134 – شرح منظومة أبي إسحاق الألبيري
134 – شرح منظومة أبي إسحاق الألبيري pdf
شرح منظومة
أبي إسحاق الألبيري
لأبي إسحاق إبراهيم بن مسعود التجيبي
الغرناطي الألبيري (460-1068م)
شرح وتعليق
أ. د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
عضو الإفتاء في القصيم
والأستاذ بكلية التربية بالزلفي جامعة المجمعة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فهذه أبيات عظيمة النفع، حوت خيراً كثيراً، مِن الحكم والمواعظ والأخلاق الرفيعة، التي لا غنى لطالب العلم عنها، وما ينبغي أن يكون عليه.
وقد قمت بشرح هذه المنظومة وغيرها من المتون ضمن دورة حفظ مجموعة المتون التي كان قد أشرف عليها مكتب الدعوة والإرشاد بمحافظة الزلفي في عام (1433هـ).
وإتماماً للفائدة قمت بطباعة ما قمت بشرحه في دورة حفظ المتون بعد مراجعة الشرح وإضافة ما يلزم إضافته، وحذف ما يلزم حذفه.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه المنظومة وشرحها، وأن يجزي الناظم خير الجزاء إنه سميع قريب.
كتب أبو محمد
عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
20/ 12/ 1433هـ
نبذة عن المؤلف
هو إبراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي الألبيري، شاعر أندلسي، منسوب إلى البيرة يرجع نسبه إلى التُّجيبي وهي قبيلة من قبائل اليمن، يُكنى بأبي إسحاق، فقيه ومُقرئ وعالم في زمانه، أخذ القراءات وعُرف بها.
من مشاهير شُيوخه إمام السُّنة في زمانه الإمام ابن أبي زمنين أخذ العلم عنه، وله رواية وإجازة عنه كما ذكر المترجمون، وكان – رحمه الله – فقيهاً معظماً في وقته، وعليه تفقه عبد الواحد بن عيسى بن الهمداني فقيه غرناطة. وروى عنه كتب ابن أبي زمنين -.
من مآثره أنه أنكر على ملك غرناطة حينما جعل له وزيراً يهودياً فنفاه إلى البيرة، وقال في ذلك شعراً؛ فثارت صنهاجة على اليهودي وقتلوه.
ويتسم شعره كله في الحكم والمواعظ، وتداول العلماء ديوانه، وكان بعض أهل العلم لا يُقرئ طلاب العلم حتى يحفظ المنظومة التائية -التي نحن بصدد شرحها -.
توفي أبو إسحاق في عام 460 هـ، الموافق عام 1068م.
عرض موجز للمنظومة
هذه قصيدة قالها الفقيهُ الزَّاهدُ أبو إسحاق إبراهيمُ بنُ مَسعُود الإلبيريّ، رحمه الله، يخاطب الشاعر فيها ويعاتب ويحاور مَنْ دعاه (أبا بكر).
وكان هذا الرجل قد ذكر بعض معايب الشاعر، وبلغه ما قال.
وقد جعل الشاعر هذا المُنطلق فرصة لبسط آرائه في العلم والتقوى والتوبة ونبذ الدنيا، وإشارةً إلى مقالة أبي بكر فيه، وتجاوزاً لها في الوقت نفسه.
واختلط الحديث بين توجيه أبي بكر هذا، والحديث عن النفس، من منطلق لوم الذات (من التحرّج المستمر)، وتضخيم الهفوات، وإعلان الخضوع المطلق لله تعالى.
بدأ الناظم القصيدة بالكلام على غفلة الإنسان عما يحصل في الحياة لبني آدم وهذا في الأبيات (1ـ 5) ، ودعا أبا بكر ـ والخطاب عام ـ إلى العلم النافع كما في الأبيات (6 ـ 10)، وبين منزلة العلم وحلاوته في الأبيات (11ـ19)، وبين أن الإنسان مسئول عن علمه والعمل به، وعن جهله لو جهل في الأبيات (20 ـ 27)، وسفّه من يفضل المال ـ وما يلحق به ـ على العِلم كما في الأبيات (28 ـ 44)، وهوّن شأن الدنيا في الأبيات (45 ـ 54)؛ فهي عَرَض فانٍ ودعا إلى الجد ـ دون الهزل ـ وإلى التوبة والخضوع لله تعالى في الأبيات (55 ـ 60)، وتعجيل التوبة كما في (الأبيات 61 ـ 65) ، وجعل نفسه مثالاً يتحدث عنه كما في الأبيات (66 ـ 69)، وعاد إلى خطاب أبي بكر، وحذّر من الإخلاد إلى الدنيا، ومن نسيان الآخرة كما في الأبيات (70 ـ 81) ، وإلى تذكر يوم الحساب كما في الأبيات (82 ـ 86) .
وخرج إلى اعتراف عام بالذنوب، وسرد لمعايب الإنسان المقصّر كما في الأبيات (97 ـ 99)، وإلى نصائح عامة أخلاقية، في الحذر من رفاق السّوء، وأهل الجهل، ودعا إلى إباء الضيم، وإلى الضرب في الأرض الواسعة سعياً وراء ذلك، بقية الأبيات.
شرح أبيات المنظومة
(1) تَفُتُّ فُؤَادَكَ الأَيَّامُ فَتَّا *** وَتَنْحِتُ جِسْمَكَ السَّاعَاتُ نَحْتَا
(2) وَتَدْعُوكَ المْنَونُ دُعَاءَ صِدْقٍ *** أَلاَ يَا صَاحٍ: أَنْتَ أُرِيدُ أَنْتَا
يخاطب الشاعر الزاهد شخصاً اسمه أبو بكر ـ والخطاب عام ـ بهذه الأبيات الجميلة فيقول:
قوله (تَفُتُّ فُؤَادَكَ الأَيَّامُ فَتَّا *** وَتَنْحِتُ جِسْمَكَ السَّاعَاتُ نَحْتَا)
يعني: تمضي بك السنوات وتؤثر في فؤادك وفي جسمك، ويناديك الموت وهو يريدك وأنت في لهو عما يراد بك، كما قال تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ}[الأنبياء: 1]؛ فأنت مشغول بتتبع شهواتك، وتنام الدهر والليالي ولا تنتبه لنفسك حتى تموت.
وقوله:(تَفُتُّ فؤادك) ولم يقل تكسر لوجود الفرق بينهما حيث أن الفت إنما يكون للشيء اللين، أما الكسر فلا يكون إلا للشيء اليابس. ولما كان القلب لحماً ليناً ناسب له الفتُّ بخلاف العظم.
وقد أراد الناظم بهذا البيت أن يوقظ الإنسان من غفلته فإن الأيام والليالي تمران عليه، وكلما مرَّ به يوم نقص أجله، كما ينقص الجبل بالنحت منه والقلم بالبري، فالواجب عليه أن يتدارك عمره قبل فوات الأوان ويندم على تفريطه فيه.
وقوله (وَتَدْعُوكَ المْنَونُ دُعَاءَ صِدْقٍ *** أَلاَ يَا صَاحٍ: أَنْتَ أُرِيدُ أَنْتَا)
المنون: يعني الموت. والمعنى: أن الموت يدعوك في كل لحظة تمر بك ولا تدري متى ستنقاد له.
وهذا الدعاء (دعاء صدق) أي حق، وذلك حينما ينادي عليك ملك الموت قائلاً: (ألا يا صاح أنت أريد أنتا)، فلا أريد غيرك.
والناظم بهذا يريد منا أن ننتبه فلا نضيع أعمارنا فيما لا نفع فيه، بل علينا أن نغتنم أوقاتنا فيما يرضي ربنا سبحانه وتعالى.
(3) أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْساً ذَاتَ خِدْرٍ *** أَبَتَّ طَلاَقَهَا الأَكْيَاسُ بَتَّا
قوله (أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْساً ذَاتَ خِدْرٍ *** أَبَتَّ طَلاَقَهَا الأَكْيَاسُ بَتَّا)
العُرس: هي العروس. والمراد بها في قول الناظم الدنيا، فكم تزوجها من البشر، وكم قتلت منهم.
قال الشاعر:
هي الدنيا تقول بِمِلْءِ فيها *** حَذَارِ حَذَارِ من بَطْشي وَفَتْكي
فــلا يَغْرُرْكُمُ مني ابتســامٌ *** فَفِعْلِي مُضْحِـكٌ والقـولُ مُبْكِي
وقوله (ذات خدر): أي متغطية عنك، وهذا والله عين العقل فلا يدري البشر ما يكون في غدٍ، بل لا يدرون ما يكون لهم قبل لحظات من عمرهم.
وقوله (أبتّ طلاقها الأكياس بتًّا): أي طلّقها الأكياس العقلاء طلاق البتَّة، أي طلاقاً لا رجعة فيه.
والمعنى: أن العقلاء الأكياس قد أبتُّوا طلاق الدنيا بتًّا فلم يبقى للدنيا في قلوبهم وأعمالهم شيئاً.
قال بعضهم:
إن لله عبادا فطنــا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا *** صالح العمال منها سفنا
فاحذر أن تكون من الصنف الغائر في بحر الأماني، الذين اغتروا بعجوز شمطاء ليس لهم منها إلا العناء والكد، قال الله-سبحانه وتعالى- عنهم:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر:3].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ» {بِمُزَحْزِحِهِ} [البقرة: 96] ([1]).
(4) تَنامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ فِي غَطِيطٍ *** بِهَا حَتَّى إِذَا مِتَّ انْتَبَهْتَا
(5) فَكَم ذا أَنتَ مَخدوعٌ وَحَتّى *** مَتى لا تَرعَوي عَنها وَحَتّى
قوله: (تَنامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ فِي غَطِيطٍ *** بِهَا حَتَّى إِذَا مِتَّ انْتَبَهْتَا)
ما زال الناظم يحثنا على استغلال أوقاتنا والاستفادة منها ويحذرنا من الغفلة التي دبت إلى قلوبنا فيقول (تَنامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ فِي غَطِيطٍ)، أي تنام عمرك وأنت في غطيط (وهو صوت النائم).
وقوله:(ويحك) هي كلمة عتاب؛ فكأنه رحمه الله يعاتبك على تفريطك في حق نفسك، وذلك بغفلتك عن رأس مالك، وهو عمرك الذي منحك الله إياه. والغفلة قد تكون حسية ككثرة النوم والخمول والكسل، أو غفلة معنوية كالغفلة عن أمر الله وشرعه.
وقوله: (حتى إذا مت انتبهتا)، أي إذا جاءك الموت انتبهت من غفلتك لكن لا ينفعك الانتباه بعد الموت.
وصدق من قال: “الناس في غفلة فإذا ماتوا انتبهوا”.
يقول ابن الجوزي في صيد الفوائد: “من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباها لا يوصف، ويقلق قلقاً لا يحد، ويتلهف على زمانه الماضي. ويود لو تُركَ كي يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف. ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى.
فالعاقل من مثل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك. فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته. فإنه يكف كف الهوى، ويبعث على الجد. فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه، كان كالأسير لها”.
قوله:(فَكَم ذا أَنتَ مَخدوعٌ وَحَتّى *** مَتى لا تَرعَوي عَنها وَحَتّى)
أي كم أنت مخدوع بهذه الدنيا الفانية التي غرتك بشهواتها وملذاتها، لكن إلى متى وأنت مخدوع بها، أما آن لك أن ترعوي فتترك ما أنت عليه من الغفلة وترجع عن غيك واتباع شهواتك وتقبل على ربك بطاعته.
(6) أَبا بَكرٍ دَعَوتُكَ لَو أَجَبتا *** إِلى ما فيهِ حَظُّكَ إِن عَقَلتا
(7) إِلى عِلمٍ تَكونُ بِهِ إِماماً *** مُطاعاً إِن نَهَيتَ وَإِن أَمَرتا
قوله:(أَبا بَكرٍ دَعَوتُكَ لَو أَجَبتا *** إِلى ما فيهِ حَظُّكَ إِن عَقَلتا)
أبو بكر: كنية المخاطب المباشر في القصيدة، وقد نبّه إليه مرة أخرى في القصيدة (انظر البيت 87 وما قبله وما بعده)، وجعل الحديث إليه وسيلة لبسط آرائه ومواقفه، ولم نهتد إلى المخاطب بهذه الكنية في القصيدة. لم أهتد إليه يقيناً؛ ولعله أبو بكر بن الحاج المخاطب بالقصيدة (31) من ديوان الشاعر. ويدل البيت (89) هنا على أنّ أبا بكر قد هجاه.
قوله: (إِلى عِلمٍ تَكونُ بِهِ إِماماً *** مُطاعاً إِن نَهَيتَ وَإِن أَمَرتا)
شرع الناظم في بيان ما يحصل به شرف الدنيا والآخرة وهو طلب العلم فيذكر أن في نصيحته لأبي بكر أن أفضل ما أدعوك إليه وأنصحك به هو طلب العلم؛ فبه تحصل لك فضائل عدة منها:
أولاً: أنك تكون إماماً في قومك: كما في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}{السجدة: 24}، مطاعاً في أمرك ونهيك، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}{النساء :59}، فأهل العلم أئمة من غير ملك، مطاعون من غير سلطان، فقومك يرجعون إليك عند حصول ما يحتاجون إليه في أمور دينهم، وكذلك متى قلت لهم هذا حلال وهذا حرام سمعوا لك وانقادوا لأمرك ونهيك لأنك تخبرهم بما جاء من نصوص الكتاب والسنة؛ فأي شرف أعظم من هذا الشرف؟.
(8) وَيَجْلُو مَا بِعَيْنِكَ مِنْ غِشَاهَا *** وَيَهْدِيكَ الطَّرِيقَ إِذَا ضَلَلْتَا
(9) وَتَحمِلُ مِنهُ في ناديكَ تاجاً *** وَيَكْسُوكَ الْجَمَالَ إِذَا عَرِيتَا
قوله:(وَيَجْلُو مَا بِعَيْنِكَ مِنْ غِشَاهَا *** وَيَهْدِيكَ الطَّرِيقَ إِذَا ضَلَلْتَا)
هذا هو الأمر الثاني مما يكون به شرف طلب العلم وهو أنه يزيل غشاوة الجهل عن العين فبه يبصر المرء ما أراده الله منه، وبفقده يكون الإنسان كالأعمى الذي لا قائد له فهو يتخبط في الطريق ولا يدري أين يذهب به.
الأمر الثالث مما يكسبه طالب العلم أن العلم نور يهتدي به صاحبه إلى الطريق السوي، ويخرج به من الظلمات إلى النور.
فالفقه في الدين أساس الخير والعمل الصالح؛ فبه يعرف العبد كيف يعبد ربه، به يعرف كيف يتوضأ وكيف يغتسل، به يعرف كيف يصلي، وكيف يصوم، وكيف يزكي، وكيف يحج، وكيف يعتمر، به يميز بين الواجبات وبين السنن، به يعرف كيف يسير إلى ربه في نور العلم إذا انعقدت غيوم الجهل والفتن، به يعرف كيف يعامل، كيف ينكح، وكيف ينفق، وكيف يُكفّر عن آثامه، به يكون العبد سراجاً في أمته يهديهم الصراط المستقيم ويبين لهم النهج القويم بالعلم يستنير في حياته وبعد وفاته؛ فهو نور القلب ونور القبر ونور الحشر ونور الصراط، العالم حيّ بعد مماته والجاهل ميِّت في حياته: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}[الزمر: 9].
قال بعضهم:
العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه *** كما يجلي سواد الظلمة القمر
فلولا العلم ما سعدت نفـوس *** ولا عُرِف الحلال ولا الحرام
قوله:(وَتَحمِلُ مِنهُ في ناديكَ تاجاً *** وَيَكْسُوكَ الْجَمَالَ إِذَا عَرِيتَا)
لا يزال الناظم يتحفنا بفضائل العلم؛ فذكر هنا أمر آخر من فضائله وهو أن صاحبه يتميز به عن الناس ومن ذلك أنه إذا دخل صاحبه النادي وهو موضع يجتمع الناس فيه عرفه القاصي والداني وذلك لما منحه الله إياه من السكينة والهيبة. والتاج هو لباس الرأس الذي يلبسه الملوك وهو شيء حسي، أما التاج الحقيقي فهو ما يكساه طالب العلم بعلمه حيث يكسى تاج العلم وهو أعظم التيجان.
