالث: المفتي الذي يقع في عدم فهم الواقع على حقيقته: |
الرابع: المفتي الذي يخضع للأهواء: |
الخامس: المفتي الذي يخضع للواقع المنحرف: |
السادس: المفتي الذي يبيح ما حرم الله بالحيل: |
المطلب الثالث: من يقوم بالحجر في الفتوى: |
المطلب الرابع: أثر الحجر في الفتوى: |
المبحث الخامس: تغيير الفتوى واختلافها، وفيه ثلاثة مطالب: |
المطلب الأول: سبيل العلماء المتقدمين في الفتوى واعتمادهم على الدليل: |
المطلب الثاني: سبيل العلماء المتأخرين واعتمادهم على الرأي والمذهب: |
المطلب الثالث: الفروق بين فتاوى المتقدمين والمتأخرين وأمثلة منها: |
الخاتمة |
الفهرس |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) سورة الأحزاب: الآيتان 70،71.
([3]) سورة الأحزاب: الآيتان70،71.
([4]) رواه البخاري ـ كتاب العلم ـ باب كيف يقبض العلم (98)، ومسلم ـ كتاب العلم ـ باب رفع العلم (4828).
([8]) لسان العرب، مادة: فتى (15/145).
([11]) سورة الصافات: الآية 11.
([12]) تفسير القرطبي (15/68)، وتفسير بن كثير (4/3) ط عيسى الحلبي.
([13]) شرح المنتهى(3/456) مطبعة أنصار السنة بالقاهرة، وصفة الفتوى والمستفتي لابن حمدان ص4.
([14]) مقاييس اللغة لابن فارس، مادة: فتى (4/474).
([15]) سورة النساء: الآية 178.
([16]) القاموس المحيط، مادة: فتى (4/365).
([17]) سورة النساء: الآية 176.
([19]) إعلام الموقعين لابن القيم (1/11).
([20]) رواه الدارمي (1/57) من حديث عبيد الله بن أبي جعفر مرسلاً، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (147).
([21]) رواه الدارمي (1/53)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/163).
([22]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/164).
([25]) مقدمة المجموع (1/73) تكملة المطيعي وتحقيقه.
([26]) سورة الأعراف: الآية 33.
([32]) سورة المؤمنون: الآية 53.
([34]) الموافقات للشاطبي (4/89ـ95).
([35]) شرح المنتهى (3/457)، وإعلام الموقعين (4/220)، وحاشية ابن عابدين (4/302)، وصفة الفتوى لابن حمدان ص13، والمجموع (1/75) تحقيق المطيعي.
([36]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4/302).
([38]) صفة الفتوى لابن حمدان ص29، والمجموع (1/41).
([40]) إعلام الموقعين (4/220)، وشرح المنتهى (3/457)، وابن عابدين (4/301).
([41]) الفقيه والمتفقه للخطيب (3/168).
([45]) حاشية ابن عابدين (1/47)، والمجموع (1/45).
([46]) المجموع للنووي (1/42)، وإعلام الموقعين (4/220)، وصفة الفتوى لابن حمدان ص29.
([47]) حاشية ابن عابدين والدر المختار (4/302).
([48]) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (4/139).
([49]) إعلام الموقعين (4/160، 259).
([50]) رواه مسلم ـ كتاب الجهاد والسير ـ باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث (3261).
([51]) صفة الفتوى لابن حمدان ص60.
([52]) المستصفى للغزالي (2/124) القاهرة، المكتبة التجارية 1356هـ.
([53]) المجموع للنووي (1/54) وانظر الموافقات للشاطبي (4/261).
([54]) الموافقات (4/291)، والمجموع للنووي (1/58).
([55]) رواه مسلم ـ المقدمة (1/33).
([58]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (3/259).
([59]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/458)وحاشية ابن عابدين (4/303)وإعلام الموقعين (4/254) والمجموع للنووي (1/56) والبحر المحيط للزركشي (6/318، 113)، والمستصفى للغزالي (2/125) والموافقات (4/130، 133، 262).
([60]) رواه أحمد، والترمذي، والبيهقي، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7145).
([61]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/457)، والمجموع للنووي (1/57).
([62]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/457).
([63]) رواه البخاري ـ كتاب المظالم والغصب ـ باب قول الله تعالى:[وهو ألد الخصام](2277).
([64]) رواه البخاري ـ كتاب الشهادت ـ باب من أقام البينة بعد الدليل (2483).
([65]) إعلام الموقعين (4/254).
([68]) رواه الترمذي (3/607)، وضعفه الألباني في جامع الترمذي (3/616) رقم (1327).
([69]) إعلام الموقعين (1/67 وما بعدها، و79، 85).
([71]) إعلام الموقعين (1/69ـ74).
