المرء مع من أحب – خطبة الجمعة 10-10-1445هـ
الحمدُ للهِ واسعِ الفضلِ والجُودِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ، أحمدهُ سبحانَهُ يُبدِئُ ويُعيدُ، ويُحيي ويميتُ، بيدهِ الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، مُقَلِّبُ القلوبِ، وكاشفُ الكروب، يَسْمَعُ الشُّكْرَ والشَّكْوَى ويَعْلَمُ السِّرَّ والنَّجْوَى وَهُوَ عَلَّامُ الغُيُوبِ وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ وأَطِيعُوهُ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ القلوبَ دُوَلٌ مُحْكَمَةٌ، وخزائنُ مقفلةٌ، جعلهَا اللهُ عزَّ وجلَّ أَوْعِيَةً للإيمانِ والكُفْرِ، والخيرِ والشَّرِّ، والحبِّ والبُغْضِ، قالَ تعالى:(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) الحجرات: [7] وقال سبحانه: (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) المنافقون: [3].
عبادَ اللهِ: والقلبُ هو مَحِلُّ نظرِ اللهِ منَ العبدِ، تَصْلُحُ الجوارحُ بصلاحِهِ، وتَصْدَعُ بأمرِهِ وتخضعُ لسلطانِهِ وقهرِهِ، قال ﷺ:(أَلَا وَإِنّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599).
أيُّهَا المؤمنُونَ: والمحبَّةُ عِبَادَةٌ قَلْبِيَّةٌ يَجِبُ على المسْلِمِ تَوجِيهُهَا وفْقَ مُرَادِ اللهِ عزَّ وجلَّ قالَ تعالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) البقرة: [156] وهذه المحبةُ قد تكونُ سببًا في نجاةِ العبدِ أو هلاكِهِ يومَ القيامةِ.
عبادَ اللهِ: جاءَ في الصَّحِيحَينِ من حديثِ أنس ِبنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه: (أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ ﷺ عَنِ السّاعَةِ، فَقالَ: مَتى السّاعَةُ؟ قالَ: (وماذا أعْدَدْتَ لَها؟) قالَ: لا شيءَ، إلّا أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله ﷺ، فَقالَ: (أنْتَ مع مَنْ أحْبَبْتَ) أخرجه البخاري (36878) ومسلم (2639).
أيُّهَا المؤمنونَ: وهذا الحديثُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ النَّبِيِّ ﷺ، وهو حديثٌ عظيمُ الْقَدْرِ، جَلِيلُ الأَثَرِ جَمُّ المعَانِي والْعِبَرِ، تَلَقَّاهُ الصَّحَابَةُ بِالْفَرَحِ والسُّرُورِ، والْبِشْرِ والْقَبُولِ؛ لمكانَةِ النَّبِيِّ ﷺ في قلوبِهِمْ، يقولُ أنسٌ رضي اللهُ عنه بعدَ أنْ سَاقَ الْحَدِيثَ: (فَما فَرِحْنا بشيءٍ فَرَحَنا بقَوْلِ النبيِّ ﷺ: (أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ) قالَ أنَسٌ: فأنا أُحِبُّ النبيَّ ﷺ وأَبا بَكْرٍ وعُمَرَ وأَرْجُو أنْ أكُونَ معهُمْ بحُبِّي إيّاهُمْ وإنْ لَمْ أعْمَلْ بمِثْلِ أعْمالِهِمْ) أخرجه البخاري (36878) ومسلم (2639).
عبادَ اللهِ: إنَّ محبَّةَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومحبَّةَ رسولِهِ ﷺ هُمَا الزَّادُ الحَقِيقِيُّ الَّذِي يَدَّخِرُهُ المؤْمِنُ لِيَوْمِ التَّلاقِ؛ لِيَظْفَرَ بِالسِّبَاقِ، وَيَبْلُغَ بِزَادِهِ الآَفَاقَ، ويذوقَ بِتِلْكَ المحَبَّةِ حَلاوةَ الإيمانِ في الدنيا، قالَ ﷺ: (ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا..) أخرجه البخاري (16) ومسلم (43)
أيُّهَا المؤمنُونَ: ومَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ كَمَالِ الإِيمَانِ، قالَ ﷺ: (لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنّاسِ أجْمَعِين) أخرجه البخاري (15) وهِيَ حقٌّ مِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قالَ عمرُ رضيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: لا والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ حتّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: الآنَ يا عُمَرُ.