وقوله: (وَيَكْسُوكَ الْجَمَالَ إِذَا عَرِيتَا) أي إن كنت فقيراً ليس عندك شيء تتجمل به أو شيء تلبسه، فإن ما عندك من العلم المقرون بالتقوى أعظم وأشرف من أطيب الثياب وأفخمها، قال تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}(سورة الأعراف : 29).
(10) يَنالُكَ نَفعُهُ ما دُمتَ حَيّاً *** وَيَبقى ذُخرُهُ لَكَ إِن ذَهَبتا
(11) هُوَ الْعَضْبُ المُهَنَّدُ لَيْسَ يَنْبُو *** تُصِيبُ بِهِ مَقَاتِلَ مَنْ ضَرَبتا
قوله:(يَنالُكَ نَفعُهُ ما دُمتَ حَيّاً *** وَيَبقى ذُخرُهُ لَكَ إِن ذَهَبتا)
هذا أيضاً من فضائل العلم وهو أن صاحبه ينال الأجر والمثوبة في حياته وبعد مماته، ففي حياته ينال الأجر المترتب على فضل طلب العلم كما جاءت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وبعد مماته كذلك لا ينقطع عنه الأجر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)، فأثر العلم يبقى لصاحبه بعد موته.
قوله:(هُوَ الْعَضْبُ المُهَنَّدُ لَيْسَ يَنْبُو *** تُصِيبُ بِهِ مَقَاتِلَ مَنْ ضَرَبتا)
العضب: السيف، والمهند: السيف المصنوع من حديد الهند.
وقوله (لَيْسَ يَنْبُو) أي لا يخطئ، والمعنى: أن من شرف العلم الذي أنت تحمله أنه معك كالسيف؛ فالعلم قاهر الأقوياء تستطيع أن تقطع به رقاب المخالفين المعاندين لأمر الله ورسوله الجاهلين بحكمه فإذا كان السيف المهند يفوق سائر السيوف فكذلك العلم إذ به تستطيع أن تنتصر على سائر المخالفين المعاندين للشريعة عن جهل أو هوىً متبع.
(12) وَكَنزاً لا تَخافُ عَلَيهِ لِصّاً *** خَفيفَ الحَملِ يوجَدُ حَيثُ كُنتا
(13) يَزيدُ بِكَثرَةِ الإِنفاقِ مِنهُ *** وَينقُصُ أَن بِهِ كَفّاً شَدَدتا
قوله:(وَكَنزاً لا تَخافُ عَلَيهِ لِصّاً *** خَفيفَ الحَملِ يوجَدُ حَيثُ كُنتا)
أي: ومن شرف العلم أن صاحبه يحمل كنزاً ليس كسائر الكنوز؛ فصاحب كنز العلم لا يخاف عليه من اللصوص لأنه في الصدور بخلاف الكنوز الحسية من الذهب والفضة والعقارات ونحو ذلك.
فأصحاب هذه الكنوز يحصل لهم شيء من الخوف الحسي والمعنوي، فالخوف الحسي يكون باجتماع اللصوص والأعداء عليهم أما الخوف المعنوي فيكون بفتنة الدنيا فهذه الكنوز تؤثر على قلوبهم وأخلاقهم.
وقوله:(خَفيفَ الحَملِ يوجَدُ حَيثُ كُنتا) أي العلم خفيف الحمل لأنه يكون في الصدر فلا يحتاج إلى قوة حسية تحمله، ومع ذلك هو مصاحب لحامله لا يتركه بأي حال من الأحوال قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله “أنا جنتي وبستاني في صدري” ([2]).
فكانت جنته في صدره لا تفارقه، لأن في صدره إيمانه ويقينه، وأنوار علمه وبصيرته، وثقته بربه، ومهما فعل الأعداء فلن يستطيعوا انتزاع شيء من هذه الأمور منه.
قوله: (يَزيدُ بِكَثرَةِ الإِنفاقِ مِنهُ *** وَينقُصُ أَن بِهِ كَفّاً شَدَدتا)
ذكر الناظم أن من أسباب زيادة العلم: إنفاقه للناس وعدم كتمه، وهذا أمر مشاهد محسوس.
قال علي رضي الله عنه: “العلمُ خيرٌ من المالِ؛ العلمُ يَحرسُك وأنت تَحرُسُ المالَ، والعِلمُ يزكو على الإنفاقِ، والمالُ تَنقُصُه النفقةُ، ومَنفعَةُ المالِ تزولُ بزوالِه”([3]).
في إبلاغه لغيره، وبذلك سيظفر بجملة من المنافع والفوائد:
أولها: أجر تعليم الجاهل وإبلاغ العلم.
وثانيها: الحفاظ على علمه من النسيان والذهاب.
وثالثها: الحصول على مثل أجور من يعمل بذلك العلم ممن بلغهم.
فكيف يليق بالمؤمن أن يرغب عن كل هذه الفضائل ويستجيب لداعي الكسل والتفريط؟!!
وقد قال بعضهم:
إذا هُجر العلم يومًا هجر *** وزال فلم يبق منه أثر
كماءٍ ترقرق فوق الصفا *** إذا انقطع الماء جف الحجر
(14) فَلَو قَد ذُقتَ مِن حَلواهُ طَعماً *** لَآثَرتَ التَعَلُّمَ وَاِجتَهَدتا
قوله:(فَلَو قَد ذُقتَ مِن حَلواهُ طَعماً *** لَآثَرتَ التَعَلُّمَ وَاِجتَهَدتا)
أي من فضائل العلم أن حلاوته تفوق كل حلاوة، يجد ذلك من ينشغل به عن غيره فتراه يشتهيه أعظم من شهوة الطعام والشراب، حتى إن بعضهم ربما ترك الطعام والشراب أكثر من يوم لما يجد من لذة العلم وحلاوته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وَحُصُولُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ كَحُصُولِ الطَّعَامِ فِي الْجِسْمِ فَالْجِسْمُ يُحِسُّ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ تُحِسُّ بِمَا يَتَنَزَّلُ إلَيْهَا مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا..” ([4]).
وذكر ابن حزم رحمه الله أنواع اللذات. فقال: “لَذَّة الْعَاقِل بتمييزه وَلَذَّة الْعَالم بِعِلْمِهِ وَلَذَّة الْحَكِيم بِحِكْمَتِهِ وَلَذَّة الْمُجْتَهد لله عز وَجل بِاجْتِهَادِهِ أعظم من لَذَّة الْآكِل بِأَكْلِهِ والشارب بشربه والواطئ بِوَطْئِهِ…” ([5]).
فالعلم له طعم ولذة من حرمه فهو المحروم. ومن فقده فهو الميت. ومن ذاق حلاوة العلم آثرها على غيرها من جميع المحبوبات.
بل من ذاق طعم العلم، وأحس بإشراقة نوره، وتنعم بنعيم سعادته، أقبل عليه كخيل عادية، لا يلوي على شيء سواه، يشعر بعطش شديد لا يروي ظمأه إلا المزيد من معارفه وأسراره.
(15) وَلَم يَشغَلَكَ عَنهُ هَوى مُطاعٌ *** وَلا دُنيا بِزُخرُفِها فُتِنتا
قوله: (وَلَم يَشغَلَكَ عَنهُ هَوى مُطاعٌ *** وَلا دُنيا بِزُخرُفِها فُتِنتا)
أي متى ذقت حلاوة العلم فإنه لا يشغلك عنه الهوى المطاع وزخرفة الدنيا وقد ذكر الناظم في هذا البيت والذي بعده بعض معوقات طلب العلم:
أولها: الهوى المطاع. أي الهوى المتبع: وهو ما تميل إليه النفس وتحبه، فهو من أعظم المعوقات في طلب العلم.
ولذا جاءت نصوص الكتاب في التحذير منه في مواضع شتى، قال الله تعالى لداود عليه السلام: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
وقال لخاتم رسله:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28].
وقال أيضاً:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص: 50].
وذمَّ قوماً فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد: 16].
وبيَّن القرآن أن اتباع الهوى يعمي ويصم، ويضل المرء على علم، ويطمس على بصيرته، فلا يرى ولا يسمع ولا يعي:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[الجاثية :23].
المعوق الثاني: الانشغال بالدنيا وزخرفها والوقوع في فتنتها عن العلم:
فمن آفات العلم التهافت على الدنيا والانشغال بها عن الآخرة.
يقول أحد السلف: “لو كلفني أهلي شراء بصلة ما عرفت مسألة من العلم”. فكيف بمن همه الدنيا، بها يصبح وعليها يمسي.
فعلى طالب العلم أن يحذر الانشغال بالدنيا وليأخذ منها من الكفاف ما تيسر ولا يجعلها كل همه بل ينظر إلى ما عند الله من الثواب.
وقد قال الله تعالى عن العلماء:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}[اقصص: 80].
(16) وَلا أَلهاكَ عَنهُ أَنيـقُ رَوضٍ *** وَلا خِدرٌ بِرَبرَبِهِ كَلِفتـا
(17) فَقوتُ الروحِ أَرواحُ المَعاني***وَلَيسَ بِأَن طَعِمتَ وَأِن شَرِبتا
قوله:(وَلا أَلهاكَ عَنهُ أَنيقُ رَوضٍ *** وَلا خِدرٌ بِرَبرَبِهِ كَلِفتا)
أي: لو ذقت طعم وحلاوة العلم لأشغلك ذلك عن أنيق روض، وهو المناظر الجميلة التي يتسابق الناس لرؤيتها.
وكذلك المرأة الحسناء الجميلة فإنها كذلك لم تشغلك بفتنتها لأنك مشغول بما فيه لذتك وحياتك وهو طلب العلم.
فقد تكون فتنَةُ الزوجة حاجزاً عن طلب العلم وتحصيله، سيما إذا ابتُلي الإنسانُ بزوجة لا تراعي للعلم قدراً، فَيكون في زواجه منها ضياع لمُستقبله العلمي، ومن هنا استحبَّ بعض أهل العلم للطالب تأخير الزواج إذا كان لا يؤثر عليه.
قال الحافظ أبُو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: “المُستَحَبُّ لِطَالِبِ الحَدِيثِ أن يَكُونَ عَزبَاً مَا أَمكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِئَلا يَقطَعَهُ الاشْتِغَالُ بِحُقُوقِ الزَّوْجَةِ وَالاهتِمَامُ بِالمَعِيشَةِ عَنِ الطَّلَبِ”([6]).
قوله:(فَقوتُ الروحِ أَرواحُ المَعاني *** وَلَيسَ بِأَن طَعِمتَ وَأِن شَرِبتا)
أي غذاء روح البدن لا يكون بالطعام ولا بالشراب إنما يكون بأرواح المعاني وهي ما يستفاد من معاني الكتاب والسنة، قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام :122]، فهذا هو غذاء الروح.
أما غذاء البدن فهو الطعام والشراب، والإنسان غالباً ما يهتم بغذاء البدن أكثر، فتجده يحرص على تناول الوجبات وتنوع الأكلات وحضور الحفلات والولائم وفي المقابل تجده يهمل غذاء الروح الذي هو أهم من غذاء البدن.
(18) فَواظِبهُ وَخُذ بِالجِدِّ فيـهِ *** فَإِن أَعطاكَهُ اللَهُ أَخَذتـا
(19) وَإِن أوتيتَ فيهِ طَويلَ باعٍ *** وَقالَ الناسُ إِنَّكَ قَد سَبَقتا
(20) فَلا تَأمَن سُؤالَ اللَهِ عَنهُ *** بِتَوبيخٍ عَلِمتَ فَهَل عَمِلتــا
قوله: (فَواظِبهُ وَخُذ بِالجِدِّ فيهِ *** فَإِن أَعطاكَهُ اللَهُ أَخَذتا)
أي: إذا كانت هذه فضائل وشرف العلم فالذي ينبغي عليك أن تجتهد في تحصيله وذلك بالمواظبة عليه والجد والاجتهاد في تحصيله وشغل الأوقات في ذلك، والبعد عن الكسل والخمول، وكل ما يثبط عن تحصيل العلم. قال الشاعر:
تركت النوم ربى في الليالي *** لأجل رضاك يا مولى الموالي
ومن رام العلى من غير كدٍ *** أضاع العمر في طلب المحـال
فوفقني إلى تحصيل علم *** وبلغني إلى أقصى المعـالي
فلا بد لطالب العلم من الهمة العالية في العمل، فإن المرء يطير بهمته كالطير يطير بجناحيه.
وقوله: (فَإِن أَعطاكَهُ اللَهُ أَخَذتا)، أي: متى منحك الله شرف هذا العلم وشرف تحصيله فأكثر منه فإنه لا حياة للروح إلا به والزيادة منه، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}[طه: 114].
قوله:(وَإِن أوتيتَ فيهِ طَويلَ باعٍ *** وَقالَ الناسُ إِنَّكَ قَد سَبَقتا
(فَلا تَأمَن سُؤالَ اللَهِ عَنهُ *** بِتَوبيخٍ عَلِمتَ فَهَل عَمِلتا)
بعد أن بين الناظم فضل العلم وشرف أهله وطرق تحصيله ذكر هنا الآثار المترتبة عليه، فذكر أنه متى أثنى الناس على ما وهبك الله من العلم فقالوا عنك بأنك من الراسخين فيه وأنك قد أًوتيت من العلم الكثير فلا تفرح بذلك بل الواجب عليك أن تسأل الله العون على العمل بهذا العلم، فثمرة العلم العمل به. وإلا سيكون العلم حجّةً على صاحبه يوم القيامة. فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ)([7]).
جاء في نسخة قوله (أعطيت) بدل (أوتيتَ).
(21) فَرَأسُ العِلمِ تَقوى اللَهِ حَقّاً *** وَلَيسَ بِأَن يُقال لَقَد رَأَستا
قوله:(فَرَأسُ العِلمِ تَقوى اللَهِ حَقّاً *** وَلَيسَ بِأَن يُقال لَقَد رَأَستا)
أي: تقوى الله عز وجل حقاً هو رأس العلم؛ فلابد لطالب العلم من تحقيقها فهي أول ثمرات العلم، قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282].
وذلك أن من اتقى الله سبحانه وتعالى حق تقاته فلا بد أن يطهر قلبه من الفساد، ويعمره بالطاعة والعبادة، ويملئه بمحبة ربه وتعظيمه، ويتفرغ للعبادة، ويتنزه عن محبة الدنيا وشهواتها، وعن حب المعاصي وأهلها. فهناك يتقبل ما يسمعه وما يقرؤه من العلوم النافعة والفوائد العظيمة بحيث لا يزاحمها في قلبه ما يشغله عن تفهمها وتعقلها.
وقوله (وَلَيسَ بِأَن يُقال لَقَد رَأَستا): أي إنما يكون طلبك للعلم لا ليقال فلانٌ عالمٌ أو صار رأساً في العلم وإنما يكون طلبك للعلم لوجه الله عز وجل والدار الآخرة، فإن الله تعالى قال:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(الكهف:110)، وفي الحديث: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)([8]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث أول من تسعر بهم النار قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِي النَّارِ)([9]).
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، يَعْنِى رِيحَهَا([10]).
فالعلم عبادة من العبادات، وقربة من القرب، فإنْ خلصت فيه النية قُبِل وزكا، ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط وضاع، وخسرت صفقته.