([72]) رواه أبو داود، وصححه الألباني في سنن أبي داود (3/129) رقم (2927).
([73]) أخرجه الألباني في تمام المنة، ص40.
([74]) رواه البخاري ـ كتاب الغسل ـ باب غسل ما يصيب من فرج المرأة (284).
([75]) رواه الشافعي في اختلاف الحديث ص91.
([76]) رواه أبو داود، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/55) رقم (215).
([78]) سورة الصافات: الآية 24.
([80]) رواه مسلم ـ كتاب العلم ـ باب من سن سنة حسنة (4831).
([81]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/353).
([82]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/355).
([83]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/344).
([85]) سورة البقرة: الآية 170.
([86]) سورة الزخرف: الآيتان 23، 24.
([88]) سورة الشعراء: الآية 69ـ 74.
([91]) الفقيه والمتفقه ص307، 308.
([92]) رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجة (1/189) رقم (572).
([93]) سورة البقرة: الآية 170.
([94]) سورة الزخرف: الآيتان 23، 24.
([95]) سورة الإسراء: الآية 36.
([96]) سورة الأعراف: الآية 33.
([99]) إعلام الموقعين (2/292).
([100]) إعلام الموقعين (2/292).
([101]) الفقيه والمتفقه (2/330، 331).
([102]) رواه الدارمي ـ كتاب الفتيا ـ باب الفتيا وما فيه من الشدة (1/186) رقم (166).
([103]) سورة الأعراف: الآية 33.
([104]) سورة الأنعام: الآية 144.
([105]) سورة النحل: الآية 116.
([106]) سورة الزخرف: الآية 19.
([107]) سورة يونس: الآية 59، 60.
([108]) رواه البخاري ـ كتاب العلم ـ باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (104)، ومسلم ـ كتاب المقدمة ـ باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2673)
([109]) رواه البخاري ـ كتاب العلم ـ باب كيف يقبض العلم (100)، ومسلم ـ كتاب العلم ـ باب رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (2673)، واللفظ للبخاري.
([110]) رواه أبو داود، والحاكم في المستدرك، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 6068.
([111]) سورة الشورى: الآية 10.
([112]) سورة النساء: الآية 59.
([113]) سورة المائدة: الآية 42.
([115]) سورة النساء: الآية 135.
([118]) الفقهاء يحذفون الصلة تخفيفاً لكثرة الاستعمال ويقولون: محجور، وهو سائغ. المصباح المنير.
([120]) القاموس المحيط ولسان العرب والمصباح المنير (مادة: حجر)، وتبيين الحقائق (5/190).
([124]) رواه الدار قطني، وصوب عبد الحق الإشبيلي إرساله كما في التلخيص، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (ج5 رقم 1439).
([125]) حاشية ابن عابدين (5/93).
([127]) سورة المائدة: الآيات 44، 45، 47.
([129]) سورة الجاثية: الآيات 18ـ20.
([130]) سورة المائدة: الآية 49.
([131]) إعلام الموقعين (4/211).
([132]) رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه الألباني في إرواء الغليل (ج6 رقم1897).
([133]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (11/329).
([134]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/301).
([135]) سورة آل عمران: الآية 104.
([136]) سورة آل عمران: الآية 31.
([137]) إعلام الموقعين (3/151).
([138]) إعلام الموقعين (3/151).
([139]) إعلام الموقعين (3/153).
([140]) إعلام الموقعين (2/298).
([141]) إعلام الموقعين (2/299،300).
([142]) إعلام الموقعين (2/302).
([143]) ابن عابدين في ـ الحاشية ـ (1/63).
([144]) ابن عابدين في “حاشيته على البحر الرائق” (6/293).
([145]) الفلاني في الإيقاظ، ص50.
([146]) جامع بيان العلم وفضله (2/32).
([147]) صفة الصلاة للألباني، ص49.
([148]) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، ص31،32.
([149]) رواه الحاكم بسنده المتصل إلى الشافعي كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (15/1 /3)، وإعلام الموقعين (2/363، 364)، والإيقاظ ص100.
([151]) النووي في المجموع (1/63).
([152]) النووي في المجموع (1/63).
([153]) الخطيب في الاحتجاج بالشافعي (8/1).
([154]) أبو نعيم في الحلية (9/107).
([155]) رواه ابن عساكر بسند صحيح (15/10/1).
([156]) رواه ابن عساكر بسند صحيح (15/9/2).
([157]) رواه ابن أبي حاتم (93،94).
([158]) إعلام الموقعين (2/302).
([159]) رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد، ص 276، 277.
([160]) جامع العلم وفضله (2/149).
([161]) ابن الجوزي في المناقب، ص 182.