عِبَادَ اللهِ: ومَحبَّةُ النبيِّ ﷺ تابعةٌ لمحبَّةِ الله عز وجل، وأَصْلُ المحبَّةِ المُوافَقةُ في جميعِ الأحوالِ فإذا كانَ العبدُ صَادِقًا في محبَّتِهِ للنَّبِيِّ ﷺ فلا بدَّ أنْ يَحمِلَه حبُّه على مُتابَعةِ النبيِّ ﷺ والعَملِ بسُنَّتِه، ولزومِ هَدْيِهِ، واقْتِفَاءِ أَثَرِهِ.
عبَادَ اللهِ: ومنَ المحَبَّةِ الَّتِي يَجِبُ أنْ يَنْطَوِيَ عَلَيْهَا قَلْبُ المسلمِ مَحَبَّةُ المؤْمِنِينَ، وهيَ عُرْوَةٌ مِن عُرَى الإيمانِ، ففي الحديثِ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) أخرجه البخاري (6169) ومسلم (2640).
أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) آل عمران: [31].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ ربِّ الْعَالمِينَ، هَدَانَا بِفَضْلِهِ إلى دِينِهِ الْقَوِيمِ، فَبَيَّنَ لنَا السُّبُلَ، وشَرَّفَنَا بِخَيْرِ الرُّسُلِ، ورَفَعَنَا بِالقُرْآنِ إلى أَعْلَى المُثُل، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واقْدُرُوا هذِهِ الوصيَّةَ النَّبَوِيَّةَ حقَّ قَدْرِهَا، المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يوْمَ القيامَةِ؛ لأنَّ المحَبَّةَ تَقْتَضِي الاجتماعَ، فلا يُحِبُّ الرَّجُلُ أَحَدًا إلا وتَمَنَّى صُحْبَتَهُ، واللَّوْذَ بِقُرْبِهِ، فيكونُ جزاؤُهُ يومَ القِيَامَةِ أنْ يُحْشَرَ مَعَهُ، ويَبُوءَ بِمَقْعَدِهِ، جَزَاءً وِفَاقًَا، وإنَّمَا كانَ للمحبَّةِ القَلْبِيَّةِ ذاكَ الأَثَرُ؛ لأنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا أَلِفَهُمْ، وتَبِعَهُمْ، وتَخَلَّقَ بِأَخْلاقِهِمْ، فكانَ لذَلِكَ أثَرٌ عليهِ في الدُّنْيَا والآَخِرَةِ، إنْ خَيرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌ.
أيُّهَا المؤمِنُونَ: اعلموا أنَّه ينبغي للمسلمِ أن يتَعَاهَدَ قَلْبَهُ، ويتَفَقُّدَهُ بينَ الفينةِ والأخرى فما سُمّيَ القلبُ قلبًا إلا لِتَقَلُّبِهِ، قالَ ﷺ: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) أخرجه مسلم (2654) وليحْرِصَ المسلمُ أنْ يُقْبِلَ على رَبِّهِ بِقَلْبٍ مُحِبٍّ للهِ وَرَسُولِهِ وعبادِهِ المؤمنِينَ، مُبْغِضٍ للكفْرِ وأهلِهِ، والشِّرْكِ وَحِزْبِهِ، قالَ تعالَى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الشعراء: [88-89].
اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ، وارْزُقْنَا لَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجْهِكَ في غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ لكلِّ خيْرٍ واجْعَلْهُمْ رَحْمَةً وَسِلْمًا عَلَى عِبَادِكَ، وحَرْبًا وَبَأْسًا عَلَى أَعْدَائِك اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ سَلْمَان بن عبد العزيز لما تُحِبُّ وتَرْضَى وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ والتَّقْوَى اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما فيهِ خيرُ البلادِ والعبادِ ولما فيهِ عزُّ الإسلامِ والمسلمينَ وارْزُقْهُم البِطَانَةَ الصالِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمَظْلُومِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ اجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، واجْعَلْ لَهُمْ مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، وَاجْعَلْ لَهُمْ مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 10 / 10 / 1445هـ