(22) وَأَفْضَلُ ثَوْبِكَ الإِحْسَانُ لَكِنْ *** نَرَى ثَوْبَ الإِسَاءَةِ قَدْ لَبِسْتَا
(23) إِذَا مَا لَمْ يُفِدْكَ الْعِلْمُ خَيْراً *** فَخَيْرٌ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَدْ جَهِلْتَـا
قوله:(وَأَفْضَلُ ثَوْبِكَ الإِحْسَانُ لَكِنْ *** نَرَى ثَوْبَ الإِسَاءَةِ قَدْ لَبِسْتَا)
أتبع الناظم رحمه الله في هذا البيت وما بعده بالحث على العمل بطلب العلم والتحذير من الوقوع في بعض الذنوب، فأشار في هذا البيت بأن أفضل ما يتحلى به طالب العلم أن يكون محسناً إلى نفسه وذلك بتزكيتها على ما تعلمته من العلوم الشرعية، وكذلك أن يكون محسناً إلى الخلق وذلك بتبصيرهم بأمور دينهم، وهذا من أنفع الإحسان إلى الخلق وكذلك الإحسان إليهم بما يحتاجونه من أمور دنياهم.
وقوله (نَرَى ثَوْبَ الإِسَاءَةِ قَدْ لَبِسْتَا) أي إن لم تكن محسناً فإننا نراك بترك الإحسان قد أسأت، وذلك لأنك لم تعمل بما تعلمت.
قوله:(إِذَا مَا لَمْ يُفِدْكَ الْعِلْمُ خَيْراً *** فَخَيْرٌ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَدْ جَهِلْتَا)
أي إذا لم تستفد من هذا العلم الذي علمك الله إياه، فلو كنت جاهلاً لكان خيراً لك وذلك لأن هناك فرقاً بين الجاهل الذي لا يعلم وبين الذي يعلم ولا يعمل، فقد جاءت النصوص بذم من تعلم ولم يعمل بعلمه كما في قول الله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(البقرة: 44). ففي الآية مقْتٌ لمن يخالف قوله فعله، وهي في شأن يهود، لكنها تنطبق على كل من تعلم العلم ولم يعمل به.
ومن ذلك أيضاً أنه قد شبه من علم ولم يعمل بما علم بالحمار في قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}[الجمعة:5]، فإن حظ من لم يعمل بعلمه كحظ الحمار من الكتب التي أثقلت ظهره ولم ينتفع بما فيها.
ومن ذلك أيضاً أن الله تعالى ضرب مثلاً بمن تعلم ولم يعمل بعلمه بأخس الحيوانات كما في قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث…}(الأعراف:175-176).
يقول ابن القيم رحمه الله: “فشبه سبحانه من أتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره؛ فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق؛ بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدراً، وأخسها نفساً، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً”([11]).
وقد جاءت الأحاديث كذلك بالتأكيد على أهمية العمل بالعلم، والتحذير من ضد ذلك؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه (أي: أمعاؤه) فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)([12]).
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه)([13]).
وروي عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلُ الَّذي يعلِّمُ النَّاسَ الخيرَ وينسَى نفسَهُ مثلُ الفتيلةِ تُضيءُ علَى النَّاسِ وتحرقُ نفسَها)([14]).
قال بعضهم:
إذا العلم لم يعمل به كان حـجةً *** عليك ولم تعذر بما أنت حاملُ
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنمـا *** يُصدِّقُ قـول المرء ما هو فاعلُ.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “يا حملة العلم اعملوا فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى”([15]).
(24) وَإِنْ أَلْقَاكَ فَهْمُكَ فِي مَهَاوٍ *** فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا فَهِمْتَا
قوله: (وَإِنْ أَلْقَاكَ فَهْمُكَ فِي مَهَاوٍ *** فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا فَهِمْتَا)
أي: إذا قادك ما تعلمته وفهمته من نور الشريعة على الوقوع في محارم الله فيا ليتك ما تعلمت ولا فهمت لأنك بذلك ستهوى وتسقط في المهالك، وذلك لأن العمل بالعلم رفعة فكان ترك ذلك ذل وسقوط.
فيا طالب العلم إياك وترك العمل بالعلم.
(25) سَتَجْنِي مِنْ ثِمَارِ الْعَجْزِ جَهْلاً***وَتَصْغُرُ فِي الْعُيُونِ إِذَا كَبِرْتَا
(26) وَتُفْقَدُ إِنْ جَهِلْتَ وَأَنْتَ بَاقٍ *** وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ وَلَوْ فُقِدْتَا
قوله:(سَتَجْنِي مِنْ ثِمَارِ الْعَجْزِ جَهْلاً *** وَتَصْغُرُ فِي الْعُيُونِ إِذَا كَبِرْتَا)
ومن جزاء عدم العمل بما تعلمه طالب العلم أنه سيجني ثمار العجز الذي استعاذ منه صلى الله عليه وسلم بقوله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ) ([16])، وبالتالي سيضيع ما حفظه وتعلمه.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط بل ستصغر في أعين الناس إذا كبرت، فبعد أن كنت كبيراً في أعينهم إذا بك تصغر في أعينهم جراء ما جنيته من العجز والوقوع في محارم الله تعالى، قال تعالى:{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}(الأنعام :124).
قوله:(وَتُفْقَدُ إِنْ جَهِلْتَ وَأَنْتَ بَاقٍ *** وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ وَلَوْ فُقِدْتَا)
أي: إذا كنت من الجهلاء الذين لا يحرصون على طلب العلم الشرعي أو تعلموه ولم يعملوا به وكنت غائباً عن الناس بموت أو بسفر أو نحو ذلك فإنك لا تذكر ولا يكون لك أثر ولا وجود حتى وإن كنت حيًّا بين الناس.
أما إن كنت ممن أحياهم الله بنور العلم والبصيرة فإنك ستذكر على ألسن الناس؛ فهؤلاء الصحابة كم نترضى عنهم، وهؤلاء أهل العلم كم نترحم عليهم وهم في قبورهم أو بعيدين عنا؛ فالذي أحيا ذكرهم هو العلم. فالناظم رحمه الله يريد منا أن نحيا بعد موتنا وذلك بالذكر الحسن والثناء الجميل.
(27) وَتَذْكُرُ قَوْلَتِي لَكَ بَعْدَ حِينٍ *** إِذَا حقّاً بِهَا يَوْماً عَمِلْتَا
(28) وَإِنْ أَهْمَلْتَهَا وَنَبَذْتَ نُصْحاً *** وَمِلتَ إِلَى حُطَامٍ قَدْ جَمَعْتَا
(29) فَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا *** وَمَا تُغْنِي النَّدَامَةُ إِنْ نَدِمْتَا
(30) إِذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ فِي سَمَاءٍ***قَدِ ارْتَفَعُوا عَلَيْكَ وَقَدْ سَفُلْتَا
(31) فَرَاجِعْهَا وَدَعْ عَنْكَ الْهُوَيْنَى *** فَمَا بِالْبُطْءِ تُدْرِكُ مَا طَلَبْتَا
قوله:(وَتَذْكُرُ قَوْلَتِي لَكَ بَعْدَ حِينٍ *** إِذَا حقّاً بِهَا يَوْماً عَمِلْتَا
وَإِنْ أَهْمَلْتَهَا وَنَبَذْتَ نُصْحاً *** وَمِلتَ إِلَى حُطَامٍ قَدْ جَمَعْتَا
فَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا *** وَمَا تُغْنِي النَّدَامَةُ إِنْ نَدِمْتَا)
يذكر الناظم في هذه الأبيات الفرق بين من عمل بمواعظه ونصحه وبين من لم يقم لها رأساً.
فقال: إذا عملت بهذه النصائح والمواعظ فتذكرها بعد أمد طويل حين يظهر بك الشيب، وقد استفدت من هذه المواعظ فإنك ستجد ثمرة ذلك من الذكر الحسن والدعاء لك والثناء عليك.
والعكس بالعكس إذا لم تعمل بهذه النصائح وأهملتها ونبذتها ولم تقم لها وزناً وملت إلى جمع حطام الدنيا الفانية والانشغال بها فإنك عندئذ ستندم على تفريطك وعدم أخذك بهذه النصائح الغالية، ولا ينفعك ولا يغني عنك ندمك حينها ستتحسر على عدم استفادتك من هذه المواعظ.
قوله:(إِذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ فِي سَمَاءٍ***قَدِ ارْتَفَعُوا عَلَيْكَ وَقَدْ سَفُلْتَا
فَرَاجِعْهَا وَدَعْ عَنْكَ الْهُوَيْنَى *** فَمَا بِالْبُطْءِ تُدْرِكُ مَا طَلَبْتَا)
أي: إذا رأيت أقرانك قد حصَّلوا من العلم الكثير وارتفعوا عليك بما علموه من نور الوحيين وأقوال أهل العلم وأنت لم تحصِّل من ذلك شيئاً وذلك لانشغالك بأمور الدنيا والركون إليها، فراجع نفسك ولا يكون تقدمك في السن سبب لعجزك، بل الذي ينبغي عليك أن تدع عنك هذه المثبطات من الهوينى، وهي الضعف والإعراض عن طلب العلم، وعليك بالجد والاجتهاد في تحصيله فإن معالي الأمور لا تدرك إلا بذلك. قال تعالى:{يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}[مريم: 12] يعني بجد وطاعة واجتهاد وشكر وبالعمل بما فيه.
(32) وَلاَ تَخْتََلْ بِمَالِكَ وَالْهُ عَنْهُ *** فَلَيْسَ الْمَالُ إِلاَّ مَا عَلِمْتَـا
(33) وَلَيْسَ لِجَاهِلٍ فِي النَّاسِ مُغْنٍ *** وَلَو مُلْكُ الْعِرَاقِ لَهُ تَأَتَّى
قوله:(وَلاَ تَخْتَلْ بِمَالِكَ وَالْهُ عَنْهُ *** فَلَيْسَ الْمَالُ إِلاَّ مَا عَلِمْتَا)
أي: إن كنت ممن أعطاك الله مالاً فلا تغتر بمالك ولا تترفع به على الناس بل أله عنه، وانشغل بطاعة مولاك ولا تنشغل بالمال فليس المال إلا ما عرفته من أنه متاع الحياة الدنيا وزينتها وأنك مسئول عنه يوم القيامة.
قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}[الكهف:46].
وقال أيضاً:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران : 14].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ)([17]).
لكن هناك مالٌ آخر هو أعظم من هذا المال، وقد سبق أن بيَّناه لك فهو الكنز الذي يجب عليك أن تحرص على اقتناءه وهو العلم.
قوله:(وَلَيْسَ لِجَاهِلٍ فِي النَّاسِ مُغْنٍ *** وَلَو مُلْكُ الْعِرَاقِ لَهُ تَأَتَّى)
أي: الذي ينفع الناس هو العالم بأمور الشريعة؛ فالناس يحتاجون إليه.
أما الجاهل الذي عنده مال فإن الناس لا يلتفتون إلى ماله، بل هم مستغنون عنه حتى وإن كان ممن يملك العراق وغيرها، لأن حاجة الناس للعلم فوق حَاجتهم إلى كل شيء، بل أشدّ من الحاجة إلى الـتنفّس – فضْلا عَن الطعام والشراب – لأن غاية ما يقدَّر في عدم الـتَّنفس والطعام والشَّراب مَوْت البَدن وتَعَطُّل الرُّوح عنه، وأما ما يقَدَّر عند عَدَم الشَريعة ففساد الرُّوح والقلب جملة، وهلاك الأبدان، وشتان بَين هذا وهلاك البدن بالموت. فليس الناس قط إلى شيء أحْوج منهم إلى مَعرفة ما جاء به الرَّسول صلى الله عليه وسلم، والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجِهاد مَن خَرَج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بِدون ذلك البتَّة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاَّ بِالعبور على هذا الْجسر.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “الناس مُحْتَاجُون إلى العِلْم أكثر مِن حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحْتَاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعِلْم يُحْتَاج إليه بِعَدَد الأنفاس” ([18]) .
(34) سَيَنْطِقُ عَنْكَ عِلْمُكَ فِي مَلاءٍ *** وَيُكْتَبُ عَنْكَ يَوْماً إِنْ كَتَمْتَا
قوله:(سَيَنْطِقُ عَنْكَ عِلْمُكَ فِي مَلاءٍ *** وَيُكْتَبُ عَنْكَ يَوْماً إِنْ كَتَمْتَا)
قول:(فِي مَلاءٍ) أي: في جمع من الناس.
والمعنى متى علَّمت الناس الخير ودعوتهم إليه فإن هذا العلم سيشهد لك وسينتشر ويعرفك بذلك القاصي والداني، فتشرف وتعظم في البلدان حتى وإن لم يعرفك أحد من أصحاب هذه البلاد وهذا أمر مشاهد ومعلوم.
أما إن كتمت علمك فلم تبلغه للناس ولم تدعوهم إليه فإن هذا العلم الذي تحمله سيموت بموتك ويفنى بفنائك وينقطع ذكرك بموتك وسيكون هذا العلم شاهداً عليك. قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ)([19]).
وعن علي رضي الله عنه قال: “ما أخذ الله العهد على أهل الجهل أن يتعلموا، حتى أخذ على أهل العلم العهد أن يُعلِّموا”([20]).
والذي يكتم العلم لا شك أن فيه شبهاً من المغضوب عليهم وذلك بأنهم كانوا يكتمون العلم تارةً بخلاً به، وتارةً اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارةً خوفاً أن يحتج عليهم بما أظهروه منه.
قال تعالى في وصفهم:{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[البقرة : 76].
ولذلك استحقوا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإني أعيذك بالله أن تكون من هؤلاء.
(35) وَمَا يُغْنِيكَ تَشْيِيدُ الْمَبَانِي *** إِذَا بِالْجَهْلِ نَفْسَكَ قَدْ هَدَمْتَا
(36) جَعَلْتَ المَالَ فَوْقَ الْعِلْمِ جَهْلاً *** لَعَمْرُكَ فِي الْقَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا
قوله:(وَمَا يُغْنِيكَ تَشْيِيدُ الْمَبَانِي *** إِذَا بِالْجَهْلِ نَفْسَكَ قَدْ هَدَمْتَا)
أي: إذا كان الله تعالى منَّ عليك بنعمة المال فاستخدمته في تشييد المباني فبنيت به من الدور والقصور فهل هذا هو عين الغنى؟
الجواب: لا طالما أنك بالجهل موصوفاً فلا يرتفع بنائك ومكانتك إلا إذا كنت بالعلم موصوف فهذا أبو جهل كان سيداً في قومه وصاحب رأي ومشورة فيهم لكنه هو أبو الجهل وما زال به موصوفاً من عهد النبوة إلى وقتنا هذا وما نفعه جاهه ولا ماله ولا سلطانه.
في مقابل ذلك هذا بلال الحبشي كان أفقر الناس لكنه كان أغناهم بالله فرفعه الله وأحيا ذكره فلا نزال نترضى عنه حين نذكره.
فالعبرة بالعلم فإذا هدمت نفسك بالجهل فإنك مهما جمعت من مال وشيدت من دور فهي لن تغنيك أبدا.
قوله:(جَعَلْتَ المَالَ فَوْقَ الْعِلْمِ جَهْلاً *** لَعَمْرُكَ فِي الْقَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا)
أي بسبب جهلك بقيمة العلم قدمت عليه المال وهذا هو عين الجهل وذلك لأن العلم لا يمكن أن يقاس بالمال وذلك من وجوه عديدة منها:
أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة، ولأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، ولأن العلم لا يعطيه الله إلا لمن أحبه، والمال يعطيه الله لمن أحبه ومن لا يحبه، كما في قوله تعالي:{وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}[الزخرف: 33]، ولأن العلم لا ينقص بالبذل، والنفقة، والمال ينقص بالبذل والنفقة، ولأن صاحب المال إذا مات انقطع ذكره، والعالم إذا مات فذكره باق، ولأن صاحب المال ميت، وصاحب العلم لا يموت، ولأن صاحب المال يسأل عن كل درهم من أين كسبه؟ وأين أنفقه؟ وصاحب العلم له بكل حديث درجة في الجنة.
فهل بعد هذه الأمور يمكن أن يقال بأن المال فوق العلم، لا شك أن من قال بذلك لم يكن عادلاً في حكمه.
(37) وَبـَيْنَهُمَا بِنَصِّ الْوَحْيِ بَوْنٌ *** سَتَعْلَمُهُ إِذَا ” طَه ” قَرَأْتَا
قوله:(وَبـَيْنَهُمَا بِنَصِّ الْوَحْيِ بَوْنٌ *** سَتَعْلَمُهُ إِذَا ” طَه ” قَرَأْتَا)
أي: هناك بون شاسع وفرق كبير بين العلم والمال، وقد ذكرنا جملة من الفروق بينهما، ومما نوه عليه الناظم أيضاً من الفروق ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة طه وهو قوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه : 114] فلم يأمر نبيه بطلب الزيادة في المال وإنما طلب أن يسأله الزيادة من العلم فدل ذلك على أنه أعظم وأشرف من المال.
(38) لَئِنْ رَفَعَ الْغَنِيُّ لِوَاءَ مَـالٍ *** لأَنْتَ لِوَاءَ عِلْمِكَ قَدْ رَفَعْتَـا
(39) لَئِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحَشَايَا *** لأَنْتَ عَلَى الكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا
(40) وَإِنْ رَكِبَ الْجِيَادَ مُسَوَّمَـاتٍ *** لأَنْتَ مَنَاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَــا
قوله:(لَئِنْ رَفَعَ الْغَنِيُّ لِوَاءَ مَالٍ *** لأَنْتَ لِوَاءَ عِلْمِكَ قَدْ رَفَعْتَا)
أي: إذا كان الغني الجاهل رفع شعار الغنى واحتج عليك بغناه وما منَّ الله عليه من المال فاعلم أن لواءك أعظم وأشرف وأرفع من لواءه، وقد سبق الإشارة إلى المفاضلة بين العلم والمال.
قوله:(لَئِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحَشَايَا *** لأَنْتَ عَلَى الكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا)
الحشايا: جمع الحشية، وهي الفراش المحشو، وهوـ كما في متن اللغةـ المعروف في الشام بالطرّاحة وما تزال الكلمة حيّة في ديار الشام وغيرها. والمعنى: أنه إذا كان الغني يفتخر بجلوسه على الفرش غالية الثمن جميلة المنظر فأنت قد جلست على الكواكب التي هي أشرف وأعظم مما جلس عليه هذا الغني بماله فرُتبةُ العلم أعلى الرتب فلا يغرنك ما عليه هذا الغني من مال.
قوله:(وَإِنْ رَكِبَ الْجِيَادَ مُسَوَّمَاتٍ *** لأَنْتَ مَنَاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَا)
لا يزال الناظم يظهر شرف وعلو رتبة العلم وأهله فبين في هذا البيت
أنه إن كان صاحب المال قد ركب الخيل المسومة ذات السمات الحسان والمعدة للركوب التي هي متاع الحياة، كما قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران : 14].
إذا كان هذا الغَنيُّ قد افتخر بركوبه هذه المركوبات فاعلم أن تقوى الله هي أعظم مركوب وخير زاد تتزود به.
قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف :26]. وقال أيضاً:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة: 197].
(41)وَمَهْمَا افْتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي***فَكَمْ بِكْرٍ مِنَ الحِكَمِ افْتَضَضْتَا؟
(42) وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الإِقْتَارُ شَيْئاً *** إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قََدْ عَرَفْتَا
قوله:(وَمَهْمَا افْتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي *** فَكَمْ بِكْرٍ مِنَ الحِكَمِ افْتَضَضْتَا؟)
هذا أيضاً لواء آخر من ألوية الغنى وهو انشغال الغني بالأبكار الجميلات من النساء سواء كان ذلك بحلال أو حرام فلا تنشغل أنت بما انشغل به هذا الغني لأنك تحمل بين جنبك أبكار الحكم التي هي أعظم من هذه الغواني.
قوله:(وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الإِقْتَارُ شَيْئاً *** إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قَدْ عَرَفْتَا)
أي: يا طالب العلم لا يضرك كونك فقيراً لقلة زاد اليد، بل أنت أغنى الناس لأنك تعرف ربك ومعبودك سبحانه وتعالى، فليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس. ثم إذا كنت فقيراً فاعلم أن كثيراً من أئمة العلم كانوا فقراء، وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) جملة منهم، فقد أسند عن الإمام مالك قال: “إن هذا الأمر لن ينال حتى يذاق فيه طعم الفقر. وذكر ما نزل بربيعة من الفقر في طلب العلم حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم، وحتى كان يأكل ما يلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر”.
وعن الإمام الشافعي قال: “لا يطلب هذا العلم أحد بالمال وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وحرمة العلم أفلح”.
وعنه قال: “كنت يتيماً في حجر أمي فدفعتني في الكُتَّاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، فكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أن أشتري به قراطيس قط، فكنت إذا رأيت عظماً يلوح آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جرَّة كانت لنا قديماً، قال: ثم قدم والٍ على اليمن فكلمه لي بعض القرشيين أن أصحبه ولم يكن عند أمي ما تعطيني أتحمل به، فرهنت دارها بستة عشر دينارا فأعطتني فتحملت بها معه…([21])اهـ.
ثم نذكر يا طالب العلم حال أبي هريرة رضي الله عنه أحفظ الصحابة لحديث رسول الله صلى لله عليه وسلم، فقد روى البخاري عنه قال: كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني.
فهذا حال الأوائل من أهل العلم، فهم خير سلف لخير خلف؛ فألحق بركبهم وسر على نهجهم تفوز وتفلح.
(43) فَمَاذَا عِنْدَهُ لَكَ مِنْ جَمِيلٍ *** إِذَا بِفِنَاءِ طَاعَتِهِ أَنَخْتَا
قوله:(فَمَاذَا عِنْدَهُ لَكَ مِنْ جَمِيلٍ *** إِذَا بِفِنَاءِ طَاعَتِهِ أَنَخْتَا)
أي: إذا وهبك الله العلم النافع والعمل الصالح فأبشر بما أعده الله لك من جميل النعم في الآخرة، ولا تبتئس بفقرك في الدنيا لكن لابد من طاعة الله تعالى والرضا بما قسمه الله لك، قال الله تعالى:{يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 11]، فيرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم درجات، وهذه الدرجات تكون في الدنيا وتكون في الآخرة، فدرجات الدنيا قد سبق الإشارة إليها في كلام الناظم من كونهم يكونون أئمة للأمة وقادتهم وقدوتهم، وكونهم لهم ذكر حسن ولسان صدق وغير ذلك مما سبق ذكره، أما في الآخرة فإن الله تعالى يرفعهم درجات في الجنة فهذه من فضائل العلم.
(44) فَقَابِلْ بِالْقَبُولِ لِنُصْحِ قَوْلِي***فَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فَقَدْ خَسِرْتَا
(45) وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَــوْلاً وَفِعْلاً *** وَتَاجَرْتَ الإِلَهَ بِهِ رَبحْتَــا
(46) فَلَيْسَتْ هَذِهِ الدُّنْيَـا بِشَيْءٍ *** تَسْوؤُكَ حِقْبَةً وَتَسُرُّ وَقْتَـا
قوله:(فَقَابِلْ بِالْقَبُولِ لِنُصْحِ قَوْلِي *** فَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فَقَدْ خَسِرْتَا)
أي: أقبل مني هذه النصائح التي قدمتها إليك من الحثِّ على طلب العلم وبيان فضله وما يجب أن تكون عليه وغير ذلك من النصائح فإن قبلت نصحي لك فأنت الرابح، أما إذا أعرضت عن هذه النصائح فأنت الخاسر.
قوله:(وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَوْلاً وَفِعْلاً *** وَتَاجَرْتَ الإِلَهَ بِهِ رَبحْتَا)
أي: إن راعيت طلبك للعلم بالقول والعمل وصادق قولك عملك، وكنت ممن تاجر مع الله بطلب العلم والعمل به فأنت الرابح.
قوله:(فَلَيْسَتْ هَذِهِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ *** تَسْوؤُكَ حِقْبَةً وَتَسُرُّ وَقْتَا)
أي: هذه الدنيا التي تعيش فيها ليست بشيء فهي لا تزن عند الله جناح بعوضة. ولذلك لم ينخدع به العالمون، بل ميَّز الله أهل العلم والإيمان الذين لا تغرهم الحياة الدنيا، وينظرون إلى ما وراء ذلك من ثواب الله أو عقوبته ولذلك قال الذين أُوتوا العلم لما رأوا قارون قد خرج بملكه ليفتن قومه:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا…}[القصص:80] .
ثم هذه الدنيا لا تدوم في النعيم لأحد فهي ميدان بلاء. والبلاء فيها يصيب المؤمن كما يصيب غيره وذلك اختباراً لإيمانه، والحياة فيها لا تمضي على نسق واحد، فهي مليئة بالمتاعب والأحزان، إن صفت يوماً كدرت أياماً، وإن أضحكت ساعة أبكت ساعات.
كما قال الشاعر:
دَارٌ إذَا ما أضْحَكتْ يومًا *** أبكتْ غدًا تبًّا لها من دارٍ
(47) وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيهَا *** كَفَيْئِكَ أَوْ كَحُلْمِكَ إِذْ حَلَمْتَا
قوله:(وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيهَا *** كَفَيْئِكَ أَوْ كَحُلْمِكَ إِذْ حَلَمْتَا)
أي: هذه الدنيا إذا فكرت فيها وفي حقيقتها أيقنت أنها ظل زائل، قال صلى الله عليه وسلم عنها:(مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَ) ([22]). بل هي أسرع من ذلك فهي تمر عليك كحلم حلمته.
قال بعضهم:
إنما الدنيا كظل زائل *** أو كضيفٍ بات ليلاً فارتحل
أو كطيفٍ قد يراه نائم *** أو كبرق لاح في أفق الأمل
لا تغرنَّك أباطيل المنى *** والزم القصد ودع عنك العلل
إنما الدنيا كظل زائل *** حلَّ فيه راكب ثم ارتحل
قال يونس بن عبد الأعلى: “ما شبهت الدنيا إلا كرجل نام، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه” ([23]).
وما أجمل قول القائل:
أرَى الدُّنْـيَا تَغُـرُّ الْوَارِدِينَا *** فَمَا فِيهَا كَحُلْمِ النَّائِمِينَا
إِذَا صَادَفْتَ فِيهَا مُمْتِعَاتٍ *** غَدًا تَفْنَى كَحُلْمِ الْحَالِمِينا
إِذَا أَعْطَتْكَ فِي يَوْمٍ شَبَابًا *** سَتَهْرَمُ ثُمَّ يُصْبِحُ بَعْدُ دُونَا
وَقَدْ يُوهِيكَ بَعْدَ قُوَاكَ ضُعْفٌ *** فَيُتْبِعَ نَصْرَكَ الْخِزْيَ الْمُهِينَا
وَإِنْ أَرْخَتْ مُقَامَكَ فِي سُرُورٍ *** لَسَوْفَ تُرَى بُعَيْدَ رَخًا حَزينَا
فَلاَ تَغْتَرَّ إِنْ أَوْلَتْكَ جَاهًا *** فَلاَ يَبْقَى لَدَيْكَ سِوَى سِنِينَا
وَقَدْ تَكْسُوكَ بَعْدَ الْجَاهِ ذُلاًّ *** وَبَعْدَ الْمَجْدِ قَدْ تَكْسُوكَ هُونَا
وَبَعْدَ غِنَاكَ قَدْ يَأْتِيكَ فَقْرٌ *** وَبَعْدَ رَفَاهَةٍ تَلْقَى الْمَنُونَا
وَلَيْسَ جَمَالُهَا إِلاَّ مُعَارًا *** وَلَوْ بِجَمَالِهَا جُنَّتْ جُنُونَا
فَلا مَالٌ يَدُومُ وَلاَ رَخَاءٌ *** وَلا فَرَحٌ وَيُسْرُ الْغَانِمِينَا
أَرَى ذَا الْعَيْشَ غَدَّارًا غَرُورًا *** وَهَذَّامًا أَمَانِيَ أَوْ ظُنُونَا
أَرَى ذَا الْعَيْشَ خَتَّارًا خَؤُونا *** فَلا زَوْجٌ سَتَبْقَى أَوْ بَنُونَا
(48) سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لَهَا مُحِبٌّ *** فَكَيْفَ تُحِبُّ مَا فِيهِ سُجِنْتَا ؟
(49) وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَرِيبٍ***سَتَطْعَمُ مِنْكَ مَا فِيهَا طَعِمْتَا
(50) وَتَعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَاباً *** وَتُكْسَى إِنْ مَلاَبِسَهَا خَلعْتَا
قوله:(سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لَهَا مُحِبٌّ *** فَكَيْفَ تُحِبُّ مَا فِيهِ سُجِنْتَا؟)
يشير رحمه الله إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)([24])، والمعنى أنك مسجون في هذه الدنيا التي أنت تحبها مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذّر منها، فكيف بك تحب هذا السجن مع أن الواجب عليك أن يكون عيشك فيها عيش المسجونين لا عيش المستريحين.
قوله:(وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَرِيبٍ *** سَتَطْعَمُ مِنْكَ مَا فِيهَا طَعِمْتَا)
أي: هذه الدنيا التي تحبها وتنشغل بها في الحقيقة تطعمك منها فتعطيك ما لذَّ وطاب لكنك عن قريب سترحل عنها وتكون أنت طعامها فتأكلك كما أكلت منها. واعلم أنك ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت. فعَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قَالَ:(يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ)([25]).
قوله:(وَتَعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَاباً *** وَتُكْسَى إِنْ مَلاَبِسَهَا خَلعْتَا)
أي: متى انشغلت بالدنيا بما فيها من لباس فأعطتك من أجمل ثيابها فهذا في الحقيقة عُري لأن الكساء الحقيقي هو كساء العلم والتقوى، قال تعالى:{يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف :26].
وقوله:(وَتُكْسَى إِنْ مَلاَبِسَهَا خَلعْتَا) أي: إذا تركت ثياب الدنيا ولم تغتر بها فإنك ستكسى ثياب العز والكرامة وهو حب الناس والثناء عليك الذي أصله لباس العلم والتقوى.
(51) وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْمٍ دَفْنَ خِلٍّ *** كَأَنَّكَ لاَ تُرَادُ لِمَا شَهِدْتَا
(52) وَلَمْ تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلكِنْ *** لِتَعْبُرَهَا فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا
(53) وَإِنْ هُدِمَتْ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْماً *** وَحَصِّنْ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا
قوله:(وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْمٍ دَفْنَ خِلٍّ *** كَأَنَّكَ لاَ تُرَادُ لِمَا شَهِدْتَا)
أي: في كل يوم منادي الموت ينادي وفي كل يوم تودع حبيباً لك كأنك غير مراد من هذا النداء مع أنك غداً سينادى عليك كما نودي على خليلك فشمَّر عن ساعد الجد واعتبر بما حدث لأحبابك فإنك لا تدري متى يفاجئك الأجل فالموت يأتي على حين غرّة فاستغفر الله وتب إليه وسارع إلى فعل الخيرات ما دمت في وقت المهلة واعلم أن الله يمهل ولا يهمل فاليوم عمل ولا حساب وغدا حساب لا عمل.
قوله:(وَلَمْ تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلكِنْ *** لِتَعْبُرَهَا فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا)
أي أنت يا طالب العلم لم تخلق لتعمر الدنيا وتشيدها بالمباني والقصور ولا بالملابس الفارهة إنما خلقت لتعمرها بطاعة الله تعالى ولتعبرها بسلام واطمئنان فكن منها على حذر، وجد واجتهد في طاعة الله لتنال أرفع الدرجات في جنات النعيم.
قوله:(وَإِنْ هُدِمَتْ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْماً *** وَحَصِّنْ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا)
أي: إذا لم تعطك الدنيا مما فيها من لذاتها ورأيت الله يحبسها عنك بل ويكثر عليك الشدائد والبلوى، فاعلم أنك عزيز عنده، وأنك عنده بمكان، وأنه يسلك بك طريق أوليائه وأصفيائه وزدها بذلك هدماً، والواجب عليك وأنت في هذه الحال أن تحمد الله وأن تحصن أمر دينك ما استطعت لذلك سبيلا.
وليس معنى كلامه أن تهدم ما أودع الله فيها من جميل صنعه وما صنعه عباده مما يكون لهم عوناً على هذه الدنيا من الصناعات الحديثة إذ إنَّ الله تعالى سخر للإنسان ما في الأرض جميعاً، وأمر بطاعته ولم يأمر بهدم ما سخر ولا بزيادة الهدم، ولكن الله تعالى نهى عن الركون إلى الدنيا بأشكالها.
(54) وَلاَ تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا *** إِذَا مَا أَنْتَ فِي أُخْرَاكَ فُزْتَا
(55) فَلَيْسَ بِنَافِعٍ مَا نِلْتَ مِنْهَا *** مِنَ الْفَانِي إِذَا الْبَاقِي حُرِمْتَا
قوله:(وَلاَ تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا *** إِذَا مَا أَنْتَ فِي أُخْرَاكَ فُزْتَا)
أي لا تحزن على ما يفوتك من الدنيا فإنه عرض زائل، قال تعالى: {لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: آية 23].
أي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}، أي: من الدنيا.
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، أي: بما أوتي من الدنيا ، فخور به.
وقوله:(إِذَا مَا أَنْتَ فِي أُخْرَاكَ فُزْتَا) أي: إذا كنت من الفائزين في الآخرة فلا تحزن على ما فاتك من الدنيا فمن فاز بالْجنة وما فيها من الْنعيم المُقيم الَّذي منه رضوان الرحمن ورؤْيته فقدْ فاز بأعلى ما يطمح إِليه إِنسان من جزاء، وحقَّق أَعظم فوز يخْطر ببالٍ؛ لأنه ظفر بخلُود أَبدي فيما لا عين رأَت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فلا حزن يكدره، ولَا تفكير في الموت ينغصهُ؛ أي إذا نلت من الدنيا نعيمها فلا ينفعك لأنك عن قريب ستتركه، لكن أعظم حرمان هو حرمان نعيم الآخرة فهو النعيم السرمدي الذي لا انقطاع له عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]“([26]). فهذا هو أعظم نعيمٌ، بل هو النعيم الحقيقي.
قوله: (فَلَيْسَ بِنَافِعٍ مَا نِلْتَ مِنْهَا *** مِنَ الْفَانِي إِذَا الْبَاقِي حُرِمْتَا)
أي إذا نلت من الدنيا نعيمها فلا ينفعك لأنك عن قريب ستتركه، لكن أعظم حرمان هو حرمان نعيم الآخرة فهو النعيم السرمدي الذي لا انقطاع له.
(56) وَلاَ تَضْحَكْ مَعَ السُّفَهَاءِ يَوْماً *** فَإِنْكَ سَوْفَ تَبْكِي إِنْ ضَحِكْتَا
(57) وَمَنْ لَكَ بِالسُّرُورِ وَأَنْتَ رَهْنٌ *** وَمَا تَدْرِي أَتُفْدَى أَمْ غُلِلْتَـا؟
(58) وَسَلْ مِنْ رَبِّكَ التَّوْفِيقَ فِيهَا *** وَأَخْلِصْ فِي السُّؤَالِ إِذَا سَأَلْتَا
قوله:(وَلاَ تَضْحَكْ مَعَ السُّفَهَاءِ يَوْماً *** فَإِنْكَ سَوْفَ تَبْكِي إِنْ ضَحِكْتَا)
أصل السفه في اللغة: نقص وخفة العقل والطيش والحركة.
والسفيه: هو الإنسان الناقص العقل، الذي يتجرأ على الآخرين بالسَّبِّ والشَّتم، ويتهجم بلا سبب، ويطلق الكلام القبيح بسهولة؛ فهو إنسان غير ناضج ولا مسؤول.
فهذا يا طالب العلم لا تضحك معه، فإن ضحكك معه سيؤدي في النهاية إلى بكائك، لأن مجاراة السفيه بالضحك معه تقود العاقل إلى مشابهته، والسفيه لا يريد من العاقل إلا ذلك، فما أحسن ترك السفيه وسفاهته.
فاغتنم أوقات عمرك في طلب العلم ولا تجلس مجالس السفهاء.
قوله:(وَمَنْ لَكَ بِالسُّرُورِ وَأَنْتَ رَهْنٌ *** وَمَا تَدْرِي أَتُفْدَى أَمْ غُلِلْتَا؟
وَسَلْ مِنْ رَبِّكَ التَّوْفِيقَ فِيهَا *** وَأَخْلِصْ فِي السُّؤَالِ إِذَا سَأَلْتَا)
أي لا تُسرُّ مهما أُعطيت من الدنيا فأنت مرهون بكل ما أعطيت منها وغدا لا تدري هل ستفدى من النار أم ستغل فيها، فإن هذا قد خبأه الله تعالى عن عباده، فلا تضحك ولا تسر بل اجتهد في تحصيل ما ينقذك من النار مع سؤاله سبحانه أن يهديك إلى ما فيه صلاحك في الدنيا والآخرة، وأن ينجيك في الآخرة من عذابه، مع إخلاص الله تعالى في التضرع إليه عند سؤالك إياه.
(59) وَنَادِ إِذَا سَجَدْتَ لَهُ اعْتِرَافاً*** بِمَا نَادَاهُ ذُو النُّونِ ابْنُ مَتَّى.
(60) وَلاَزِمْ بَابَهُ قَرْعاً عَسَاهُ *** سَيَفْتَحُ بَابَهُ لَكَ إِنْ قَرَعْتَا
(61) وَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ فِي الأَرْضِ دَأْباً *** لِتُذْكَرَ فِي السَّمَاءِ إِذَا ذَكَرْتَا
قوله:(وَنَادِ إِذَا سَجَدْتَ لَهُ اعْتِرَافاً*** بِمَا نَادَاهُ ذُو النُّونِ ابْنُ مَتَّى)
أي: وليكن دعاءك ربك سبحانه وتعالى بما دعى به يونس بن متى عليه السلام ربه حينما التقمه الحوت حيث قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فهذا اعتراف منك لربك بتقصيرك في طاعته وحاجتك إلى مغفرته.
قوله:(وَلاَزِمْ بَابَهُ قَرْعاً عَسَاهُ *** سَيَفْتَحُ بَابَهُ لَكَ إِنْ قَرَعْتَا)
ولازم الدعاء ولا تغفل عنه عسى ربك سبحانه أن يفتح لك باب الإجابة، فمن لازم قرع الباب أوشك أن يفتح له. ومن لازم الدعاء، وجعله له سجية لحصول مطلوبه، فإن الله ولا شك يستجيب له، وإن طال الزمن.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: (لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لي فَيَسْتَحْسِرُ)، أي فينقطع عن الدعاء ويتركه عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ([27]).
قوله:(وَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ فِي الأَرْضِ دَأْباً *** لِتُذْكَرَ فِي السَّمَاءِ إِذَا ذَكَرْتَا)
وأكثر من ذكر ربك سبحانه وتعالى وواظب على ذلك فإن ذكر الله نعمة كبرى، ومنحة عظمى، به تستجلب النعم، وبمثله تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح. ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال ولذا وصَّى به الناظم طالب العلم.
ومن أعظم فضائله على طالب العلم أنه متى ذكر ربه وأكثر من ذكره سبحانه وتعالى ففي مقابل ذلك سيذكره ربه في السماء ويباهي به ملائكته، فالذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه وهذه المعيَّة معيَّةٌ خاصةٌ غير معيِّة العلم والإحاطة العامة، فهي معيِّة بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق. قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:(يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني فيس ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)([28]).
(62) وَلاَ تَقُلِ الصِّبَا فِيهِ امْتِهَالٌ *** وَفَكِّرْ كَمْ صَغِيرٍ قَدْ دَفَنْتَا
قوله:(وَلاَ تَقُلِ الصِّبَا فِيهِ امْتِهَالٌ *** وَفَكِّرْ كَمْ صَغِيرٍ قَدْ دَفَنْتَا)
لما كان طلب العلم في الصغر له مزيته الخاصة نبه الناظم على ذلك ودعى طالب العلم على الجد في تحصيله في زمن الصبا، ولا يسوًّف ولا يحتج بكونه أمامه فرصة كبيرة لأنه صغير السن ويمكنه إدراك ما فاته من التحصيل، فإنه لا يدري ما يعرض له فكم من صغير تحت الثرى قد وافته منيته وهو في سن مبكرة من عمره.
ولذلك نقول إن من أنفس النصائح التي نقدمها للشباب أن نحثهم على الإقبال على العلم في هذه السن، فإنها فرصة حري بالعاقل اغتنامها، فقد يعجز في المستقبل عما يستطيعه اليوم.
وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة، توحي بأهمية الطلب في الصغر، وتميزه عن الطلب في الكبر.
وقد قيل: “طلب العلم في الصغر كالنقش في الحجر”.
وقال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه: “تعلموا العلم، فإنكم إن تكونوا صغار قوم تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ فليكتب” ([29]).
وقال عروة بن الزبير لبنيه: “هلموا إلي فتعلموا مني، فإنكم توشكون أن تكونوا كبار قوم. إني كنت صغيراً لا ينظر إلي، فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني، وما شيء أشد على امرئ من أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله”.
وروي عن لقمان أنـه قال لابنه: “يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بالحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء، يا بني لا تتعلم العلم لتباهي به العلماء، وتماري به السفهاء، وترائي به في المجالس، ولا تدع العلم زهداً فيه، ورغبـة في الجهالة، يا بني اختر المجـالس على عينك، فإذا رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك جاهلاَ يعلموك، ولعل الله يطلع عليهم برحمة فتصيبك معهم، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك، وإن تك جاهلاً يزيدوك غيًّا”([30]).
(63) وَقُلْ: يَا نَاصِحِي بَلْ أَنْتَ أَوْلَى***بِنُصْحِكَ لَوْ لِفِعْلِكَ قَدْ نَظَرْتَا
(64) تُقَطِّعُنِي عَلَى التَّفْرِيطِ لَوْماً *** وَبِالتَّفْرِيطِ دَهْرَكَ قَدْ قَطَعْتَا
قوله:(وَقُلْ: يَا نَاصِحِي بَلْ أَنْتَ أَوْلَى *** بِنُصْحِكَ لَوْ لِفِعْلِكَ قَدْ نَظَرْتَا
تُقَطِّعُنِي عَلَى التَّفْرِيطِ لَوْماً *** وَبِالتَّفْرِيطِ دَهْرَكَ قَدْ قَطَعْتَا)
انتقل الناظم من بداية هذا البيت من ناصح إلى منصوح، فأرشد المنصوح بأن ينصحه بأن يقول له يا من تنصحني أنت أولى بنصحك نفسك فأنت قد فرطت في شبابك في طلبك للعلم، فلو نظرت لحالك لوجدت أنك أنت المفرط، فلماذا تحرص على نصحي وتنسى نفسك، وهذا من تواضع الناظم وحرصه على قبول النصيحة من المنصوح؛ فلو أشعر الناصح المنصوح بأنه هو كذلك قد أخطأ في ريعانة شبابه فلم يطلب العلم إلا بعد رحيل عمر الصبا فإن في ذلك يعطي دفعة للمنصوح على ألا يقع فيما وقع فيه الناصح.
(65)وَفِي صِغَرِي تُخَوِّفُنِي الْمَنَايَا***وَمَا تَدْرِي بِحَالِكَ حَيْثُ شِخْتَا
(66) وَكُنْتَ مَعَ الصِّبَا أَهْدَى سَبِيلاً *** فَمَا لَكَ بَعْدَ شَيْبِكَ قَدْ نَكَثْتَا
(67) وَهَا أَناَ لَمْ أَخُضْ بَحْرَ الْخَطَايَا *** كَمَا قَدْ خُضْتَهُ حَتَّى غَرِقْتَا
قوله:(وَفِي صِغَرِي تُخَوِّفُنِي الْمَنَايَا *** وَمَا تَدْرِي بِحَالِكَ حَيْثُ شِخْتَا)
أي: أنت تخوفني من الموت مع صغر سني وتدعوني إلى الاستفادة والاستزادة من طلب العلم حال كوني صبياً وأنت قد شخت وتقدم سنك، فأين أنت من وقت الصبا يوم أن كنت صغيراً.
قوله:(وَكُنْتَ مَعَ الصِّبَا أَهْدَى سَبِيلاً *** فَمَا لَكَ بَعْدَ شَيْبِكَ قَدْ نَكَثْتَا)
أي: وكنت أيها الناصح لي حال كونك صبياً على طاعة وهدى لكنك لما كبر سنك أراك قد تخليت عن ذلك وانتكست، فرأيتك تقصر في العبادة والطاعة وتركن إلى الدنيا مع أن الذي ينبغي في حقك أن تجتهد في طاعة الله وتزهد في هذه الدنيا.
قوله:(وَهَا أَناَ لَمْ أَخُضْ بَحْرَ الْخَطَايَا *** كَمَا قَدْ خُضْتَهُ حَتَّى غَرِقْتَا)
أي: وقل لي أيها المنصوح أنا مع صغر سني لم أقترف الذنوب لكنك مع كونك أكبر مني سناً أراك قد ألمت بك الذنوب حتى أصبحت غريقاً في بحرها، أليس هذا عيب في حقك.
(68) وَلَمْ أَشْرَبْ حمَُيَّا أُمِّ دَفْرٍ *** وَأَنْتَ شَرِبْتَهَا حَتَّى سَكِرْتَا
(69) وَلَمْ أَنْشَأْ بِعَصْرٍ فِيهِ نَفْعٌ *** وَأَنْتَ نَشَأْتَ فِيهِ وَمَا انْتَفَعْتَا
(70) وَلَمْ أَحْلُلْ بِوَادٍ فِيهِ ظُلْمٌ *** وَأَنْتَ حَلَلْتَ فِيهِ وَانْتَهَكْتَا
(71) لَقَدْ صَاحَبْتَ أَعْلاَماً كِبَاراً *** وَلَمْ أَرَكَ اقْتَدَيْتَ بِمَنْ صَحِبْتَا
قوله:(وَلَمْ أَشْرَبْ حمُيَّا أُمِّ دَفْرٍ *** وَأَنْتَ شَرِبْتَهَا حَتَّى سَكِرْتَا)
أمُّ دَفْرٍ: كنية الدنيا. والحميا من الكأس: شدتها، أو شدَّة إسكارها، أو أخذها بالرأس. والمعنى أني لم أشرب حبي للدنيا كما شربتها أنت حتى سكرت من شربك لها.
قوله:(وَلَمْ أَنْشَأْ بِعَصْرٍ فِيهِ نَفْعٌ *** وَأَنْتَ نَشَأْتَ فِيهِ وَمَا انْتَفَعْتَا
وَلَمْ أَحْلُلْ بِوَادٍ فِيهِ ظُلْمٌ *** وَأَنْتَ حَلَلْتَ فِيهِ وَانْتَهَكْتَا)
لا يزال المنصوح يعاتب الناصح ومن ذلك ما ذكره الناظم في هذا البيت حيث يقول له: أنت قد ولدت ونشأت في بيئة ووقت كان الصلاح هو السائد، فقد نشأت بين أهل العلم والفضل ومن ينصحك منهم ولم تستفد من وجودك بين ظهرانيهم، وفي المقابل لم أنشأ أنا في هذا العصر فأنا معذور فلماذا تنصحني وأنت خير من ينصح نفسه.
وكذلك أنت وأنا أحللنا بواد فيه الظلم هو السائد لكنني لم أكن مثلك فأنت انتهكت فيه المعاصي والذنوب وإذا كانت المشاركة في المظالم وحضور وانتهاك المظالم تكون المشاركة فيها للكبير أكثر من الصغير كانت التوبة في حق الكبير أولى وأوجب من حق الصغير.
قوله:(لَقَدْ صَاحَبْتَ أَعْلاَماً كِبَاراً *** وَلَمْ أَرَكَ اقْتَدَيْتَ بِمَنْ صَحِبْتَا)
هذا المقطع تتمة لما سبق حيث انتقل فيه إلى نصح نفسه بعد أن كان ناصحاً لغيره، والفائدة من ذلك أن المؤلف رحمه الله يريد أن ينبه على أنه ليس هناك أرفع من النصيحة وليس هناك أحد يسلم من تلك النصائح التي ذكرها للمنصوح.
وفي هذا البيت المذكور خطاب من الناظم على لسان المنصوح وهو أنك قد كنت في عصر صحبت فيه أهل علم وفضل لكنك لم تقتدي بهم ولم يظهر سمت صحبتك لهم عليك؛ فلماذا لم تستفد من صحبتك لهم وأنت تعلم أن التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة أمر حسن مندوب إليه.
(72) وَنَادَاكَ الْكِتَابُ ” فَلَمْ تُجِبْهُ *** وَنَبَّهَكَ الْمَشِيبُ فَمَا انتَبَهْتَا
(73) وَيَقْبُحُ بِالْفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي ***وَأَقْبَحُ مِنْهُ شَيْخٌ قَدْ تَفَتَّى
قوله:(وَنَادَاكَ الْكِتَابُ” فَلَمْ تُجِبْهُ *** وَنَبَّهَكَ الْمَشِيبُ فَمَا انتَبَهْتَا)
ما يزال الناظم ينصح نفسه وكذا غيره ممن يقرأ هذه المنظومة أن القرآن الكريم ناداه في آيات كثيرة إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى وذلك بترك الذنوب والمعاصي والإقبال على الله والاستعداد للقائه سبحانه ولكنه لم يجب نداء الرحمن ولم يجب داعي الله.
وكذلك جاءه نذير الموت وهو المشيب الذي فيه إيذان بدنو الأجل وقرب الرحيل فلم يرعوي ولم ينتبه إلى ذلك أيضاً، فإلى متى هذه الغفلة وإلى متى هذا الإعراض.
والمعنى يا من عنده هذه الأوصاف أنت أحق وأولى بهذه الأبيات والنصائح المذكورة مني.
قوله:(وَيَقْبُحُ بِالْفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي *** وَأَقْبَحُ مِنْهُ شَيْخٌ قَدْ تَفَتَّى)
الفتى: هو من يدرك الأمور ويميز بين الأشياء بخلاف الصبي فهو من لا يميز ولا يدرك في الغالب.
والمعنى أي إذا كان فعل الفتى يعني للتصابي وهو الطيش الملازم له من عدم وضع الشيء في موضعه إذا كان ذلك مذموماً لأنه نقص وتحامق وعدم طريق سوي، فأعظم منه حصول ذلك من شيخ كبير يجعل نفسه كالفتى الصغير فهذا أعظم وأقبح.
(74) وَنَفْسَكَ ذُمَّ لاَ تَذْمُمْ سِوَاهَا *** لِعَيْبٍ فَهْيَ أَجْدَرُ مَنْ ذَمَمْتَا
(75) وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالتَّفْنِيدِ مِنِّي *** وَلَوْ كُنْتَ اللَّبِيبَ لَمَا نَطَقْتَا
قوله:(وَنَفْسَكَ ذُمَّ لاَ تَذْمُمْ سِوَاهَا *** لِعَيْبٍ فَهْيَ أَجْدَرُ مَنْ ذَمَمْتَا)
أي: لا تنشغل بعيوب وأخطاء الناس بل عليك أن تنظر إلى أخطاءك وعيوبك.
روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى:{بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14]، قال:”إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم، غافلاً عن ذنوبه. ومن كان كذلك فقد تمّت خسارته، كما قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس، ناسيا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُـكِـرَ بِهِ” ([31]).
وكم هو قبيح أن ينسى الإنسان عيوب نفسه، وينظر في عيوب إخوانه بمنظار مُكبِّر. وقديماً قيل:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره *** ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه *** ويبدو له العيب الذي لأخيـه
ومن أقوال الإمام الشافعي رحمه الله.
إذا رُمت أن تحيا سليماً من الردى *** ودينك موفور وعِرْضُكَ صَيِنّ
لسانك لا تذكر به عورة امرئ *** فكلك عورات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معايباً *** فدعها وقل يا عين للناس أعين
قوله: (وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالتَّفْنِيدِ مِنِّي *** وَلَوْ كُنْتَ اللَّبِيبَ لَمَا نَطَقْتَا)
أي: أنت أحق بتفاصيل الذنب واللوم مني لأنك أكبر مني سناً ولأنك علمت ما أنا به جاهل، فلو كنت أنت صاحب عقل ما تفوهت بكلمة تلوموني فيها وأنت أحق بذلك مني فاتهم نفسك ولا تتهم غيرك.
(76) وَلَوْ بَكَتِ الدِّمَا عَيْنَاكَ خَوْفاً *** لِذَنْبِكَ لَمْ أَقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَا
(77) وَمَنْ لَكَ بِالأَمَانِ وَأَنْتَ عَبْدٌ *** أُمِرْتَ فَمَا ائْتَمَرْتَ وَلاَ أَطَعْتَا
(78)ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى***لِجَهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذَا وُزِنْتَا
قوله:(وَلَوْ بَكَتِ الدِّمَا عَيْنَاكَ خَوْفاً *** لِذَنْبِكَ لَمْ أَقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَا)
أي: ولو بكيت بكاءً شديداً على ذنوبك وتقصيرك حتى استبدل دمع الماء بدمع الدم خوفاً من هذه الذنوب لم تكن في أمان من هذه الذنوب؛ فالعبرة ليست بالبكاء وإنما العبرة بالإقلاع عن الذنوب والتوبة إلى الله منها.
فالبكاء ليس دليلاً على الاستقامة والصلاح، فلا يغتر الإنسان بالعمل الصالح ولو كان بكاءه دماً.
قوله:(وَمَنْ لَكَ بِالأَمَانِ وَأَنْتَ عَبْدٌ *** أُمِرْتَ فَمَا ائْتَمَرْتَ وَلاَ أَطَعْتَا)
أي: كيف تأمن على نفسك وأنت لا تدري أين مصيرك يوم العرض على الله وقد أمرك الله بطاعته ونهاك عن معصيته؛ فما للطاعة عملت وما للنهي انتهيت، مع أنك عبد والعبد الواجب عليه أن يقوم بخدمة سيده، ومع ذلك جعلت نفسك في أمان من غضب الله وسخطه.
قوله:(ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى*** لِجَهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذَا وُزِنْتَا)
أي: أثقلتك ذنوبك فأقعدتك عن الطاعة وأثقلتها عليك ومع ذلك لا تخشى على نفسك من هذه الذنوب كأنك لم تعص الله مع أن هذه الذنوب لها تأثير عليك في الدنيا والآخرة فمن آثارها على العبد في الدنيا
ما يلي:
1 -حرمان العلم: فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور. ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية.
وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم فضل *** وفضل الله لا يؤتاه عاصي
2 -حرمان الرزق: وفي المسند:(إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) وقد تقدم، وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي.
3 -وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله: لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلاً، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام، فلو لم تترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريًّا بتركها.
4 -الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس: ولاسيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم، وحُرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان، بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم، فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشاً من نفسه.
5 -ظلمة يجدها في قلبه حقيقة: يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، كأعمى أخرج في ظلمة الليل يمشي وحده، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سوادً في الوجه حتى يراه كل أحد.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادً في الوجه، وظلمةً في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق.
6 -أن المعاصي توهن القلب والبدن: أما وهنها للقلب فأمر ظاهر، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية. وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه، وأما الفاجر فإنه -وإن كان قوي البدن -فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه؛ فتأمل قوة أبدان فارس والروم، كيف خانتهم، أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟.
7 -حرمان الطاعة: فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة، ثم رابعة، وهلم جرَّا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خيرٌ له من الدنيا وما عليها.
8 – أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولا بد: فإن البرَّ كما يزيد في العمر، فالفجور يقصر العمر. فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غبَّ إضاعتها يوم يقول:{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 24].
(79) وَتُشْفِقُ لِلْمُصِرِّ عَلَى المَعَاصِي *** وَتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا
قوله:(وَتُشْفِقُ لِلْمُصِرِّ عَلَى المَعَاصِي *** وَتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا)
أي: أراك تشفق على أصحاب المعاصي والذنوب وذلك من باب الرحمة بهم ودعوتهم إلى الخير، لكنك تنسى نفسك مع كونها أولى بالشفقة عليها ورحمتها ونصحها، فكما أنت أشفقت على أصحاب الذنوب أشفق على نفسك، فبادر بالتوبة إلى الله تعالى وأقلع عن الذنوب والمعاصي.
(80) رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى وَخَبَطْتَ عَشْوَا *** لَعَمْرُكَ لَوْ وَصَلْتَ لما رَجَعْتَا
(81) وَلَوْ وَافَيْتَ رَبَّكَ دُونَ ذَنْبٍ *** وَنُوقِشْتَ الْحِسَابَ إِذاً هَلَكْتَا
(82) وَلَمْ يَظْلِمْكَ فِي عَمَلٍ وَلكِنْ *** عَسِيرٌ أَنْ تَقُومَ بِمَا حَمَلْتَا
قوله:(رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى وَخَبَطْتَ عَشْوَا*** لَعَمْرُكَ لَوْ وَصَلْتَ لما رَجَعْتَا)
معنى القهقرى: الرجوع إلى الخلف. يقال فلان يمشي القهقرى أي يرجع على عقبيه.
ومعنى عَشْوَا: ساء بصره ليلاً. ويقال: ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: أي يبصر بها بصراً ضعيفاً.
والمعنى: أنك بعد أن كنت على بصيرةٍ من العلم والتقوى انتكست ورجعت إلى الخلف، وأُصبت بالتخبط في أمورك كما تتخبط الناقة الضعيفة البصر، مع أن الواجب عليك أن تستمر في الطاعة حتى توافيك منيتك؛ فلو متَّ على ذلك لهلكت وما وصلت إلى رضوان الله ورحمته، فبادر بالتوبة قبل حلول الأجل.
قوله:(وَلَوْ وَافَيْتَ رَبَّكَ دُونَ ذَنْبٍ *** وَنُوقِشْتَ الْحِسَابَ إِذاً هَلَكْتَا)
أي: لو لقيت ربك بغير ذنب عملته فأنت في غير مأمن، لأن العبد إذا نوقش الحساب عُذِّبَ. كما في حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ)، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:18]، قَالَتْ: فَقَالَ: (إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ)([32]).
قوله:(وَلَمْ يَظْلِمْكَ فِي عَمَلٍ وَلٰكِنْ *** عَسِيرٌ أَنْ تَقُومَ بِمَا حَمَلْتَا)
أي: لم يظلمك ربك سبحانه وتعالى بأوامره ونواهيه لأنها في قدرتك، فلا تكليف إلا بمقدور، ولكن الأمر الجلل هو أن تفرط في هذه الأمانة التي حملتها فلم تؤديها على الوجه المأمور به شرعاً. فأحرص على أداء هذه الأمانة كما أمرك الله.
(83) وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الْحَشْرِ فَرْداً***وَأَبْصَرْتَ الْمَنَازِلَ فِيهِ شَتَّى
(84) لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لَهْفاً *** عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا
(85) تَفِرُّ مِنْ الْهَجِيرِ وَتَتَّقِيهِ *** فَهَلاَّ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا
قوله:(وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الْحَشْرِ فَرْداً *** وَأَبْصَرْتَ الْمَنَازِلَ فِيهِ شَتَّى
لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لَهْفاً *** عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا)
أي: ولو ترى يوم أن تأت يوم القيامة وحدك لا قريب ولا صديق ولا معين معك، بل بمفردك تحشر، كما قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم: 95]، ففي هذا اليوم يكون الناس فيه على منازل شتى، ففي العرض لهم منازل، وكذلك منازلهم في الجنة، ومنازلهم في النار. كل ذلك على قدر أعمالهم.
وقوله:(لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لَهْفاً *** عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا)
فلو أبصرت ذلك فإنه لن يكون أمامك إلا الندم على تفريطك وضياعك لأوقاتك ولا ينفعك الندم، ولذا قال تعالى عن حال الإنسان يوم القيامة {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 23 – 24].
قوله:(تَفِرُّ مِنْ الْهَجِيرِ وَتَتَّقِيهِ *** فَهَلاَّ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا)
حال الإنسان في الحر أنه يتقيه بكل ما أوتي من قوة ومنعة فيحتمي منها بالمكوث تحت أجهزة التكييف والمرواح ولا يطيق صبراً البعد عنها، فإن لم يجد ما يتقيه منه فإنه يفر منه إلى غيره لأنه يعلم يقيناً أن في الحر هلاكه.
إذا كان الحال كذلك فلماذا لا يأخذ الإنسان بأسباب النجاة من حرِّ الآخرة مع أنه أشد حراً من حرِّ الدنيا، كما أخبر بذلك ربنا بقوله:{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}[التوبة: 81]. أليس من الأولى والأجدر، بل من الواجب أن يأخذ بالأسباب التي تقيه من حرِّ جهنم.
والمعنى: أنك في الدنيا تسعى إلى النجاة من حرها، فاسعى كذلك إلى النجاة من حرِّ الآخرة، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان بالله تعالى والعمل الصالح والتوبة إلى الله تعالى مع الإخلاص فيها.
(86) وَلَسْتَ تُطِيقُ أَهْوَنَهَا عَذَاباً *** وَلَوْ كُنْتَ الْحَدِيدَ بِهَا لَذُبْتَا
(87) وَلاَ تُنْكِرْ فَإِنَّ الأَمْرَ جِدُّ *** وَلَيْسَ كَمَا حَسِبْتَ وَلاَ ظَنَنْتَا
قوله:(وَلَسْتَ تُطِيقُ أَهْوَنَهَا عَذَاباً *** وَلَوْ كُنْتَ الْحَدِيدَ بِهَا لَذُبْتَا)
أي: يا من لا يطيق حرارة الجو؛ ولا يتحمل الوقوف في الشمس ساعة، كيف أنت وحرارة جهنم؟ فإن حرَّها شديد وقعرها بعيد؛ كما جاء في حديث أنس – رضي الله عنه -:(يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ)([33]). ينسى كل نعيم الدنيا بمجرد غمسة واحدة في جهنم مع أنه أنعم أهل الأرض!!.
والمعنى: يا من لا يطيق أهون عذاب أهل النار وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ، تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ، يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ)([34]).
إذا كنت لا تطيق ذلك فلا يمكن أن تطيق هذه النار التي سلطها الله تعالى على الحديد، فهي تذيبه بأمر الله.
فهذا حالها مع الحديد فكيف بك أنت أيها الضعيف فجدد العزم واعمل على فكاك نفسك من هذه النار.
قوله:(وَلاَ تُنْكِرْ فَإِنَّ الأَمْرَ جِدُّ *** وَلَيْسَ كَمَا حَسِبْتَ وَلاَ ظَنَنْتَا)
أي: لا تنكر جميع ما ذكرته لك، فما ذكرته لك جدٌّ ليس بالهزل كما تحسب وتظن، فلابد من أخذه على محمل الجد.
(88) أَبَا بَكْرٍ ” كَشَفْتَ أَقَلَّ عَيْبِي *** وَأَكْثَرَهُ وَمُعْظَمَهُ سَتَرْتَا
(89) فَقُلْ مَا شِئْتَ فِيَّ مِنَ الْمَخَازِي***وَضَاعِفْهَا فَإِنَّكَ قَدْ صَدَقْتَا
(90) وَمَهْمَا عِبْتَنِي فَلِفَرْطِ عِلْمِي *** بِبَاطِنِهِ كَأَنَّكَ قَدْ مَدَحْتَا
قوله:(أَبَا بَكْرٍ ” كَشَفْتَ أَقَلَّ عَيْبِي *** وَأَكْثَرَهُ وَمُعْظَمَهُ سَتَرْتَا)
سبق أن ذكرنا أن أبا بكر المذكور في هذه المنظومة إما أن يكون أبنًا للناظم أو أحد طلابه.
والمعنى أنك بهذه النصائح التي نصحتني بها وذكرك لمعايبي كشفت عيوبي لي، بل الأعظم من ذلك أنك سترت ما هو أعظم وأكثر مما ذكرته، وهذا دليل واضح على تواضع المؤلف وإلا فهو نحسبه والله حسيبه كان على تقوى من الله وورع وزهد، ولكن هو بهذه المنظومة يريد أن يربي المنصوح وأعني به أبا بكر وكذلك القارئ والسامع لهذه المنظومة يربيهم على التواضع وقبول النصح من أي أحد كان.
قوله:(فَقُلْ مَا شِئْتَ فِيَّ مِنَ الْمَخَازِي*** وَضَاعِفْهَا فَإِنَّكَ قَدْ صَدَقْتَا)
أي: تكلم عن عيوبي كما تشاء، بل زد فيها كما تشاء؛ فكل ما ستذكره من عيوبي فأنت صادق فيه.
قوله:(وَمَهْمَا عِبْتَنِي فَلِفَرْطِ عِلْمِي *** بِبَاطِنِهِ كَأَنَّكَ قَدْ مَدَحْتَا)
معنى فلفرط علمي: أي مهما تذكر من هذه العيوب فهي ذنوب باطنة سترها الله عليَّ وذلك لقصر علمي بالبواطن، فأنت بذلك تمدحني لأنها ذنوب أنا لا أعرفها عن نفسي، لكنك ما دمت أظهرتها لي فهي ممدوحة وسأتوب إلى الله منها، وصدق من قال:”رحم الله امرئ أهدى إليَّ عيوبي”.
والذي نستفيده من هذا البيت أن عيب من يستحق العيب مع من ظاهره المدح هو في الحقيقة مدح لكن مع المنصفين ممن يسدون العيوب، فكما أن بعض الذمِّ مدحٌ، فكذلك بعض المدحِ ذمٌ.
(91) فَلاَ تَرْضَ الْمَعَايِبَ فَهُوَ عَارٌ *** عَظِيمٌ يُورِثُ الْمَحْبُوبَ مَقْتَا
(92) وَيَهْوِي بِالْوَجِيهِ مِنَ الثُّرَيَّا *** وَيُبْدِلُهُ مَكَانَ الْفَوْقِ تَحْتَا
(93) كَمَا الطَّاعَاتُ تُبْدِلُكَ الدَّرَارِي *** وَتَجْعَلُكَ الْقَرِيبَ وَإِنْ بَعُدْتَا
قوله:(فَلاَ تَرْضَ الْمَعَايِبَ فَهُوَ عَارٌ *** عَظِيمٌ يُورِثُ الْمَحْبُوبَ مَقْتَا)
والمعنى: احذر هذه المعايب التي ذكرتها لك لأنها تورثك العار في الدنيا، بل تنقلك من درجة القبول والرضى من المحبوب إلى المقت والكره منه، وهذا أمرٌ محسوسٌ وملموس.
فقد كان هناك قومٌ على الرضى والمحبة من الخلق وذلك لتدينهم وحبهم للشريعة وفجأة تغيروا وانتكسوا بعد الهداية فمقتهم الناس وأبغضوهم. فالناظم يحذر ابنه أو تلميذه وكذا القارئ والسامع لهذه المنظومة من هذا المسلك الخطير.
قوله:(وَيَهْوِي بِالْوَجِيهِ مِنَ الثُّرَيَّا *** وَيُبْدِلُهُ مَكَانَ الْفَوْقِ تَحْتَا)
أي: هذه المعايب تهوى بصاحب المنزلة الرفيعة والوجاهة ذو الجاه والقدر عند الناس من الثريا، وهو نجم من النجوم يتميز عن غيره من النجوم بأنه من أوضحها ظهوراً ويتمثل به في العلو والبهاء.
فهذه المعايب ومنها الذنوب والمعاصي تسقط صاحبها من أعين الناس، وقد سبق ذكر بعض آثار المعاصي والذنوب على صاحبها.
قوله:(كَمَا الطَّاعَاتُ تُبْدِلُكَ الدَّرَارِي *** وَتَجْعَلُكَ الْقَرِيبَ وَإِنْ بَعُدْتَا)
أي: شتان بين المعاصي والطاعات، فإذا كانت الذنوب تسقط صاحبها وتجعله ممقوتاً عند الناس فإن الطاعات على العكس من ذلك، فهي أي الطاعات تجعل صاحبها وإن كان لا وجاهة له في أعين الناس في الدراري، وهو المكان العالي الرفيع وتقربه منهم وإن كان بعيداً عنهم.
وهذا أمر محسوس وملموس، فهناك من أهل العلم ممن لهم قبولٌ عند الناس تبعد أوطانهم عنهم لكنهم لهم منزلة رفيعة في قلوب الخلق وقرب من قلوبهم مع تباعد البلدان.
(94) وَتَنْشُرُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا جَمِيلاً*** وَتَلْقَى البِرَّ فِيهَا حَيْثُ شِئْتَا
(95)وَتَمْشِي فِي مَنَاكِبِهَا عَزِيزاً***وَتَجْنِي الْحَمْدَ فِيمَا قَدْ غَرَسْتَا
(96) وَأَنْتَ الآنَ لَمْ تُعْرَفْ بِعَيْبٍ *** وَلاَ دَنَّسْتَ ثَوْبَكَ مُذْ نَشَأْتَا
قوله:(وَتَنْشُرُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا جَمِيلاً *** وَتَلْقَى البِرَّ فِيهَا حَيْثُ شِئْتَا)
أي: هذه الطاعات من ثمراتها أنها تكون سبباً في الثناء الحسن عليك، فلا تذكر إلا بالخير بخلاف من ابتلي بالذنوب فإنه لا يذكر إلا بالسوء بل ربما ينسى.
وكذلك من آثار الطاعة عليك أنك تلقى البر من الله تعالى، وكذلك من الخلق والبر اسمٌ جامعٌ لجميع أنواع الخير من الإحسان والكرم.
قوله:(وَتَمْشِي فِي مَنَاكِبِهَا عَزِيزاً *** وَتَجْنِي الْحَمْدَ فِيمَا قَدْ غَرَسْتَا)
(مَنَاكِبِهَا)، أي: أطرافها وفجاجها ونواحيها. والمعنى ومن ثمرات الطاعات أنك تكون عزيزاً شامخ الرأس حال مشيك في الأرض، ومن تمام هذه العزة أنك ما بذرته في هذه الأرض من الطاعات تحصده حمداً وثناءً عليك من قبل عمارها.
قوله:(وَأَنْتَ الآنَ لَمْ تُعْرَفْ بِعَيْبٍ *** وَلاَ دَنَّسْتَ ثَوْبَكَ مُذْ نَشَأْتَا)
هذا خطاب لكل شاب نشأ على الخير والاستقامة. أي وأنت الآن شاب مستقيم ما عُرف عنك من المعايب شيء، بل ولم تدنس نفسك بمعصية منذ نشأتك، فاحذر كل الحذر أن تأتي بعيبٍ يكون سبباً في تدنيسك وإسقاطك من أعين الناس.
(97) وَلاَ سَابَقْتَ فِي مَيْدَانِ زُورٍ *** وَلاَ أَوْضَعْتَ فِيهِ وَلاَ خَبَبْتَا
(98) فَإِنْ لَمْ تَنْأَ عَنْهُ نَشِبْتَ فِيهِ **** وَمَنْ لَكَ بِالْخَلاَصِ إِذَا نَشِبْتَا
(99) تُدَنِّسُ مَا تَطَهَّرَ مِنْكَ حَتَّى *** كَأَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا طَهُرْتَا
قوله:(وَلاَ سَابَقْتَ فِي مَيْدَانِ زُورٍ *** وَلاَ أَوْضَعْتَ فِيهِ وَلاَ خَبَبْتَا)
ميدان الزور هو كل ما كان خلاف الحق من الأقوال والأفعال كالغيبة والنميمة والغناء وغير ذلك، والمعنى أي ولم يعرف عنك أنك شاركت في هذه الميادين، بل لم يعرف عنك أنك أوضعت فيه شيئاً ولا نافست فيه يسيراً كان ولا كبيراً من المعاصي.
ومعنى (وَلاَ خَبَبْتَا): الأصل في التخبيب التحريش والتحريض بين المحبين، فيعمل على ضرب المحب بحبيبة وذلك من خلال إثارة الفتنة بينهما.
والمعنى: أي لم تحرض أحداً إلى الوقوع في نوادي الزور أو أنك لم تحرش في ذلك، فما دمت كذلك فاشكر الله على هذه النعمة وحافظ عليها ولا تدنسها بشيء يكون فيه هلاكك.
قوله:(فَإِنْ لَمْ تَنْأَ عَنْهُ نَشِبْتَ فِيهِ **** وَمَنْ لَكَ بِالْخَلاَصِ إِذَا نَشِبْتَا)
أي: فإن لم تبتعد عن ميدان الزور وقعت موقعاً لا يمكنك الخلاص منه ومعنى (نَشِبْتَ فِيهِ) النشب؛ يقال: نشب فلان منشب سوءٍ، إذا وقع موقعاً لا يتخلّص منه. ومراد الناظم هو التحذير من الوقوع في ميادين الزور لأنه قد لا يمكنه الخلاص منها.
قوله:(تُدَنِّسُ مَا تَطَهَّرَ مِنْكَ حَتَّى *** كَأَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا طَهُرْتَا)
أي: متى تساهلت من الوقوع في المعايب من الذنوب والمعاصي فإنك بذلك تدنس ما طهرته من حرصك على الاستقامة والتوبة، كأنك لم يحصل منك شيء من التطهير، وهذا عيبٌ وسفهٌ يحصل منك، إذ كيف يكون بمن حاله التطهر والنظافة فإذا به يوسخ ويدنس نفسه، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}[النحل:92].
(100) وَصِرْتَ أَسِيرَ ذَنْبِكَ فِي وَثَاقٍ *** وَكَيْفَ لَكَ الْفِكَاكُ وَقَدْ أُسِرْتَا
(101) فَخِفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُم *** كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ وَالسَّبَنْتَى
قوله:(وَصِرْتَ أَسِيرَ ذَنْبِكَ فِي وَثَاقٍ *** وَكَيْفَ لَكَ الْفِكَاكُ وَقَدْ أُسِرْتَا)
أي: ومن شؤم الوقوع في المعاصي والذنوب أن صاحب ذلك يكون كالأسير الذي رُبط ولم يمكنه الهرب ولا الخلاص ممن أوثقه؛ فهذا حال الإنسان مع الذنوب والمعاصي.
وقد سبق الإشارة إلى بيان آثار الذنوب والمعاصي على الإنسان عند قول الناظم.
(ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى *** لِجَهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذَا وُزِنْتَا).
قوله:(فَخِفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُم *** كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ وَالسَّبَنْتَى): الضراغم: جمع ضرغم، وهو الأسد، والسبنتى: هو النمر.
والمعنى: كن على حذر من مخالطة أهل السوء ورفقاء السوء، فإن من أعظم شقاء المرء أن يجالس أمثال هؤلاء الذين ليس في صحبتهم سوى الحسرة والندامة؛ لأنهم ربما أفسدوا عليه دينه وأخلاقه، حتى يخسر دنياه وآخرته، وذلك هو الخسران المبين.
فليحرص العاقل على مجالسة الأخيار الصالحين، الذين يعينونه على أمر دينه ودنياه؛ وليحذر مجالسة الأشرار من كل نوع وصنف فإنها لا تأتي بخير.
ومن المضار الناشئة من صحبة ومخالطة أهل السوء، ما يأتي:
1 – مخالطة أهل الشر ومجالستهم؛ من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في البدع والمعاصي وانتشارها بين الناس. وروى عبد الرزاق عن الحسن البصري – رحمه الله قال: لا تمكن أذنيك صاحب هوى فيمرض قلبك([35]).
2 -جليس السوء؛ يعدي جليسه بما عنده من السوء، والطبع يسرق من الطبع دون أن يدري صاحبه، وعدوى السيئات أشد سريانًا من عدوى الحسنات؛ فجليس السوء هو الذي يُزيِّن لك المعاصي والمحرَّمات، ويُلْهيك عن ذكر اللَّه تعالى، وعن الطاعات، ويُنّشطك إلى المخالفات بقاله وحاله، ويحثك على ارتكاب المفاسد، بقبيح أفعاله؛ وقلما رأيتَ أحدًا تبدلت حاله من الصلاح إلى السوء إلا وكان وراء ذلك جلساء السوء .
3 – أن في مجالستهم وصحبتهم تَدَنَّسَ المرء، واتهامه بهم، ونسبته إليهم؛ وقديماً قيل: قل لي من صديقك أقل لك من أنت.
قال بعضهم:
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُـلُّ قَـرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْـتَدِي
إذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ *** وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
4 – قال بعض السلف: لا تصاحب صاحب السوء؛ فإنه قطعة من النار، لا يستقيم ودُّه، ولا يفي بعهده.
5 – جليس السوء عامل خطير في هدم الأخلاق والقيم؛ ويتمثل ذلك في أمور منها:
ا – أنه يحدث من يجالسهم عن ممارساته ومغامراته السيئة، بل ربما يفتعل مواقف لم تحصل، مفاخرًا بذلك أقرانه.
ب – أنه يُعلِّم من يجالسه خطوات الفساد وطرقه وأبوابه.
ج – أن مصاحبة المرء لأهل السوء تُضْعِف إيمانه وتُرِق دينه، فيكون أكثر عرضة للوقوع فيما حرم الله تبارك وتعالى.
د – أنه يسخر من أهل الطاعة، بل ربما يسخر في مجلسه بالطاعات نفسها، مما يكون مساهمًا في تركها عند ضعاف الإيمان .
(102) وَخَالِطْهُمْ وَزاَيِلْهُم حِذَاراً***وَكُنْ كَـ “السَّامِرِيِّ ” إِذَا لُمِسْتَا
قوله:(وَخَالِطْهُمْ وَزاَيِلْهُم حِذَاراً *** وَكُنْ كَـ “السَّامِرِيِّ ” إِذَا لُمِسْتَا)
معنى قوله: (وَزاَيِلْهُم حِذَاراً)، أي جانبهم وفارقهم وانفتل عنهم.
وقوله: (وَكُنْ كَـ “السَّامِرِيِّ)، السامري هو رجل من قوم موسى عليه السلام، وكان من خبر ما قصه الله تعالى من القرآن الكريم في سورة طه بقوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه:95-96].
فقد كان من أمر السامري عند خروجهم من البحر وإغراق فرعون وقومه، أنه رأى جبريل عليه السلام على فرسه فأخذ قبضة من أثر حافر فرسه، وسولت له نفسه أنه إذا ألقى هذه القبضة على شيء صار حيًّا فتنةً وامتحاناً. فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل فصار له خوار، فقال لبني إسرائيل هذا إلهكم وإله موسى، -تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً-، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قال للسامري:{فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}، أي: ما شأنك، وما أمرك الذي دعاك إلى ما صنعت؟ قال:{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}، أي: علمت بما لم يعلموا. قال له موسى وما ذاك؟ قال: رأيت جبريل على فرس، فألقى في نفسي أن أقبض من أثرها (أثر الفرس)، فقبضت قبضة، والقبضة الأخذ بجميع الكف أي من تربة موطئ جبريل عليه السلام، فنبذتها: أي قذفتها في العجل أي في صورة العجل المصاغ من الحُلي، وكذلك: وكما حدثتك {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}، أي: زينت وحسَّنت لي نفسي. {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97]، أي: قال موسى عليه السلام اذهب من بيننا. {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ}، أي: ما دمت حيًّا. {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ}، أي: لا أمسُّ ولا أُمسّ، فصار السامري يهيم في البرية لا يمس أحداً، ولا يمسه أحد عاقبه الله بذلك، وألهمه أن يقول: {لا مِسَاسَ}.
وكان إذا لقي أحداً يقول {لا مِسَاسَ}، أي: لا تقربني، ولا تمسني، فكانت عقوبته الطرد، والنفي من المجتمع([36]).
ومعنى البيت أنك متى ابتليت بمخالطة هؤلاء الأشرار فكن على حذر وحاول بقدر ما يمكنك مجانبتهم ومفارقتهم كما كان حال السامري في مخالطة من أراد أن يمسه، واجعل مخالطتك لهم على قدر الحاجة والضرورة وذلك ليسلم لك دينك وعرضك.
(103)وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيْكَ فَقُلْ: سَلاَمٌ***لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ فَعَلْتَا
(104) وَمَنْ لَكَ بِالسَّلاَمَةِ فِي زَمَانٍ *** تَنالُ الْعِصْمَ إِلاَّ إِنْ عُصِمْتَا
قوله:(وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيْكَ فَقُلْ: سَلاَمٌ *** لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ فَعَلْتَا)
أي: وإن كان قد صدر من أهل السوء سفه وجهل منهم عليك فلا تقابل ذلك إلا بالعفو والصفح، فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199]. فلعلك تسلم بذلك.
وامتثل قول الشافعي رحمه الله:
قالوا سكتُّ وقد خوصمتُ قلتُ لهم *** إنَّ الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ
والصمَّتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ ***وفيه أيضاً لصونِ العرضِ إصلاحُ
أما تَرَى الأُسْدَ تُخْشى وهْي صَامِتةٌ؟ *** والكلبُ يخسى لعمري وهو نباحُ
قوله:(وَمَنْ لَكَ بِالسَّلاَمَةِ فِي زَمَانٍ *** تَنالُ الْعِصْمَ إِلاَّ إِنْ عُصِمْتَا)
أي: ومن أين تأتيك السلامة وأنت في زمن قل فيه الخير وكثر فيه الشر، وكثرت فيه الشهوات والشبهاتٍ، وقلة أهل الخير وكثرة أهل الشر فهو زمان لا يعينك على العصمة لفساده وفساد أهله. وهذا في زمانه رحمه الله فكيف لو رأى ما نحن فيه في هذا الزمان فالله المستعان.
فعلى المرء أن يأخذ بجميع الوسائل التي تعصمه في هذا الزمان من الفتن ومن ذلك:
1-الابتعاد عن بيئة الفساد الديني والخلقي؛ فيبتعد عن السكنى في ديار الكفر، وينأى بنفسه عن مخالطة الفسَّاق.
2-تقوية إيمانه؛ بفعل الطاعات الواجبة، وترك المنكرات المحرَّمة، ومن أعظم الطاعات الواجبة: الصلاة، فيحافظ المسلم على إقامتها في أوقاتها، بشروطها، وأركانها، وخشوعها
3-ومنه: الدعاء ومن جوامع الدعاء ما ينفع من أراد حماية دينه من الفتن، قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم} في كل ركعة، ومنه: (اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ…)([37]). وغير ذلك كثير، مما فيه الاستعانة بالله تعالى أن يهدي الداعي للدين القويم، والصراط المستقيم، وأن يثبته عليهما، وأن يدلَّه على خير طريق وأقصره مما يوصله إلى رضوانه تعالى.
4-البُعد عن الرفقة السيئة؛ عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ) ([38]).
5-تعلم العلم الشرعي، والرجوع إلى أهل العلم الثقات.
(105) وَلاَ تَلْبَثْ بِحَيٍّ فِيهِ ضَيْمٌ *** يُمِيتُ الْقَلْبَ إِلاَّ إِنْ كُبِلْتَا
(106) وَغَرِّبْ فَالتَّغَرُّبُ فِيهِ خَيْرٌ *** وَشَرِّقْ إِنْ بِريِقِكَ قَدْ شَرِقْتَا
(107) فَلَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا خُمُولاً*** لأَنْتَ بِهَا الأَمِيرُ إِذَا زَهِدْتَا
قوله:(وَلاَ تَلْبَثْ بِحَيٍّ فِيهِ ضَيْمٌ *** يُمِيتُ الْقَلْبَ إِلاَّ إِنْ كُبِلْتَا)
أي ولا تسكن في بلد أوحي فيه ضيم يعني (ظلم)، فإن الله تعالى قال لأوليائه: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}[هود:113].
وقد جاء في تفسير الركون هو السكنى مع القوم الظالمين، وذلك لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة، ومن أعظمها ما ذكره المؤلف بأن ذلك يميت القلب.
لكن الناظم استثنى هنا بعض أهل الأعذار ممن لا يستطيعون الخلاص من أماكن الظلم كمن يعجز عن ذلك، إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والوالدان وشبههم، كما قال الله تعالى:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}[النساء:98-99].
قوله:(وَغَرِّبْ فَالتَّغَرُّبُ فِيهِ خَيْرٌ *** وَشَرِّقْ إِنْ بِريِقِكَ قَدْ شَرِقْتَا)
أي: ابتعد عن هؤلاء الناس شرقاً وغرباً حتى يسلم لك دينك؛ فالسلامة لا يعدلها شيء، فإن فعلت وصلك الخير.
وقوله (إِنْ بِريِقِكَ قَدْ شَرِقْتَا) شبَّه الجلوس والركون في بلاد الضيم بمن يصاب بشرقة حال شربه للماء فإنه يبحث بما يكون خلاصه منها.
والمعنى ابتعد عن هذه الأماكن ولو إلى آخر رمق في حياتك ليسلم لك دينك وعرضك.
قوله:(فَلَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا خُمُولاً *** لأَنْتَ بِهَا الأَمِيرُ إِذَا زَهِدْتَا)
أي: ليس الزهد في الدنيا هو الدعوة إلى البطالة والضعف والمذلة للخلق، بل هذا عجز وخور.
لكن المراد به الزاهد الحقيقي وهو من أتته الدنيا بخيراتها، ولم تشغله عن ربه ولم تستهواه وتستعبده، بل ملك زمام نفسه واستصغرها في عينه، فهذا هو الأمير إذا زهد فيها. ولهذا قال كثير من السلف: إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس ونحوه.
وقوله (لأَنْتَ بِهَا الأَمِيرُ إِذَا زَهِدْتَا) أي ليست الإمارة بكثرة المال والأخذ بعرض الدنيا الزائل، إنما تكون الإمارة بالقناعة عما في أيدي الناس.
ولذلك قال ابن المبارك رحمه الله: “لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف”.
(108) وَلَوْ فَوْقَ الأَمِيرِ تَكُونُ فِيهَا *** ُسمُّواً وَارْتِفَاعاً كُنْتَ أَنْتَا
(109) فَإِنْ فَارَقْتَهَا وَخَرَجْتَ مِنْهَا***إِلَى “دَارِ السَّلاَمِ” فَقَدْ سَلِمْتَا
(110) وَإِنْ أَكْرَمْتَهَا وَنَظَرْتَ فِيهَا *** لإِكْرَامٍ فَنَفْسَكَ قَدْ أَهَنْتَا
(111)جَمَعْتُ لَكَ النَّصَائِحَ فَامْتَثِلْهَا***حَيَاتَكَ فَهْيَ أَفْضَلُ مَا امْتَثلْتَا
قوله:(وَلَوْ فَوْقَ الأَمِيرِ تَكُونُ فِيهَا *** ُسمُّواً وَارْتِفَاعاً كُنْتَ أَنْتَا)
أي: ينبغي للإنسان العاقل أن يحرص كل الحرص على ما ينفعه في هذه الدنيا من العلم النافع والعمل الصالح، فإذا كان كذلك فسوف يحصل على منزلة رفيعة هي أعلى من منزلة الإمارة وهي الرفعة والسمو في الدنيا والآخرة، فهذا هو الفوز الحقيقي. فليست الإمارة منافسة أهل الدنيا في الدنيا فعن الْحَسَنِ، قَالَ: “إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يُنَافِسُكَ فِي الدُّنْيَا فَنَافِسْهُ فِي الآخِرَةِ”([39]).
قوله:(فَإِنْ فَارَقْتَهَا وَخَرَجْتَ مِنْهَا *** إِلَى “دَارِ السَّلاَمِ”فَقَدْ سَلِمْتَا)
أي: إن فارقت هذه الدنيا بالزهد فيها وخرجت منها سالماً من المعايب والذنوب وأخذت بما أوصيتك ونصحتك به فستكون من أهل الجنة.
قوله:(وَإِنْ أَكْرَمْتَهَا وَنَظَرْتَ فِيهَا *** لإِكْرَامٍ فَنَفْسَكَ قَدْ أَهَنْتَا)
أي: أما إن أكرمت الدنيا وذلك بالركون إليها والنظر إلى ما فيها من النعيم وآثرتها على محبة الله ومحبة نبيه فأنت بذلك قد تسببت بإهانة نفسك في الدنيا والآخرة.
أي: أحرص على الأخذ بهذه النصائح التي ذكرتها من بداية منظومتي إلى أخرها وامتثل في الأخذ بها طول حياتك، فلا تأخذ بها في يوم وتتركها في يوم آخر، بل داوم في الأخذ بها فإنها خير ما تمتثل به.
(112) وَطَوَّلْتُ الْعِتَابَ وَزِدْتُ فِيهِ *** لأَنَّكَ فِي الْبَطَالَةِ قَدْ أَطَلْتَا
(113)وَلاَ يَغْرُرْكَ تَقْصِيرِي وَسَهْوِي***وَخُذْ بِوَصِيَّتِي لَكَ إِنْ رَشَدْتَا
(114)جَمَعْتُ لَكَ النَّصَائِحَ فَامْتَثِلْهَا***حَيَاتَكَ فَهْيَ أَفْضَلُ مَا امْتَثلْتَا
(115) وَقَدْ أَرْدَفْتُهَا تِسْعاً حِسَاناً *** وَكَانَتْ قَبْلَ ذَا مِائَةً وَسِتَّا
قوله:(وَطَوَّلْتُ الْعِتَابَ وَزِدْتُ فِيهِ *** لأَنَّكَ فِي الْبَطَالَةِ قَدْ أَطَلْتَا)
هذا اعتذار وتنبيه من المؤلف؛ والمعنى أني قد أكثرت عليك من النصح في هذه المنظومة لأنني رأيتك لا تهتم بوقتك ولا برأس مالك وهو عمرك الذي منحك الله إياه وأنا أريد لك الخير فلا تلومني بسبب إطالتي في العتاب واللوم.
قوله:(وَلاَ يَغْرُرْكَ تَقْصِيرِي وَسَهْوِي*** وَخُذْ بِوَصِيَّتِي لَكَ إِنْ رَشَدْتَا)
أي: إن كنت في غاية من الرشد وهو من يحسن التصرف في الأمور وهذا من تمام العقل فخذ بهذه الوصايا ولا يغرك تقصيري في حق نفسي وذلك بفعل ما لا يليق، وكذا تقصيري فيما نسيته من نصائح لم أذكرها لك فما ذكرته لك يكفي في إصلاحك وخروجك من الدنيا بمنزلة رفيعة.
قوله:(وَقَدْ أَرْدَفْتُهَا تِسْعاً حِسَاناً *** وَكَانَتْ قَبْلَ ذَا مِائَةً وَسِتَّا)
أي: قد ختمت هذه المنظومة بتسعة أبيات حسنة، وهي قبل ذلك كانت مائة وست فصار مجموع الأبيات مائة وخمسة عشر بيتاً.
(116) وَصَلِّ عَلَى تَمَامِ الرُّسْلِ رَبِّي *** وَعِتْرَتِهِ الْكَرِيمَةِ مَا ذُكِرْتَا
قوله:(وَصَلِّ عَلَى تَمَامِ الرُّسْلِ رَبِّي *** وَعِتْرَتِهِ الْكَرِيمَةِ مَا ذُكِرْتَا)
ختم الناظم منظومته بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عترته وهم من آمن بنبوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم.
وبهذا نكون قد انتهينا من شرح منظومة أبي إسحاق الإلبيريّ رحمه الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
الفهرس
الموضوع |
مقدمة: |
التعريف بالناظم: |
عرض موجز للمنظومة: |
شرح أبيات المنظومة: |
فهرس الموضوعات |
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله عند حديث رقم (6417).
([2]) أنظر: الوابل الصيب لابن القيم، ص٥٩، كما نقله عنه الحافظ ابن رجب في (ذيل طبقات الحنابلة ٢/٤٠٢).
([3]) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/80)، والخطيبُ البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/182 – 183) رقم (176)، والمزي في تهذيب الكمال (24/220). وانظر: تاريخ بغداد (6/379)، الخطيب البغدادي، تاريخ دمشق (14/18) لابن عساكر، تهذيب الكمال (24/220) للمزي، تذكرة الحفاظ (1/ 11) للذهبي، صفة الصفوة (1/329) لابن الجوزي، وكنز العمال (10/477).
([5]) الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ص (13).
([6]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، ص (101).
([7]) أخرجه الترمذي في صفة القيامة، رقم (2417).
([8]) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([9]) رواه مسلم في الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، رقم (1905).
([10]) رواه أحمد (14/169) رقم (8457)، وأبو داود، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله، رقم (3664)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، رقم (252).
([11]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/194).
([12]) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله (2989).
([13]) رواه الطبراني في الكبير برقم (1681)، وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح الجامع برقم (5837).
([14]) قال الحافظ المنذري رواه البزار كما في الترغيب والترهيب (1/74)، وقال الألباني: “صحيح لغيره” كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (130).
([15]) تاريخ الخلفاء لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ص (157).
([16]) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما يتعوذ من الجبن، رقم (2823)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره، رقم (2706).
([17]) أخرجه الترمذي في صفة القيامة، رقم (2417).
([18]) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/61).
([19]) رواه الترمذي في سننه كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، رقم (2573)
([20]) نهج البلاغة؛ الحكمة 478، خصائص الأئمّة عليهم السّلام، 125، تنبيه الخواطر (2/15).
([21]) جامع بيان العلم وفضله، ص (1/ 413).
([22]) رواه الترمذي في كتاب أبواب الزهد، رقم (2377). وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5668).
([23]) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم، ص (225).
([24]) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب (1) رقم (2956).
([25]) رواه مسلم، كتاب الزهد، باب (1) رقم (2958).
([26]) رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة وقوله تعالى:{ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}[الأعراف: 43] رقم (2837).
([27]) رواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل(4/2096)،رقم(2735).
([28]) رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {ويحذركم الله نفسه}، رقم (7405)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، رقم (2675).
([29]) تاريخ دمشق لابن عساكر (40/241)
([30]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/359).
([31]) جامع البيان في تأويل القرآن (24/63).
([32]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، (6536) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب إثبات الحساب، رقم (2876).
([33]) رواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة (2807).
([34]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (6561)، ومسلم في الإيمان باب أهون أهل النار عذابا رقم 213.
([35]) شعب الإيمان للبيهقي، رقم (9013).
([36]) أنظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن السعدي، ص (512).
([37]) رواه أحمد (1/199)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، رقم (1425)، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، رقم (464)، والنسائي، كتاب قيام الليل، باب الدعاء في الوتر، رقم (1745)، وابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، رقم (1178).
([38]) رواه أحمد (2/303، 334)، وأبو داود كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس (5/168)، والترمذي (الزهد، باب الرجل على دين خليله، رقم (2379) وقال:”حسن غريب”.